العدل؛ هو بديهة قيمومة وقيام الكون والتكوين للكائنات.
ونحن وكل الكائنات انما قائمون بالعدل جبلة وسيرة، فهو نظام كوننا وكينونتنا؛ نعيش العدل ونتنفسه فلا نستشعره لبداهته مثلما لا نستشعر وجود الضغط الجوي على اجسامنا بالأطنان قوة، وكما لا نستشعر وجود الجاذبية الكونية على اجسامنا وتكلفنا مئات النيوتنات في كل لحظة، وذلك ما دام لم يخترق نظام الكون هذا، فإذا اخترق وحيثما يتم الاختراق يحصل الظلم ويجأر المظلوم حتى وان كان ظالما.
ويأت التعريف العلمي المعجز للعدل من القرآن الكريم من لدن العليم الخبير الحكيم الصانع؛ فان تعريف العدل في القرآن اعتمد الضد البديهي للتعريف به؛ وهكذا فان جميع البديهيات الكونية (أي السنن الكونية التي تحكم الوجود وتنفذ فيه وتهيمن عليه) لا تعرّف الا بضدها.
فالعدل هو عدم الظلم (أي عدم اختراق بدهية الكون القائم بها والساري بموجبها. وقد عرف العدل بقوله تعالى: (وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا قَالَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي قَالَ لَا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ)(1).
ولذا فان الظلم معنى جامع لكل القبائح ولكل الخروقات للبديهيات الكونية، لان تلك الخروقات تتجسد في الفعاليات المعاكسة للنسق الكوني القائم بالحق والساري بالعدل.
وقد بيّن الله تعالى لنا في كتابه العزيز ان الحق معرفة لثوابت الصدق في واقع الكون والتكوين، وان العدل هو الفعل القائم وفقا للحق، او فعل اعادة الحق الى نصابه اذا زل عنه.
فقال تعالى: {وَمِنْ قَوْمِ مُوسَى أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ} (2)، وقال تعالى في ذات المعنى: {وَمِمَّنْ خَلَقْنَا أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ} (3)
فالحق –كما يقرر القرآن- معرفة وعلم والعدل عمل بتلك المعرفة، وعرف العمل بالحق بانه هداية، فمن لا يعرف الحق لا يمكن ان يكون عادلا.
ولهذه الحقيقة يشير الامام علي عليه السلام بقوله الحق لا يعرف بالرجال:
قال عليه السلام: (إن الحق والباطل لا يعرفان بالناس، ولكن اعرف الحق بإتباع من اتبعه) (4).
وقال عليه السلام: (لا يعرف الحق بالرجال اعرف الحق تعرف أهله)(5).
وقال عليه السلام: (يا حارث! إنّه ملبوس عليك، وإنّ الحقّ والباطل لا يعرفان بالناس، ولكن اعرف الحقّ تعرفْ أهله، واعرف الباطل تعرفْ من أتاه) (6)..
ولذا فإن معرفة الحق هي اساس كل معرفة نافعة وعلم نافع. قال النبي (ص): انما العلم ثلاثة: آية محكمة، أو فريضة عادلة، أو سنة قائمة وما خلاهن فهو فضل (7).
فالآية المحكمة حق قائم، والفريضة طاعة لنظام كوني قائم ايضا، والسنة حق مفروض على التكوين وملزم للكائن، والعلم بالثلاثة معرفة بالحق الذي تتحقق به الهداية، وتقوم به الدعوة للهدى، وبسط العدل اساس لكل خير انزله الله تعالى.
عن ضريس الكناسي قال: كنت عند أبي عبد الله عليه السلام وعنده ابو بصير فقال أبو عبد الله عليه السلام: إن داود عليه السلام ورث علم الانبياء، وإن سليمان عليه السلام ورث داود عليه السلام، وإن محمدا صلى الله عليه وآله ورث سليمان عليه السلام (8) وإنا ورثنا محمدا صلى الله عليه وآله، وإن عندنا صحف إبراهيم، وألواح موسى، فقال أبو بصير: إن هذا لهو العلم، فقال: يا ابا محمد ليس هذا هو العلم (9)، إنما العلم ما يحدث بالليل والنهار يوما بيوم وساعة بساعة (10). وعن أيوب بن نوح، ومحمد بن عيسى، عن صفوان مثله (11).
بمعنى ان العلم يتجدد مع تجدد الزمكان فيحصل العلم بعد العلم.
