في ظل التزايد الملحوظ للأنشطة البشرية والصحية وتأثيرها المباشر على البيئة المائية، تبرز الحاجة إلى دراسات علمية دقيقة تسلط الضوء على الملوثات غير التقليدية، ومنها التلوث الصيدلاني. وفي هذا السياق، كان لنا هذا الحوار العلمي مع الدكتورة هدى حسين محمد الطباطبائي، التدريسية في جامعة الفرات الأوسط التقنية...

في ظل التزايد الملحوظ للأنشطة البشرية والصحية وتأثيرها المباشر على البيئة المائية، تبرز الحاجة إلى دراسات علمية دقيقة تسلط الضوء على الملوثات غير التقليدية، ومنها التلوث الصيدلاني. وفي هذا السياق، كان لنا هذا الحوار العلمي مع الدكتورة هدى حسين محمد الطباطبائي، التدريسية في جامعة الفرات الأوسط التقنية، للحديث عن أطروحتها البحثية المعمقة التي تناولت واقع التلوث الصيدلاني في نهر الفرات بمدينة الكوفة، حيث كشفت عن نتائج مهمة وتحديات كبيرة قد تمهد الطريق لوضع سياسات بيئية وصحية أكثر فعالية في العراق.

ما الدافع الرئيسي وراء اختيارك لدراسة التلوث الصيدلاني في نهر الفرات/مدينة الكوفة تحديدًا؟

 الدافع الرئيسي وراء اختياري لدراسة التلوث الصيدلاني في نهر الفرات يمكن أن يُبنى على عدة جوانب مهمة منها:

1_أهمية نهر الفرات كمصدر للمياه: نهر الفرات يعد من أهم مصادر المياه للزراعة والشرب والصناعة في العراق، وأي تلوث فيه يؤثر بشكل مباشر على حياة الناس.

2_القلق من التلوث الصيدلاني: الملوثات الدوائية تُعد من الملوثات الناشئة التي بدأت تُثير القلق مؤخرًا بسبب تأثيراتها المحتملة على البيئة والصحة العامة، مثل مقاومة المضادات الحيوية وتأثيرها على الأحياء المائية.

3_النقص في الدراسات المحلية: قد تكون هناك قلة في الأبحاث والدراسات التي تتناول التلوث الصيدلاني في نهر الفرات، وخصوصًا في منطقة الكوفة، مما يعطي أهمية إضافية لدراستي لسد هذا الفراغ العلمي.

4_الأنشطة البشرية والصحية المتزايدة في المدينة: وجود مستشفيات، صيدليات، ومراكز صحية قد يؤدي إلى تصريف الأدوية بشكل غير مدروس إلى النهر، ما يجعل هذه المنطقة مثالية لدراسة تأثير هذه الأنشطة.

5_ الرغبة في خدمة المجتمع: من خلال هذه الدراسة، يمكنني تقديم توصيات تساعد على الحد من التلوث وتحسين جودة المياه، وبالتالي حماية الصحة العامة والبيئة المحلية. 

 ما التحديات العلمية والعملية التي واجهتك أثناء جمع العينات وتحليلها، خاصة في البيئة المائية؟  

واجهتني أثناء جمع وتحليل العينات في دراسة التلوث الصيدلاني في البيئة المائية، خاصة في نهر مثل الفرات، ما يلي:

أولاً: التحديات العلمية

1_صعوبة الكشف عن تركيزات منخفضة: المواد الصيدلانية غالبًا ما تكون بتركيزات ضئيلة جدًا (نانوغرام/لتر)، مما يتطلب أجهزة تحليل دقيقة وتقنيات متقدمة مثل الكروماتوغرافيا الغاز المرتبطة بمطياف الكتلة (GC-MS/MS). 

2_تداخل المركبات: بعض المواد الصيدلانية قد تتداخل مع مركبات أخرى في العينة، مما يصعب عملية الفصل والتحليل.

3_نقص المراجع المحلية: محدودية الدراسات السابقة في نفس البيئة المائية يجعل من الصعب مقارنة النتائج أو الاستفادة من خبرات محلية مشابهة.

4_تأثير العوامل البيئية: مثل درجة الحرارة، درجة الحموضة، وتدفق المياه، قد تؤثر على استقرار المواد الصيدلانية في العينة قبل التحليل.

ثانياً: التحديات العملية

1_صعوبة الوصول إلى بعض المواقع: بعض نقاط جمع العينات قد تكون غير آمنة أو يصعب الوصول إليها بسبب طبيعة تضاريس النهر أو التلوث.

2_الحفاظ على العينات: ضرورة نقل العينات تحت ظروف معينة (مثل التبريد أو التثبيت الكيميائي) للحفاظ على المركبات الصيدلانية من التحلل.

