لا يمكنني وصف غالبية أعمالنا الدرامية الا بالواقعية الفجة، وهو الوصف ذاته الذي أطلقته على أعمال بعض الطلبة الضعفاء في أقسام الفنون السينمائية والتلفزيونية التي هي عبارة عن صورة فوتوغرافية للواقع من دون انطوائها على دلالات عميقة، او قراءة من زوايا غير تقليدية للواقع...
لا يمكنك أن تكون مؤثرا ما لم تكن مقنعا، ويتعذر تحقق الاقناع اذا لم تكن صادقا، سواء أكان صدقا حقيقيا ام فنيا، ويعني الصدق الفني القدرة على جعل الأشياء تبدو منطقية، وهذا يحتاج الى مهارات فائقة في سوق الحديث اذا كنت متحدثا، او التحلي بمهارات نوع الفن الذي تمارسه في حال كونك فنانا، ولذلك اطلق على النحت والرسم والدراما والمسرح والموسيقى فنونا، فالفن هو مهارة استخدام الأدوات للتعبير عما يجول بالخواطر بأعلى مستوى من الفاعلية بهدف التأثير، فلا قيمة لأية رسالة فنية او اعلامية اذا لم تحقق التأثير المطلوب، فوصول الرسالة للمتلقي لا يعني انها حققت أهداف مرسلها، وبذلك يرتبط التأثير بالصدق الفني والمهارة هي العنصر الحاسم، وهذا يُعد من البديهيات، ألم تسمعوا مثلنا الشعبي القائل ( الكذب المصفط خير من الصدق المخربط)؟.
تبادرت الى ذهني هذه الأفكار عند مشاهدتي لأعمالنا الدرامية المستفزة في فضائياتنا خلال هذا الشهر الفضيل الذي تتنافس فيه الدراما العربية بالاستعداد له من قبل شهور، لكن أعمالنا للأسف لا ترقى الى مستوى أعمال مدرسية يقدمها الطلبة يوم كانت مديريات التربية تولي اهتماما فائقا لأنشطة طلابها بوصفها أعمالا مهمة تندرج في اطار العملية التعليمية والتربوية، ولها القدرة على اكساب الطلبة الكثير من المفاهيم والقيم، فضلا عن كونها متنفساً للتفريغ الانفعالي، والارتقاء بالذائقة الفنية، ولذلك نظمت مديريات التربية وبحماسة طاغية وقناعة راسخة العديد من المهرجانات المسرحية والمعارض التشكيلية والحفلات الموسيقية والمسابقات الخطابية وغيرها، لكن هذه العناية تبدلت بتبدل العقول التي تديرها، فصار الفن لدى بعضها مضيعة للوقت، وحراما لدى البعض الآخر.
لا يمكنني وصف غالبية أعمالنا الدرامية الا بالواقعية الفجة، وهو الوصف ذاته الذي أطلقته على أعمال بعض الطلبة الضعفاء في أقسام الفنون السينمائية والتلفزيونية التي هي عبارة عن صورة فوتوغرافية للواقع من دون انطوائها على دلالات عميقة، او قراءة من زوايا غير تقليدية للواقع.
ان دراما الواقعية الفجة التي يشارك فيها فنانون كبار كنا قد شاهدناهم في أعمال راقية في العقود الماضية، لكن يبدو ان وضعهم المالي السيء قد أجبرهم على القبول بأعمال متدنية فنا وذوقا ومضمونا، أساءت لتاريخ الدراما العراقية التي اتسمت بقدرتها على منافسة الدراما المصرية يوم كانت الدراما السورية والخليجية تحبو، فغزت الأسواق العربية بمضامينها المتنوعة وجودتها الفنية.
واليوم وبعد عقود على مسلسل (فتاة في العشرين) و(أعماق الرغبة) لصباح عطوان، والذئب وعيون المدينة لعادل كاظم و (من سيكون معي؟) لمعاذ يوسف، يغّير الجمهور العراقي قنواته المحلية لصالح قنوات خليجية حققت قفزات نوعية في أعمالها الدرامية وعموم عملها الاعلامي، بينما لا تفارق ذاكرتي صورة خلو شوارع وأزقة مدننا من المارة عند موعد عرض مسلسل (جرف الملح) في مطلع السبعينات من القرن الماضي، عندها لم يكن العمل الدرامي للتسلية فحسب، بل للتغيير الاجتماعي، فلم يكن كاتب السيناريو او المخرج بلا قضية.
فما الذي حدث ليكون الانحدار بهذا الشكل الدرامي المريع؟، بالتأكيد ان لصناع هذه الأعمال مبرراتهم بدءا من كتاب السيناريو ومرورا بالممثلين وانتهاء بالمخرجين، وان جانبا مما سيقولون صحيحا، ولن اختلف معهم بالإهمال الذي يلقاه الفنان من الجهات المعنية، ألم يكن مصير فنانين محترمين الارتماء في دور العجزة، ألم يكن العوز المادي سببا في وفاة آخرين لم يكن بمقدورهم توفير علاج لما عانوه من أمراض؟، ولا أنفي على الاطلاق تحكم العلاقات الشخصية في اسناد مسؤوليات ادارة المؤسسات الفنية والاعلامية للأقرباء والأصحاب والمعارف بالرغم من افتقادهم للمؤهلات، واقر معهم تماما بأن مهنة الفن في العراق ما عادت بقادرة على توفير أسباب العيش، وطالما الأمر كذلك فلا تظنوا لمنجم حكايات الحياة العراقية استثمارا فنيا، بالرغم من ثرائها وغرابتها ومأساويتها ومفارقاتها، كل ذلك ونريد للفن أن يحدث تغييرا في المجتمع.
اضف تعليق