الحربي لا تبحث عن الإجابة في التقارير أو الهياكل، بل في العقل التنظيمي ذاته، في طريقة تفكيره، وفي قدرته على تحويل المعرفة إلى فعلٍ استباقي يُبقي المنظمة حيّة في عالمٍ يتبدّل كل لحظة. إنها رحلة داخل عقل متّخذ القرار، حيث تتحوّل المرونة من ردّ فعلٍ إلى وعيٍ متقد، ومن قدرة إدارية إلى مهارة معرفية...

لا تبدأ المرونة من هيكلٍ تنظيمي ولا من قرارٍ إداري، بل من عقلٍ يجرؤ على إعادة التفكير. هناك، في مساحةٍ خفيّة بين المعرفة والحدس، تتكوّن البذرة الأولى للأداء المستدام. بهذه الرؤية تنطلق الباحثة زينب ثائر توفيق الحربي في دراستها “تأثير المرونة الاستراتيجية في الأداء الاستراتيجي المستدام – مدخل معرفي”، لتضعنا أمام سؤالٍ جوهري: كيف تصمد المنظمات حين تتحوّل البيئة إلى موجٍ متلاطم من التغيرات؟

الحربي لا تبحث عن الإجابة في التقارير أو الهياكل، بل في العقل التنظيمي ذاته، في طريقة تفكيره، وفي قدرته على تحويل المعرفة إلى فعلٍ استباقي يُبقي المنظمة حيّة في عالمٍ يتبدّل كل لحظة. إنها رحلة داخل عقل متّخذ القرار، حيث تتحوّل المرونة من ردّ فعلٍ إلى وعيٍ متقد، ومن قدرة إدارية إلى مهارة معرفية تصنع المستقبل قبل أن يصل.

 بدايةً، كيف يمكن تفسير العلاقة بين المرونة الاستراتيجية والمعرفة التنظيمية في ظل التغيرات البيئية المتسارعة؟

إن نقطة البداية لمناقشة العلاقة بين المرونة الاستراتيجية والمعرفة التنظيمية تنبع بالأصل من الفكرة التي تقول ان الافكار الإبداعية تتطلب قدر كبير من الطاقة والعاطفة والموارد المعرفية، فالإبداع يتطلب تفكير مرن ومثابره، وفي ظل البيئة الديناميكية التي تتسم بعدم اليقين والتغير المستمر في التكنولوجيا والأسواق، تصبح المرونة الاستراتيجية أحد العوامل الحاسمة لبقاء المنظمة وقدرتها على تحقيق أداء استراتيجي مستدام. غير أن هذه المرونة لا تُمارس في فراغ، بل تعتمد بدرجة كبيرة على المعرفة التنظيمية (التي تمثل مخزون المنظمة من الخبرات، والمهارات، والرؤى المتراكمة للعاملين بها والتي تتيح لها التعرف المبكر على التغيرات في البيئة الخارجية)، وبالتالي فهي المورد المعرفي الذي يمكّن المنظمة من التكيف والاستجابة بفعالية. فعندما تكون المنظمة قادرة على توليد المعرفة الجديدة وتبادلها بسرعة داخل أجزائها، فإنها تخلق قاعدة معرفية مرنة تساعدها على إعادة صياغة استراتيجياتها بما يتناسب مع المستجدات. كذلك تعمل البيئة المتغيرة كعامل ضغط ومحفّز في ظل التغيرات البيئية المتسارعة (التكنولوجية، الاقتصادية، والسياسية)، تصبح العلاقة بين المرونة والمعرفة أكثر تفاعلية وأقل استقرارًا. أي ان المعرفة التنظيمية تعمل كآلية دعم للمرونة الاستراتيجية، لأنها توفر للمديرين المعلومات والرؤى اللازمة لاتخاذ قرارات استباقية وابتكارية. فكلما زادت قدرة المنظمة على توليد وتوظيف المعرفة التنظيمية، زادت قدرتها على ممارسة مرونة استراتيجية تمكّنها من التكيف المستدام مع التغيرات البيئية. فالمعرفة التنظيمية تمثل البنية التحتية للمرونة الاستراتيجية، بينما المرونة الاستراتيجية تمثل المخرج التطبيقي للمعرفة التنظيمية.

