شبكة النبأ: القيم الاخلاقية والانسانية التي جاء بها متكاملة، نبينا الأكرم، صلى الله عليه وآله، هي التي أبهرت العالم وجذبت العقول وأسرت القلوب وجعلت الناس يدخلون في دين الله أفوجاً، وتمكن الاسلام الذي بدأ من مكة المكرمة، ومن وسط مجتمع الشرك والتخلف والانحطاط الاجتماعي، وعلى يد ثلّة صغيرة من المؤمنين، لأن ينتشر مثل شعاع الشمس في الآفاق وخلال فترة قياسية في عمر الحضارات، وهي عشر سنوات فقط.
فقيم مثل الحرية والتعاون والإيثار والأخوة والمساواة وغيرها، لها طابعاً انسانياً يعزز الطابع الديني ليشكل المنظومة الاسلامية في حياة الانسان. لذا نجد شعوب وأمم في العالم استقبلت الاسلام بهذه المنظومة، بصدر منشرح وطيب خاطر، وانضموا الى المسيرة الحضارية للإسلام، فابدعوا وتقدموا وكسبوا الكثير الكثير مما يمكن ان نلاحظ آثاره اليوم في بلاد عربية وغير عربية.
لكن أين نحن من تلكم القيم والمفاهيم التي يفترض ان ترفد حياتنا وتعزز هويتنا بما تجعلنا نسير بخطى ثابتة غير مهزوزة على طريق التطور والتقدم؟.
كتب الباحثون والمؤرخون الكثير عن اسباب التخلف والانحطاط والتراجع في الحضارة الاسلامية، وسلطوا الضوء على الانسان الفرد والمجتمع وايضاً العوامل الخارجية والموضوعية. وربما تكون بعضها او جميعها مسؤولة عما نعيشه اليوم، بيد أن هنالك اسباب جذرية تعود الى البناء الأول للإسلام على يد شخص النبي الأكرم، صلى الله عليه وآله، ونحن نعيش هذه الايام الذكرى الأليمة لرحيله عن دار الدنيا. منها؛ التقبّل النفسي لدى بعض المحيطين بالنبي، لتلكم القيم والمفاهيم، فهم اكتسبوا من حيث الظاهر صفة "الصحابة" لكنها لم تكن موافقة للشروط الكاملة، إنما جاءت لاعتبارات اجتماعية ونفسية خاصة في ذلك الزمان، وربما يكون التنافس والتطاول او التمايز وغيرها، من عوامل إشهار إسلام البعض، وهو حديث لسنا بصدد الخوض فيه.
بالمقابل نلاحظ في "أصحاب" آخرين، نوعاً من الجهاد والبذل والسعي لمجاراة النبي الأكرم، في صفاته وأخلاقه وسلوكه، فهذا أبا ذر الغفاري، المتجلّد والناذر نفسه لله، ولم يوقفه شيء في مسيرة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، سواء أ كان المنكر من انسان عادي، او صحابي كبير او حاكم. وقد يدفع لقاء ذلك ثمناً باهضاً، كان آخره حياته، حيث مات مهجراً غريباً في أرض الربذة. وذاك سلمان المحمدي، الصبور والوقور الذي واجه ذلك السائل الذي حاول الانتقاص من شخصيته امام الناس، وقال له: "هل لحيتك أفضل أم ذيل الكلب...."! فكان جوابه بكل هدوء ومنطقية باهرة: "إن كانت تجوز الصراط يوم القيامة، فهي أفضل....".
لنتصور هكذا سؤال يوجه الى انسان بسيط ، وليس إمام جماعة او عالم دين في أي مكان بالعالم، ماذا سيكون الرد؟!
ثم لنطالع مشهداً آخر من الاخلاق والسلوك الذي اتبعه شخص ممن يحمل صفة "الصحابي"، علماً انه كان ممن رآى النبي الأكرم، وسمع حديثه وعاشره عن قرب، فقد جاء في التاريخ أن شخصاً جاء الى هذا الشخص (....) في أيام حكمه وسأله عن معنى الكلمة الواردة في الآية الكريمة: {...وفاكهة وأبّا}، وسأله: "ما معنى وأبّا..."؟ وعندما شعر عمر بالحرج من عدم معرفته الاجابة، قال له: "ألم ننهكم عمّا لا تعلمون..."؟! كما لو يريد أن يقول: لاتتدخلوا فيما لايعنيكم!! ثم أمر بأن يُجلد الرجل مائة جلدة لمخالفته أوامر "الخليفة"، وذكرت المصادر أن الرجل كاد أن يموت من شدّة الضرب المبرح، وكان يصيح بالنجدة والتوبة وأنه لن يعود اليها ثانية...!!
هنا؛ نتسائل: ألم يكن أبو ذر وسلمان وعمار والمقداد وجابر بن عبد الله الانصاري، بالقرب من هذا الشخص وأمثاله؟ وهل كانوا في مكان آخر؟ ألم يكونوا جنباً الى جنب يستمعون كلام النبي، ويجاهدون بين يديه ويمارسون اعمالهم اليومية في بيئة ومحيط واحد؟
كل ذلك كان موجوداً من حيث الظاهر، بيد أن المشكلة في النفس الانسانية التي لم يصل الشعاع الى زواياها المظلمة فتطرد ترسبات الجاهلية وتمحي المنظومة الاخلاقية القديمة وتستبدلها بالمنظومة الجديدة كما فعل أبو ذر وأشباهه، بل كما فعل جميع الصالحين والتابعين على طول الخط، فقد حملوا الاسلام في صلاتهم وصومهم وبعض الفرائض الدينية، فيما كانوا يحملون في نفس الوقت خصال الأنانينة والكراهية والكِبر والنفاق في أعماق نفوسهم.
طبعاً؛ البعض من المؤرخين والباحثين يعزون حالة التغيير الذاتي لدى ابو ذر وسلمان وبلال وعمار وأشباههم، إنما كانت بدوافع مادية، وبتأثير من الحالة الطبقية السائدة آنذاك، بل ان معظم التحولات الحاصلة في النفس البشرية تأتي بدوافع اقتصادية. وهذا يجانب الحقيقية كاملة، فالعكس في حالات كثيرة، هو الصحيح، فالوعي واليقظة والقدرة على التغيير الذاتي، يأتي من حالة مستقرة نسبياً من الناحية الاقتصادية، او ما يسمى بحالة "الطبقة المتوسطة"، كما ليس بالضرورة ان يكون الانسان الثري عصيّاً على التغيير الذاتي، فهنالك حالات لاثرياء وميسورين تمكنوا من النجاح في عملية التغيير الذاتي وخرجوا بنتائج عظيمة، اهمها انهم اصبحوا قادرين على التأثير على الواقع الخارجي والمشاركة في التغيير الشامل في الأمة.
نعم؛ الحرص على الجاه وحب السلطة والمنصب والامتيازات هو الذي يكبّل الانسان عن المضي خطوة واحدة في طريق التغيير ومحاسبة الذات وتقوسم السلوك. وهذا ما لاحظناه في نماذج من الصدر الأول للإسلام، ونلاحظه اليوم في ذيول واتباع أولئك في يومنا الحاضر. فهو يتصور انه يطبق الاسلام، لكن ذلك الاسلام الذي يتوافق مع ميوله وقناعاته النفسية، وليس الاسلام الذي جاء به النبي الأكرم، صلى الله عليه وآله، ودخل القلوب والعقول مثل انسياب الماء العذب على الارض الجرداء.
اضف تعليق