((عن منصور بن حازم قال: سمعت أبا عبد الله (عليه السلام) يقول: إن عندنا صحيفة فيه أرش الخدش، قال: قلت: هذا هو العلم، قال: إن هذا ليس بالعلم إنما هو اثره، إنما العلم الذي يحدث في كل يوم وليلة عن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وعن علي بن أبي طالب (عليه السلام)(12).
وعن أحمد بن محمد عن علي بن الحكم عن سيف بن عميرة عن أبي الصباح قال: حدثني العلا بن سيابة عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: إنا لنعلم ما في الليل والنهار(13))(14).
فاذن هم عليهم السلام يعلمون الآية المحكمة وهي تبيان لكل شيء، ويعلمون الفريضة العادلة التي تقضي باستجابة الكائنات لنظم كينونتها، ويعلمون السنن القائمة السارية الى حيث يشاء الله تعالى.
فهم يحتوون على العلم النافع ومعهم ما يمكنهم من معرفة ما يأتي به الليل والنهار؛ بمعنى انهم في محض السريان ويعلمون الى اين تتجه الاحداث الا ما شاء الله وما اختص الله به لنفسه.
العلم يبدأ بالتعريفات
(النهج القرآني في التعريف).
من خلال هذه المقدمة فقد اصبح لدينا نهجا علميا قرآنيا علويا في التعريف: وهو لكي يصدق تعريف الشيء ويكتمل، لابد ان يعتمد على البديهيات الكونية في تعريفه. كيف؟
البديهيات الكونية هي سنن حاكمة لا يفلت من حاكميتها او هيمنتها كائن على الاطلاق. فهي مستطيلة نافذة في الوجود والموجودات تمثل قوائم عرش الله تعالى في الكون وليس لأحد ان ينكرها على الاطلاق، لان انكارها يعني انكار الوجود ذاته.
ان السنن الكونية هذه هي ثوابت معرفة حاكمة ومستطيلة في الوجود لا يسع لمنكر ان ينكرها، وإلا فليهرب من ينكر البديهيات من الموت باعتباره سنة كونية مستطيلة مهيمنة على كل الكائنات، او ليدفع عن نفسه البلاء اذا جاءه. او ليعيش في الفوضى والضياع اذا انكر الاستجابة لنظام وجوده!
نعم لنرى ممن ينكر البديهيات الحاكمة او السنن الكونية؛ كيف يوقف الزمان عن السريان او ليعود به الى الوراء؟! ولنرى من المنكرين؛ كيف يخرج من المكان؟! وكيف يزوغ من السريان؟! وليجد المنكر للبديهيات لنفسه وجودا دون رحمة، هل يستطيع ان يعيش لحظة واحدة دون رحمة؟ وليفرض على وجوده اللاطاعة فيوقف قلبه ان يخفق، ورئته ان تضرب ودمه عن ان يدور؟ّ. وليخرج من الجاذبية الكونية ان شاء!
اذن؛ لا سبيل مطلقا لإنكار البديهيات الكونية الحاكمة، كما لا سبيل الى استشعارها بالحواس الخمسة، لماذا لأنها قوائم عرش الله القائمة السارية في الكون. فهي واضحة جلية بديهية، ولكنها لا تتجلى للحواس. وعلى هذا يصدق تعريف البديهيات الكونية ذاتها وتتشخص بأضدادها.
فلا تجد تعريفا للبديهيات الكونية بكلمات اوضح منها (السنن الكونية)، مثلا:
ما هو الموت؟ وما هو الحق؟ وما هو العدل، وما هو البلاء، وما هو الزمان، وما هو المكان؟....الخ
ومن اجل التذكير فالبديهيات النافذة الحاكمة المستطيلة المهيمنة في الكون والكائنات قائمة في كل نفس، قال الله تعالى: (أَفَمَنْ هُوَ قَائِمٌ عَلَى كُلِّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ وَجَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكَاءَ قُلْ سَمُّوهُمْ أَمْ تُنَبِّئُونَهُ بِمَا لَا يَعْلَمُ فِي الْأَرْضِ أَمْ بِظَاهِرٍ مِنَ الْقَوْلِ بَلْ زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مَكْرُهُمْ وَصُدُّوا عَنِ السَّبِيلِ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ)(الرعد -33).
ولذا لا يستطيع أي كائن ان يفلت من قوائم عرش الله على الاطلاق وهي:
1- بديهية الحق والعدل:
والحق؛ ضد الباطل، والباطل جاء محكما من باب تسمية الشيء باسم لازمه. ولذا فالحق هو ثوابت الصدق في واقع الوجود الذي نجده في النسب بين المعاني او بين المعاني والعلل والعدل؛ ضد الظلم، والظلم صفة جامعة لكل القبائح. لماذا لأن الظلم يتحقق عند أي فعل يخترق البديهيات الكونية.