 برأيكِ، إلى أي مدى يمكن اعتبار المرونة الاستراتيجية مهارة عقلية فردية قبل أن تكون قدرة تنظيمية؟

إن المرونة الاستراتيجية في جوهرها مهارة عقلية وفكرية فردية ترتكز على الوعي و التفكير النقدي قبل أن تكون قدرة تنظيمية، فهي تنطلق من عقل القائد أو المدير الذي يمتلك قدرة عالية على التعلّم والتفكير النقدي والاستشراف المستقبلي وتميّزه بقابلية إعادة صياغة الفرضيات واتخاذ قرارات مرنة في ظل بيئة تتسم بعدم اليقين. ومع ذلك، فإن هذه المهارة الفردية لا تحقق أثرها الاستراتيجي إلا إذا تحوّلت إلى قدرة تنظيمية جماعية من خلال تبنّي ثقافة تنظيمية داعمة للتغيير، وهياكل مرنة، وآليات تعلم تنظيمي تتيح نقل المعرفة من مستوى الأفراد إلى مستوى المنظمة ككل. وبالتالي فإن المرونة الاستراتيجية تبدأ كمهارة عقلية فردية لكنها تبلغ نضجها وفاعليتها عندما تُترجم إلى قدرة تنظيمية مستدامة تعزز الأداء الاستراتيجي للمنظمة.

 ما الذي يميز المدخل المعرفي في دراسة المرونة الاستراتيجية عن المداخل التقليدية الأخرى (مثل السلوكي أو الهيكلي)؟

لقد كتب الكثير عن تزايد اللاتأكد البيئي والذي يجب على المنظمة التعامل معه وعن المرونة الاستراتيجية في المداخل الأخرى، لكن لم يتم تناول موضوع المرونة الاستراتيجية على مستوى الفرد متخذ القرار الذي يعد الاصل في المرونة الاستراتيجية، فالمدخل المعرفي ينظر إلى المرونة الاستراتيجية بوصفها نتاجًا للعمليات الذهنية والإدراكية والمعرفية داخل المنظمة، أي أنها ترتبط بكيفية تفكير القادة وطريقة معالجة المعلومات وآليات التعلم التنظيمي التي تمكن المنظمة من التكيف والتجديد في بيئة متغيرة. لقد كان التركيز الأساسي للمدخل السلوكي على سلوك الأفراد واستجاباتهم للتغير، فطبيعة المرونة هنا هي استجابة سلوكية للتغير، في حين كان التركيز الاساسي للمدخل الهيكلي على الهيكل التنظيمي وتوزيع السلطات والموارد، فالمرونة هي استجابة تنظيمية هيكلية. اما المدخل المعرفي فهو يركز على العقل التنظيمي وكيفية توليد واستخدام المعرفة فالمرونة هنا هي استجابة معرفية – فكرية استباقية. وهذا يعني ان المداخل الاخرى كانت ترى المرونة بانها التكيف بعد وقوع التغير، بينما ينظر المدخل المعرفي الى المرونة باعتبارها قدرة استباقية على استشعار التغير وتفسيره قبل حدوثه، لذلك فهو يعزز المرونة الذهنية ويحوّل التعلم والخبرة إلى ميزة استراتيجية مستدامة. 

هل يمكن القول إنَّ المرونة الاستراتيجية أصبحت ضرورة وجودية للمنظمات وليس مجرد ميزة تنافسية؟ ولماذا؟