3_قلة الإمكانيات: قد يكون هناك نقص في توفر الأجهزة المتطورة أو المواد الكيميائية اللازمة للتحليل الدقيق.

4_ العوامل البشرية: مثل القيود الإدارية، أو صعوبة التنسيق مع الجهات المختصة للحصول على التراخيص اللازمة لجمع العينات. 

كيف تفسرين وجود تركيزات أعلى للمركبات الصيدلانية في الإدرار مقارنة بالدم؟ وما الآثار الصحية المحتملة لهذا؟  

وجود تركيزات أعلى للمركبات الصيدلانية في الادرار مقارنة بالدم هو أمر شائع ويمكن تفسيره من الناحية الفسيولوجية والدوائية كما يلي:

التفسير العلمي:

1. آلية الإخراج (Excretion): الكُلى هي العضو الرئيسي المسؤول عن التخلص من الأدوية والمواد الغريبة في الجسم. بعد أن تقوم الأدوية بوظيفتها في الجسم، يتم ترشيحها من الدم عن طريق الكلى وتُطرَح في الادرار، ولهذا فإن الادرار يحتوي عادةً على تراكيز أعلى من نواتج استقلاب الأدوية (metabolites) أو حتى الأدوية الأصلية.

2. التركيز بفعل إزالة الماء: الادرار يحتوي على كمية أقل من الماء مقارنةً بالدم، مما يؤدي إلى "تركيز" هذه المركبات. بينما الدم يحتفظ بتوازن دقيق بين مكوناته، الادرار يمكن أن يحتوي على نسب مرتفعة من المركبات المطروحة.

3. نوع الدواء وخصائصه الكيميائية: بعض المركبات الصيدلانية تكون قابلة للذوبان في الماء (hydrophilic)، وهذا يجعلها تُطرَح بسرعة عبر الادرار، مما يؤدي إلى تراكمها فيه أكثر من الدم.

الآثار الصحية المحتملة:

1. على الأفراد: نادراً ما تؤثر تراكيز الأدوية في الادرار بشكل مباشر على الشخص الذي طرحها، لكنها قد تُستخدم في التحاليل الطبية للكشف عن استخدام أدوية معينة أو سوء استخدامها.

في حالات ضعف الكلى، قد تتراكم هذه الأدوية في الدم بسبب فشل الإخراج، مما يسبب تسممًا دوائيًا.

2. على البيئة (الأثر غير المباشر على الصحة العامة): عندما يُطرَح الادرار الذي يحتوي على مركبات دوائية في المجاري أو مباشرة في مصادر المياه، يمكن أن يؤدي إلى تلوث مائي يؤثر على الأحياء المائية.

هذا التلوث قد يؤدي إلى ظهور مقاومة للمضادات الحيوية لدى البكتيريا في البيئة، مما يشكل خطرًا مستقبليًا على الصحة العامة.

لماذا تَراكمت معظم الأدوية في أسماك أكثر من باستثناء دواء أيزونيازيد؟

تراكم الأدوية في أسماك الشانك بنسبة أعلى من الشلك باستثناء دواء الإيزونيازيد السبب عبر عدة عوامل فسيولوجية وبيئية:

1. الاختلاف في السلوك الغذائي والبيئة المعيشية: الشانك غالبًا ما يكون من الأسماك القاعية أو التي تتغذى على الرواسب، حيث قد تترسب فيها الأدوية أو نواتجها. اما الشلك قد يكون أقل تلامسًا مع هذه الرواسب أو يتغذى على مصادر مختلفة، مما يقلل تعرضه المباشر للأدوية

2. الاختلاف في التركيب الدهني: بعض الأدوية (خصوصًا الليبوفيلية – القابلة للذوبان في الدهون) تميل إلى التراكم في الأنسجة الدهنية.

حيث الشانك يحتوي على نسبة دهون أعلى من الشلك، لذلك تراكم هذه الأدوية سيكون أكبر فيه.

3. معدلات الأيض (Metabolism): اختلاف كفاءة الكبد والأنزيمات بين النوعين يؤدي إلى تفاوت في قدرة كل نوع على تفكيك أو طرح الأدوية.

 الشانك أقل كفاءة في التخلص من بعض الأدوية، مما يؤدي إلى تراكمها.

4. استثناء الإيزونيازيد: الإيزونيازيد يتميز بكونه محبًا للماء (hydrophilic) أكثر من الأدوية الأخرى، ويُطرَح بسرعة عبر الكلى.