قال الله تعالى: {ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ هُوَ الْبَاطِلُ وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ} (15)
2- بديهية الطاعة: تعرف بضدها للمعصية، ولذا فهي استجابة الموجود لنظام وجوده: قال تعالى: (تسبح له السماوات السبع والارض ومن فيهن وان من شيء الا يسبح بحمده ولكن لا تفقهون تسبيحهم انه كان حليما غفورا (16)
3- بدهية الرحمة: تعرف بضدها للقسوة والتنافر.
واذا جاءك الذين يؤمنون بآياتنا فقل سلام عليكم كتب ربكم على نفسه الرحمة انه من عمل منكم سوءا بجهالة ثم تاب من بعده واصلح فانه غفور رحيم (17).
4- الوحدانية: ضدها الاشراك فهي: (نفي الشرك عن الله).
{قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (*) لَا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ (*) قُلْ أَغَيْرَ اللَّهِ أَبْغِي رَبًّا وَهُوَ رَبُّ كُلِّ شَيْءٍ وَلَا تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ إِلَّا عَلَيْهَا وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى ثُمَّ إِلَى رَبِّكُمْ مَرْجِعُكُمْ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ} (18)
5- البلاء؛ ضده الوفاق؛ ولذا فهو التعارض في الانماط والسنن الكونية.
(كل نفس ذائقة الموت ونبلوكم بالشر والخير فتنة والينا ترجعون)(19)
6- الامامة: ضد التمزق، ولذا فهي ميزة الكمال في وجود الكائن.
{يَوْمَ نَدْعُو كُلَّ أُنَاسٍ بِإِمَامِهِمْ فَمَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ فَأُولَئِكَ يَقْرَءُونَ كِتَابَهُمْ وَلَا يُظْلَمُونَ فَتِيلًا (71) وَمَنْ كَانَ فِي هَذِهِ أَعْمَى فَهُوَ فِي الْآخِرَةِ أَعْمَى وَأَضَلُّ سَبِيلًا} (20)
7- الموت: ضد الحياة، ولا يمكن ان يصدق تعريف غير هذا.
(كل نفس ذائقة الموت ونبلوكم بالشر والخير فتنة والينا ترجعون)(21)
8- السريان (تغير الزمكان). ضد السكون.
{أَلَمْ تَرَ إِلَى رَبِّكَ كَيْفَ مَدَّ الظِّلَّ وَلَوْ شَاءَ لَجَعَلَهُ سَاكِنًا ثُمَّ جَعَلْنَا الشَّمْسَ عَلَيْهِ دَلِيلًا (*) ثُمَّ قَبَضْنَاهُ إِلَيْنَا قَبْضًا يَسِيرًا} (22).
الخلاصة؛ تحدد الحق في الكون وعرف بديهيا باستطالة قوائم عرش الله في الكائنات وبرز العدل بقيام واستمرار الكون والكائنات وفقا للحق فالله تعالى هو الحق ومنه الحق ويحق الحق فيظهر العدل ولا شيء غير هذا. قال تعالى: {وَيُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُحِقَّ الْحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ وَيَقْطَعَ دَابِرَ الْكَافِرِينَ (*) لِيُحِقَّ الْحَقَّ وَيُبْطِلَ الْبَاطِلَ وَلَوْ كَرِهَ الْمُجْرِمُونَ} (23)
تعريفات قرآنية:
لاحظ ارتباط البيان والتشخيص والتعريف بالله تعالى وبما امر وبما يرضى: على سبيل المثال.
تعريف المؤمنون:
اولا- {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (2) الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ (3) أُولَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا لَهُمْ دَرَجَاتٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَمَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ} (24)
ثانيا- {وَالَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ آوَوْا وَنَصَرُوا أُولَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ } (25)
ثالثا- {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِذَا كَانُوا مَعَهُ عَلَى أَمْرٍ جَامِعٍ لَمْ يَذْهَبُوا حَتَّى يَسْتَأْذِنُوهُ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَأْذِنُونَكَ أُولَئِكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ فَإِذَا اسْتَأْذَنُوكَ لِبَعْضِ شَأْنِهِمْ فَأْذَنْ لِمَنْ شِئْتَ مِنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمُ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} (26)
رابعا- {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ} (27)
اضف تعليق