نعم، فالعالم اليوم يشهد الكثير من التغيرات والتعقيدات البيئية في جميع الميادين السياسية والاجتماعية والتكنولوجية والاقتصادية والمعرفية وان هذه التغيرات ان لم يواكبها تغيير في مجال عمل الشركات العراقية فهذا سيؤدي الى توسيع الفجوة العميقة اساسا بين هذه الشركات والشركات العامة في الاسواق العالمية الامر الذي سيجعل ميزان القوه يميل باتجاه تلك الشركات على حساب الشركات العراقية ولكي تستطيع المنظمات مواجهه هذه التحديات والبقاء يجب ان تكون قادره على التغيير او التأقلم وهذا يعني انه يجب ان تتمتع بالمرونة الاستراتيجية اللازمة، فمن الصعب على منظمات الاعمال ان تبقى وتستمر في اعمالها دون اجراء تغييرات تناسب والبيئة المحيطة بالاعتماد على العناصر الاكثر اهميه ومنها العنصر البشري والبحث عن استراتيجيات واساليب جديدة.

 في رأيكِ، ما الدور الذي تؤدي النماذج المعرفية العقلانية في تحسين جودة القرار الاستراتيجي داخل المنظمة؟

إن طريقة التفكير تعتمد على محاولات صانعي القرار للتقليل من التعقيد وتسويفه في محاولة منهم لفهم البيئة، وان النماذج المعرفية العقلانية جميعها (النموذج التصحيحي العقلاني، النموذج الاستباقي العقلاني، النموذج الاستثماري العقلاني والنموذج الوقائي) تؤكد على قدرة العقل البشري على استقبال المعلومات وترتيبها وتنظيمها والقيام بعملية التفسير والتخطيط لها. اذ إنّ المخططات المعرفية التي تعد تمثيلات مخزنة داخليًا للمحفزات أو الأفكار أو الخبرات تتحكم في أنظمة معالجة المعلومات، وبالتالي فعندما يتم تنشيط المخطط يتم اشتقاق المعنى المقابل من الاعتقاد، وبالتفاعل مع الأنظمة المعرفية والعاطفية والتحفيزية والسلوكية الأخرى، يتم اتخاذ القرار الأفضل.

 ما أبرز المظاهر العملية لغياب التوجه الاستباقي في إدارة الشركة كما أظهرت نتائج الدراسة؟

يُعد غياب التوجه الاستباقي من أبرز مظاهر القصور الإداري التي تحدّ من قدرة الشركات على التكيف مع بيئتها الديناميكية. فعندما تفتقر الإدارة إلى الرؤية المستقبلية والاستشراف المبكر للتغيرات، تصبح قراراتها ذات طابع تفاعلي، يقتصر على معالجة المشكلات الآنية دون بناء بدائل استراتيجية للمستقبل. ويتجلى هذا الغياب في مظاهر عملية متعددة، أبرزها ضعف الرصد البيئي، والاعتماد على قرارات قصيرة المدى، وجمود الهياكل التنظيمية، وغياب ثقافة التعلم والابتكار، فضلاً عن تأخر الاستجابة للأزمات. وتنعكس هذه المظاهر في نهاية المطاف في انخفاض مستوى المرونة الاستراتيجية وتراجع الأداء المستدام للشركة.

هل تعتقدين أن الثقافة التنظيمية في الشركة تشجع على التفكير المرن والاستباقي أم تميل إلى النمط التقليدي الدفاعي؟

الثقافة التنظيمية في الشركة تميل إلى النمط التقليدي الدفاعي أكثر من الاستباقي المرن، فالتفكير السائد يركّز على معالجة المشكلات بعد وقوعها، اذ لا توجد بيئة تنظيمية تحفّز المبادرة أو التفكير الإبداعي المسبق.

فالقرارات غالبًا تُتخذ بشكل هرمي وبطيء، مما يقلل من فرص التكيف السريع مع التغيرات البيئية. 

واستنادًا إلى نتائج الدراسة، يعتمد قادة الشركة على ردود الفعل والإجراءات التصحيحية بعد وقوع المشكلات، بدلاً من تبني سلوك استباقي قائم على التنبؤ بالتغيرات البيئية، وهذا يشير إلى ضعف في ترسيخ ثقافة تنظيمية تشجع على الإبداع والتعلم التنظيمي، وهما من متطلبات المرونة الاستراتيجية المستدامة. 