بالتالي، فإن تراكمه في الأنسجة الدهنية أو الكبدية (كما في الشانك) أقل، بينما يمكن أن يتواجد بنسبة أعلى في أنواع مثل الشلك إذا كانت لديها آلية إخراج أقل كفاءة له أو اختلاف في الامتصاص.

يرجع تراكم الأدوية في أسماك الشانك أكثر من الشلك إلى اختلافات في السلوك الغذائي، نسبة الدهون في الجسم، وكفاءة الأيض، في حين يُستثنى دواء الإيزونيازيد بسبب خصائصه الكيميائية المختلفة التي تقلل من قابليته للتراكم في الأنسجة الدهنية."

كيف تؤثر العوامل البيئية مثل الأس الهيدروجيني (pH) والمواد الذائبة (TDS) على توزيع الملوثات الدوائية؟  

تتحكم العوامل البيئية مثل pH وتركيز المواد الذائبة في شكل الملوثات، قابليتها للذوبان، وارتباطها بالجزيئات الأخرى، مما يؤثر بشكل مباشر على مدى انتشارها في الماء، قابليتها للتراكم في الأحياء المائية، وخطورتها البيئية.

 ما مدى خطورة اكتشاف مركبات مثل الوارفارين والبيسوبرولول في النهر على النظام البيئي والمجتمع المحيط؟ 

1. الوارفرين (Warfarin):مضاد لتخثر الدم، يُستخدم للوقاية من الجلطات.

سُمية عالية للكائنات المائية: الوارفرين يُعتبر سامًا للعديد من الكائنات مثل الأسماك والبرمائيات، حتى بتراكيز منخفضة، حيث يسبب نزيف داخلي بسبب تأثيره على آلية تجلط الدم

التراكم الحيوي: يمكن أن يتراكم في السلسلة الغذائية ويؤثر على المفترسات العليا.

اضطراب التوازن البيولوجي: التأثير على أنواع معينة من الكائنات قد يؤدي إلى خلل في النظام البيئي المائي.

إذا وصل إلى مياه الشرب (حتى بتركيزات ضئيلة)، فقد يؤثر على الأشخاص الذين يعانون من مشاكل في التجلط.

احتمال التفاعل مع أدوية أخرى، خصوصًا لدى مرضى القلب والكبد.

2. البيسوبرولول: (Bisoprolol) دواء من حاصرات بيتا، يُستخدم لعلاج ارتفاع ضغط الدم وأمراض القلب.

تأثير على الأسماك: يرتبط بتغيرات في معدل نبض القلب والنشاط الحركي للأسماك.

خلل في السلوك الطبيعي للكائنات: قد يُضعف الاستجابة للمفترسات أو يؤثر على التكاثر.

لا يُزال بسهولة في محطات المعالجة التقليدية، ما يؤدي إلى تراكمه في البيئة.

تأثير غير مباشر من خلال تلوث مياه الشرب أو الغذاء (أسماك ملوثة).

الخوف من التعرض المزمن لهذه المركبات قد يؤدي إلى مشاكل في القلب أو الجهاز العصبي على المدى الطويل.

 هل تعتقدين أن محطات معالجة المياه الحالية قادرة على مواجهة هذا النوع من التلوث؟ وما توصياتك لتحسينها؟  

  لا، محطات معالجة المياه التقليدية ليست كافية للتعامل مع التلوث الصيدلاني.

محطات المعالجة الحالية مصممة لإزالة الملوثات التقليدية (مثل المواد العضوية، البكتيريا، والعكارة)، لكنها غير فعالة تجاه المركبات الدقيقة مثل الأدوية والمضادات الحيوية.

كثير من المركبات الصيدلانية تكون مقاومة للتحلل البيولوجي، أو تذوب بسهولة في الماء، مما يجعل من الصعب التخلص منها بالطرق التقليدية.

لا يتم رصد أو تحليل الأدوية ضمن برنامج المراقبة الاعتيادي للمياه.

التوصيات والحلول العملية:

أولًا: تحسين تقنيات المعالجة

1_تقنيات الأكسدة المتقدمة (AOPs): مثل استخدام الأوزون، أو الأشعة فوق البنفسجية مع بيروكسيد الهيدروجين، وهي فعالة في تكسير المركبات الصيدلانية.

2_الترشيح باستخدام أغشية نانوية (Nanofiltration/Reverse Osmosis):تساعد في إزالة الجزيئات الدقيقة مثل الأدوية.

3_ الكربون النشط (Activated Carbon):يمكنه امتصاص مجموعة واسعة من المركبات الدوائية.

ثانيًا: الإدارة المتكاملة

1_حملات توعية للتخلص السليم من الأدوية: منع رمي الأدوية منتهية الصلاحية في المجاري أو النفايات العامة.

