إن إدارة المدن ليست عملية إنقاذ لحظي، بل عمل طويل يبدأ من التخطيط، ويمر بالتنفيذ، وينتهي بالصيانة. ولا يمكن لمدينة أن تبقى واقفة على قدميها وهي تُرمّم بنيتها التحتية كل موسم بطريقة إسعافية. فالعالم كله يتطور، ويبحث عن حلول ذكية لتجميع المياه وإعادة استخدامها، بينما نحن ما زلنا نعدّ المياه الراكدة قضية موسمية ونعتبر تجفيفها إنجازاً...
لا يحتاج المواطن إلى نشرة جوية مفصّلة كي يعرف أن الشتاء يقترب. يكفي أن تهبّ أولى بوادر الغيوم، أو تهطل خمس دقائق من المطر، حتى تبدأ شوارع مدننا بارتداء لون الطين، وتتحوّل الأرصفة إلى جزر معزولة، وتغدو حركة السير أشبه بسباق في حلبة عائمة فوق طبقات المياه الراكدة. الصورة ذاتها تتكرر كل عام، وكأننا أمام فيلم قديم لم يتمكّن أحد من إيقاف عرضه.
ما حدث مؤخراً بعد سقوط أول قطرات المطر ليس جديداً، لكنه كان صارخاً بما يكفي ليضع أمانة المحافظة في قفص الاتهام مرة أخرى. فكيف يمكن لمدينة كاملة أن تتعطّل بسبب سحابة خفيفة؟ وكيف يمكن لمؤسسات حكومية تمتلك موازنات وإدارات وهياكل وأقسام أن تتفاجأ بالمطر، وكأن السماء تغيّرت فجأة وأصبح المطر ظاهرة غريبة لا تحدث إلا مرة كل قرن؟
الاستنفار الواسع الذي أعلنت عنه الأمانة، ونزول فرقها لسحب وتصريف المياه من الأحياء، لا يمكن تقديمه للمواطن بوصفه إنجازاً، بل بوصفه محاولة متأخرة لتقليل الأضرار. فالاستنفار الحقيقي لا يكون بعد الغرق، بل قبله. وأي نجاح في إدارة المدن يقاس بمدى استعدادها للظروف المتوقعة، وليس بمدى قدرتها على لملمة الفوضى بعد وقوعها.
من يتجول في الأحياء التي غرقت منذ اللحظات الأولى للمطر يدرك أن المشكلة ليست في الأمطار، بل في بنية تحتية تستيقظ كل عام على كابوس اسمه "الموسم المطري". شبكة تصريف قديمة، ومنافذ مغلقة، وأنابيب لم تُستبدل منذ سنوات، ومشاريع مؤجلة بحجة الإجراءات والموافقات. وبين هذه الفوضى، يُترك المواطن في مواجهة نهر صغير يمر أمام باب بيته، فيما يتحوّل الشارع الرئيس إلى مجرى مؤقت يعيق حركة سيارات الإسعاف والشرطة والمدارس.
الغريب أن المسؤولين يعترفون كل عام بالمشكلة ذاتها، ويعدون بالحل ذاته، لكن النتيجة لا تتغير. وكأن المدينة تعيش في حلقة مفرغة، تبدأ بالمطر وتنتهي بالتصريحات، ثم تعود من جديد في الشتاء التالي. المواطن لم يعد يبحث عن مَن يعلّق على الحدث، بل عن مَن يتحمّل مسؤوليته. فإصلاح شبكة التصريف ليس ترفاً، ولا مشروعاً تكميلياً يمكن تأجيله، بل ضرورة تمسّ حياة الناس بشكل مباشر.
إن إدارة المدن ليست عملية إنقاذ لحظي، بل عمل طويل يبدأ من التخطيط، ويمر بالتنفيذ، وينتهي بالصيانة. ولا يمكن لمدينة أن تبقى واقفة على قدميها وهي تُرمّم بنيتها التحتية كل موسم بطريقة إسعافية. فالعالم كله يتطور، ويبحث عن حلول ذكية لتجميع المياه وإعادة استخدامها، بينما نحن ما زلنا نعدّ المياه الراكدة قضية موسمية ونعتبر تجفيفها إنجازاً.
الأمانة مطالَبة اليوم بأكثر من نشر فرقها على الشوارع. هي مطالبة بفتح ملفات مشاريع التصريف، وتقديم كشوفات واضحة للناس، وإعلان جداول زمنية للإصلاح، والأهم من ذلك أن تتحلى بالشجاعة لتقييم أدائها بعيداً عن التجميل الإعلامي. فالمواطن، الذي يتنقل كل شتاء بين البحيرات الصغيرة التي تبتلع شوارعه، لم يعد يقنعه مشهد عمال ينزلون إلى الشارع بعد أن يكون الأوان قد فات.
أولى قطرات المطر كانت كافية لكشف هشاشة هذه الشبكات، وكافية أيضاً لتذكيرنا بأن الأمور لا تُدار بردود الفعل. وما لم تتحرك أمانة المحافظة بخطة استراتيجية واضحة، فإن الشتاء القادم لن يكون أفضل، والمشهد نفسه سيتكرر بصور أكثر إيلاماً.
لذلك، فإن السؤال الأهم ليس: "كيف سحبت الأمانة المياه؟" بل: "لماذا غرقت الشوارع أصلاً؟" وما الجدوى من كل ما يُصرف على مشاريع الإعمار إذا كانت البنى التحتية تنهار في أول امتحان حقيقي؟ أسئلة لا تحتاج إلى بيانات مطوّلة، بل إلى إرادة حقيقية لتغيير الواقع.
حتى ذلك الحين، سيبقى المواطن يتعامل مع المطر وكأنه حدث استثنائي، وسيبقى الشارع يترقب الغيمة القادمة بخوف لا مبرر له… سوى أننا ما زلنا نعيش في مدينة تغرق قبل أن تبتل الأرض تماماً.



اضف تعليق