كيف يمكن إعادة بناء القدرات المعرفية لمتخذي القرار داخل الشركة بما يعزز من قدرتهم على التنبؤ بالتغيرات البيئية؟

إن بناء القدرات المعرفية لمتخذي القرار داخل الشركة تمثل خطوة جوهرية نحو تعزيز قدرتهم على التنبؤ بالتغيرات البيئية والتكيف مع متطلبات البيئة التنافسية. ويتحقق ذلك من خلال تبني مقاربة معرفية متكاملة تشمل تطوير المهارات الفكرية والذهنية للقادة، إلى جانب بناء بنية تحتية معرفية تدعم عملية اتخاذ القرار، اذ ينبغي على الشركة أن تبدأ بتشخيص الفجوات المعرفية الحالية لدى متخذي القرار، وتحديد جوانب القصور في تحليل المعلومات البيئية واتخاذ القرار في ظل حالات عدم اليقين. ثم العمل على تطوير قاعدة معرفية تنظيمية تستند إلى أنظمة معلومات استراتيجية، وأدوات ذكاء تنافسي، وآليات لتبادل المعرفة بين الإدارات المختلفة.

كذلك من خلال تصميم برامج تدريبية تركز على تنمية التفكير الاستراتيجي، والتحليل التنبؤي والتعلم التأملي بما يعزز من قدرة القادة على قراءة الإشارات المبكرة للتغيير. إلى جانب ذلك، يجب ترسيخ ثقافة تنظيمية معرفية تقوم على الانفتاح والتعلم المستمر والمساءلة الإبداعية، وتشجع على الحوار وتبادل الرؤى.

 ما التحديات التي واجهتكِ عند تطبيق أدوات الدراسة أو جمع البيانات من متخذي القرار؟

لقد واجهت مجموعة من التحديات منها ما يرتبط بمنهجية وادوات جمع البيانات ومنها ما هو مرتبط ببيئة الشركة وسلوك المبحوثين، فمن حيث الجانب المنهجي فان اهم التحديات، ندرة (إن لم يكن انعدام) الدراسات العربية والأجنبية التي تناولت موضوع المرونة الاستراتيجية من منطلق مستوى متخذي القرار (مستوى الفرد)، وكذلك عدم توافر مقياس جاهز ومعتمد لقياس متغيرات الدراسة وبالأخص متغير المرونة الاستراتيجية ضمن المدخل المعرفي مما تطلب بناء أداة قياس خاصة تستند الى ما توفر من مؤشرات ومفاهيم جزئية في بعض الادبيات السابقة، فقد استلزم ذلك مراجعة عدد كبير من الدراسات والمراجع الأجنبية لاشتقاق العبارات المناسبة، وإخضاعها إلى اختبارات الصدق والثبات لضمان صلاحيتها للاستخدام في البيئة المحلية، وقد انعكس هذا التحدي على الجهد الزمني والمنهجي المبذول في تصميم أداة الدراسة، والتحقق من سلامتها ودقتها المفاهيمية، بما يضمن تمثيلها الحقيقي لمتغيرات البحث. وعلى الرغم من هذه الصعوبات، فقد تمكنا انا والأستاذ المشرف الدكتور احمد كاظم اليساري والذي كان له دور كبير جدا في بناء أداة قياس ذات خصائص علمية مقبولة مكّنتنا من جمع بيانات موثوقة وتحليلها بما يخدم أهداف الدراسة.

اما الجانب الاخر من التحديات فهو مرتبط ببيئة الشركة، فقد كان هناك نوع من التحفظ في الإفصاح عن بعض المعلومات الاستراتيجية نظرا لاعتبار بعض البيانات ذات سرية او حساسة خصوصا فيما يتعلق بالأداء. 

