نحن اليوم نعيش في عالمٍ يتعامل مع الزواج كأنه حدث احتفاليّ أكثر منه مشروعاً إنسانياً. أسماء الفنادق أهم من الأسماء التي سيحملها الأطفال، وعدد صور الخطوبة أهم من عدد المواقف التي سيحمل فيها الزوج والزوجة بعضهما البعض عندما يضيق الطريق. في وسط هذا الضجيج، تبرز قصة هادئة، لكنها حاسمة...
هناك لحظات في التاريخ لا تحتاج إلى جيوشٍ ولا إلى معارك كي تثبت حضورها؛ يكفي فيها قرار واحد، صادق ونظيف، ليغير مجرى بيتٍ صغير… ثم مجرى أجيالٍ كاملة. والحديث هنا ليس عن حكمٍ سياسي ولا عن صفقةٍ اقتصادية، بل عن أمرٍ يبدو بسيطاً في ظاهره: اختيار شريك الحياة. ذلك القرار الذي يتخذ في غرفٍ ضيقة، لكنه يسمع صداه في دهاليز الزمن.
نحن اليوم نعيش في عالمٍ يتعامل مع الزواج كأنه حدث احتفاليّ أكثر منه مشروعاً إنسانياً. أسماء الفنادق أهم من الأسماء التي سيحملها الأطفال، وعدد صور الخطوبة أهم من عدد المواقف التي سيحمل فيها الزوج والزوجة بعضهما البعض عندما يضيق الطريق. في وسط هذا الضجيج، تبرز قصة هادئة، لكنها حاسمة: قصة الإمام عليّ (عليه السلام) حين اختار السيّدة فاطمة بنت حزام، أمّ البنين (عليها السلام)، شريكةً جديدة بعد رحيل السيّدة الزهراء (عليها السلام).
هذه اللحظة ليست مجرد واقعة تاريخية تروى في الدروس الدينية؛ إنها درس بالغ العمق حول طبيعة الإنسان حين ينظر إلى الزواج بوصفه مسؤوليةً لا رغبة، ورسالةً لا مرحلة.
الإمام عليّ لم يبحث عن بيتٍ كبيرٍ يوسع نفوذه، ولا عن نسبٍ يعلو فوق نسبه، فهو في غنى عن ذلك كله. ولكنه بحث عن شيء لا يظهر في بطاقات الأعراس ولا يكتب في عقود الزواج: قلب قادٌ على حمل الأمانة. امرأة تدخل البيت لا لتكون بديلاً عن الزهراء (عليها السلام)، بل لتكون سنداً لأبنائها، ويداً حانية تداوي جروح اليتم من دون أن تحدث جرحاً جديداً.
ومن هنا يبدأ سحر القصة. فالسيدة فاطمة بنت حزام لم تدخل البيت العلوي بعقلية "الزوجة الجديدة" التي تحاول أن تثبت حضورها، بل بعقلية الأمّ التي تخفف من أحمال بيتٍ مكلوم. طلبت أن تدعى بـ"أمّ البنين" حتى لا تهتز قلوب أبناء الزهراء حين يسمعون اسم "فاطمة". لفتة تبدو بسيطة، لكنها ليست كذلك؛ إنها إعلان نبلٍ وإنسانية، وفهم لمكانٍ لا يملأ بالقوة بل بالمحبة.
في زمنٍ أصبح فيه الكثير يفتش عن شريك يلائم مظهره الاجتماعي، نرى هذه المرأة تتخلى حتى عن اسمها كي تلائم جراح أطفال لا تربطها بهم رابطة الدم. أي دروسٍ في الإيثار تريد أجيالنا أكثر من هذا؟
ومع الزمن، أثمرت تلك الروح عائلةً تعد اليوم رمزاً للثبات والوفاء. فمن بيتٍ واحد خرج العباس وإخوته (عليهم السلام)، رجال لم تسقط شجاعتهم في ساحة المعركة قبل أن تتجذر في ساحة التربية. التاريخ قد يلمع بسيوفهم، لكن أصل القصة يبدأ من غرفةٍ هادئة، من أمّ حملت أبناءها وبذرت فيهم الولاء قبل أن يحملوا السيوف.
هنا يكمن الدرس الذي نحتاجه: أن الزوجة الصالحة، والرجل الصالح معها، لا يصنعان بيتاً فقط، بل يزرعان بشراً قادرين على أن يكونوا حجارةً ثابتة في جدار الأمة. نقرأ سير الأبطال، وننسى أن كل بطلٍ كان طفلاً، وأن وراءه عيناً ساهرة ويداً تربت على كتفه حين تعثر. أمّ البنين لم تصنع رجالاً عاديين؛ صنعت رجالاً أصبحوا معياراً للوفاء، حتى بات اسم العباس (عليه السلام) يذكر في لحظات العجز بحثاً عن قوةٍ لا تقهر.
وربما ما يجعل هذه القصة أكثر إلحاحاً اليوم هو أننا، رغم كل التطور، ما زلنا نخطئ في تعريف الزواج. نراه علاقةً عاطفية، أو شراكةً مالية، أو خطوةً اجتماعية، بينما هو في الحقيقة مشروع بناء إنسان. زواج يبنى على المظهر سيهتز عند أول عاصفة، أما زواج يبنى على حسن الاختيار فسيبقى حتى لو تبدلت الظروف وذبلت الأعمار.
حين نضع هذه القصة أمام مرآة الواقع، نفهم أننا نحتاج إلى شجاعةٍ من نوعٍ آخر؛ شجاعةٍ في اختيار من يشبه قلوبنا، ومن يكمل نقصنا، ومن يمكن أن يبني معنا، لا أن يبني فوقنا أو على حسابنا. نحتاج إلى أن نعيد للبيوت هيبتها، وللقلوب دورها، وللمحبة معناها الهادئ الذي يصنع رجالاً ونساءً يحملون نورهم إلى أبنائهم.
قصة الإمام عليّ وأمّ البنين (عليهما السلام) ليست حكاية للتبرك فقط، بل خريطة طريق: أن الاختيار الحكيم قد يصنع تاريخاً، وأن بيتاً صغيراً يمكن أن يكون مصنعاً للبطولة إذا سكنته قلوبٌ تعرف معنى التضحية.
التاريخ لا يكتبه الأقوياء وحدهم؛ كثيراً ما يكتبه الصالحون… أولئك الذين لا تسمع أصواتهم، لكن ترى آثارهم في كل جيلٍ ينهض على أكتاف محبتهم.



اضف تعليق