2_ إنشاء نقاط تجميع للأدوية التالفة في الصيدليات والمستشفيات.

3_ إلزام المستشفيات والمصانع الصيدلانية بمحطات معالجة خاصة بها.

ثالثًا: السياسات والمراقب

1. وضع تشريعات لتنظيم رمي الأدوية ومراقبة المخلفات الدوائية في المياه.

2. إدراج المركبات الدوائية ضمن برامج الرصد البيئي الوطنية.

3. تشجيع البحث العلمي في هذا المجال وتطوير قاعدة بيانات محلية عن الملوثات الصيدلانية.

 كيف يمكن لهذه الدراسة أن تساهم في وضع سياسات بيئية أو صحية جديدة في العراق؟  

  تمثل هذه الدراسة خطوة رائدة نحو فهم واقع التلوث الصيدلاني في نهر الفرات، وتحديدًا في مدينة الكوفة، حيث سلطت الضوء على وجود مركبات دوائية فعالة في البيئة المائية، مما ينذر بمخاطر بيئية وصحية مستقبلية. وتنبع أهمية هذه النتائج من كونها تمثل مرجعًا علميًا يمكن الاستناد إليه في وضع أو تحديث السياسات البيئية والصحية في العراق.

إذ توضح النتائج الحاجة الماسة إلى إدراج المركبات الصيدلانية ضمن برامج الرصد البيئي الرسمية، وإعادة النظر في كفاءة محطات معالجة المياه التقليدية التي لا تستطيع التعامل مع هذا النوع من الملوثات. كما يمكن أن تُستخدم هذه الدراسة لتبرير تبني تقنيات معالجة متقدمة، ووضع تشريعات واضحة تنظم التخلص من الأدوية في المستشفيات والصيدليات والمنازل.

علاوة على ذلك، فإن هذه الدراسة تُعد منطلقًا لدعم حملات التوعية المجتمعية حول خطورة التخلص العشوائي من الأدوية، وتُسهم في تعزيز التكامل بين القطاعات البيئية والصحية والإدارية من خلال دعم توجهات الإدارة المتكاملة للموارد المائية، والتي تأخذ بنظر الاعتبار ليس فقط كمية المياه، بل ونوعيتها وجودتها على المدى البعيد.

 ما الجديد الذي أضافته نتائجك مقارنة بدراسات سابقة عن التلوث الصيدلاني في الأنهر؟

 تميزت هذه الدراسة بعدة جوانب مبتكرة مقارنة بالدراسات السابقة، من حيث تركيزها الجغرافي على نهر الفرات في منطقة الكوفة، وتحليلها لمركبات دوائية فعالة ذات تأثير بيئي وصحي خطير، إلى جانب شموليتها في تقييم كل من المياه والكائنات الحية، وربط النتائج بالعوامل البيئية المحلية. كما أن الدراسة قدمت تحليلًا تطبيقيًا للمخاطر، ما يجعلها أداة داعمة لصُنّاع القرار في تطوير السياسات البيئية والصحية في العراق. 

 ما أبرز الأسئلة البحثية التي تودين متابعتها في دراسات مستقبلية بناءً على خلاصات هذه الأطروحة؟

انطلاقًا من نتائج هذه الأطروحة، تبرز مجموعة من الأسئلة البحثية المهمة التي تستحق الاستكشاف في دراسات مستقبلية، منها: تقييم الآثار الصحية طويلة الأمد للتعرض للأدوية في المياه، دراسة التفاعل بين الملوثات المختلفة، وتحليل فعالية تقنيات معالجة متقدمة. كما تُفتح آفاق لدراسة النمط الجغرافي لتوزيع هذا التلوث، وتقييم انتقاله عبر السلسلة الغذائية، بالإضافة إلى تصميم نظام وطني للرصد والمراقبة، واستكشاف العوامل السلوكية المؤثرة على تفاقم هذه الظاهرة.

ختامًا، شكّلت هذه الأطروحة العلمية للدكتورة هدى حسين محمد الطباطبائي إضافة نوعية للمكتبة البحثية العراقية والعربية في مجال التلوث البيئي، وخصوصًا في ما يتعلق بالملوثات الصيدلانية التي غالبًا ما تغيب عن الرصد التقليدي. فقد وضعت نتائج الدراسة الأسس العلمية لضرورة إعادة النظر في آليات معالجة المياه، ووجهت الأنظار إلى مخاطر مستقبلية تستدعي تحركًا عاجلًا على المستوى البحثي والمؤسساتي. هذه الجهود البحثية، بلا شك، تفتح آفاقًا واسعة لمزيد من الدراسات والتطبيقات التي من شأنها حماية البيئة وصحة الإنسان في آنٍ واحد.

اضف تعليق