 هل يمكن تعميم نتائج الدراسة على منظمات عراقية أخرى تعمل في بيئات مشابهة؟ ولماذا؟

ان إمكانية تعميم نتائج الدراسة تُعد نسبية ومشروطة بطبيعة المنظمات المشابهة لميدان الدراسة وليست مطلق، إذ أُجريت هذه الدراسة في شركة صناعية تعمل ضمن القطاع العام وتخضع لظروف تنظيمية وبيئية معينة، وبناءً على هذا، يمكن تعميم النتائج بشكل جزئي على المنظمات العراقية الأخرى التي تعمل في بيئات صناعية مماثلة، وتتسم بخصائص تنظيمية متقاربة مثل الهيكل الهرمي، وطبيعة القيادة الإدارية، ومستوى التفاعل المحدود مع التغيرات البيئية.

أما تعميم النتائج على المنظمات الخاصة أو العاملة في قطاعات مختلفة، فيبقى محدودًا نظرا لاختلاف السياقات التنظيمية والثقافية ومستوى الوعي الإداري بتبني ممارسات المرونة الاستراتيجية والمدخل المعرفي.

وعليه، نوصي بإجراء دراسات مستقبلية على قطاعات متنوعة للتحقق من مدى ثبات نتائج هذه الدراسة وإمكانية تعميمها بصورة أوسع على مختلف أنواع المنظمات العراقية.

ما الذي يجعل النموذج الفوضوي ذا تأثير واضح في تعزيز الأداء الاستراتيجي المستدام رغم طبيعته غير المستقرة؟

رغم ان أحد أبرز سمات هذا النموذج هو المخاطرة، الا انه يعد أحد أهم النماذج المعرفية في تعزيز الاستدامة، فهو يعزز الابتكار والتجريب المستمر فالبيئات “الفوضوية” تدفع الأفراد إلى التفكير خارج الأطر التقليدية. وان غياب القيود الصارمة يشجع حرية اتخاذ القرار وتجريب حلول جديدة. وهذا يولّد معرفة جديدة تُسهم في تحسين الأداء الاستراتيجي على المدى الطويل. كما انه يُنمي المرونة الاستراتيجية، ففي ظل عدم الاستقرار تُجبر المنظمة على التعلّم السريع والتكيف المستمر. وبالتالي يصبح الأداء أكثر استدامة لأنه لا يعتمد على استقرار البيئة بل على القدرة على التكيف معها. كما ان الفوضى تكشف نقاط الضعف في النظام، مما يدفع إلى التعلم من التجارب والأخطاء. فيتم تحويل الأخطاء إلى معرفة تراكمية تزيد من النضج الاستراتيجي للمنظمة.

 كيف تفسرين اعتماد القادة على النماذج التصحيحية أكثر من الاستباقية؟ هل هو ضعف في المهارات المعرفية أم في بيئة العمل ذاتها؟ 

يمكن تفسير اعتماد قادة الشركة على النماذج التصحيحية أكثر من النماذج الاستباقية بأنه ناتج عن تفاعل عاملين. فهو نتيجة تفاعل مزدوج بين ضعف القدرات المعرفية الفردية لمتخذي القرار (المستوى المعرفي) حيث تبيّن محدودية مهاراتهم في التحليل التنبؤي والاستدلال الاستراتيجي، مما جعل قراراتهم تتخذ غالبًا بعد حدوث المشكلات وليس قبلها. وقيود البيئة التنظيمية التقليدية التي لا تشجع على التعلم والتفكير المرن، اي التي تتسم بالجمود النسبي والالتزام بالنمط البيروقراطي التقليدي، ما يحدّ من مساحة المبادرة والتفكير المرن. 

أي أن المشكلة ليست في القادة فقط ولا في البيئة فقط، بل في غياب التكامل بين المعرفة والبيئة الحاضنة لها. 

 هل ترين أن هناك علاقة عكسية بين حجم التعقيد البيئي ومستوى المرونة المعرفية للمديرين؟

يمكن النظر إلى العلاقة بين حجم التعقيد البيئي ومستوى المرونة المعرفية للمديرين على أنها علاقة غير خطية مشروطة بالسياق التنظيمي. ففي البيئات التي يسودها الغموض وكثرة المتغيرات، قد يؤدي ارتفاع مستوى التعقيد إلى إضعاف المرونة المعرفية نتيجة لزيادة كمية المعلومات التي يجب على المدير معالجتها والتعامل معها وتزايد الضغط الإدراكي في ظل ضعف البنية المعرفية والتنظيمية. في المقابل، يمكن أن يتحول التعقيد البيئي إلى عامل محفز لتنمية المرونة المعرفية متى ما توافرت لدى المديرين المهارات المعرفية العالية وثقافة تعلم تنظيمي تدعم التفكير المتجدد. وبالتالي يمكن القول إن العلاقة بين المتغيرين تتجه عكسياً في المنظمات محدودة المعرفة، وطردياً في المنظمات المعتمدة على المعرفة. 

 في ضوء النتائج، هل يمكن القول إن الأداء الاستراتيجي المستدام يبدأ من المرونة الذهنية قبل المرونة التنظيمية؟

في ضوء نتائج الدراسة يمكن القول إن تحقيق الأداء الاستراتيجي المستدام يبدأ من المرونة الذهنية والمعرفية للقادة قبل أن يتجسد في شكل مرونة تنظيمية. فالنتائج أظهرت أن اعتماد القادة على النماذج التصحيحية بدلاً من الاستباقية يُشير إلى قصور في القدرات المعرفية العليا، مما انعكس سلبًا على استجابة المنظمة للتغيرات البيئية. وعليه، فإن المرونة التنظيمية تمثل في جوهرها انعكاسًا جماعيًا للمرونة الذهنية الفردية، فكلما اتسعت آفاق التفكير المعرفي لدى متخذي القرار، ازدادت قدرة المنظمة على إعادة تشكيل استراتيجياتها وهياكلها بشكل استباقي ومستدام. ومن ثم، يمكن اعتبار المرونة الذهنية نقطة الانطلاق الحقيقية لأي مرونة تنظيمية تُسهم في بناء أداء استراتيجي مستدام، إذ تُعد العقول المرنة هي المصدر الأول للمنظمات المرنة.

 ما التوصيات العملية التي تعتقدين أنها قادرة فعلاً على تحويل الفكر المرن من "رد فعل" إلى "فعل استباقي" داخل المنظمات العراقية؟

هناك مجموعة من الإجراءات العملية الكفيلة بتحويل الفكر المرن في المنظمات العراقية من نمط رد الفعل إلى الفعل الاستباقي. منها تنمية القدرات المعرفية للقادة عبر برامج تدريبية متخصصة في التفكير التنبؤي، وتعزيز ثقافة تنظيمية قائمة على التعلم المستمر والتجريب الآمن، وتفعيل نظم إدارة المعرفة والذكاء الاستراتيجي لرصد التغيرات البيئية بشكل مبكر.

كما ينبغي إعادة تصميم نظام الحوافز بما يشجع المبادرات والأفكار الاستباقية، كذلك تقليص البيروقراطية التي تُعيق سرعة القرار. ومن المهم ايضا بناء شراكات معرفية مع الجامعات ومراكز البحث لتغذية المنظمة بأحدث الأساليب في المرونة الذهنية والتنظيمية. اذ إن تبني هذه التوصيات يسهم في تحويل المرونة من مجرد استجابة للأحداث إلى قدرة استباقية مستدامة تُعزز الأداء الاستراتيجي في البيئة العراقية. 

وفي ختام هذا الحوار، نتقدّم بخالص الشكر والتقدير إلى الباحثة زينب ثائر توفيق الحربي، التدريسية في كلية البوليتكنك _ كربلاء، على ما قدّمته من رؤى فكرية ومعرفية عميقة حول العلاقة بين المرونة الاستراتيجية والمعرفة التنظيمية.

لقد حمل حديثها الكثير من الإلهام، وفتح نوافذ جديدة للتفكير في كيفية تحويل الفكر المرن إلى ممارسة مؤسسية قادرة على صناعة التغيير وتحقيق الاستدامة في بيئة تتبدّل باستمرار.

فالشكر موصول لها على هذا الحضور العلمي الثرّ، وعلى الجهد البحثي الذي يضيف لبنةً رصينة إلى بناء الفكر الإداري المعاصر في العراق.

اضف تعليق