كان شرط اخو المقتول ومطلبه الوحيد مقابل مسامحة الجاني والتنازل عن (الفصل العشائري) والذي لم يفهم مغزاه وعمق أذيته سوى أهل الحكمة والاستبصار، هو أن يقوم الجاني بالتسول مدة شهرين كاملين، وحين تمت الموافقة من قبل الطرفين ، قام الرجل الذي تجاوز الخمسين سنة بالتسول لكن ما حدث أنه بعد انتهاء المدة لم يستطع الرجل الامتناع عن هذا العمل!، رغم طلب أهله وأولاده أكثر من مرة، وبسبب إصراره ورفضه القاطع بعدم ترك مهنة التسول تبرؤا منه لما فيه من مذلة ومهانة تعود عليهم بالعار، فأكمل الرجل حياته وحيدا مذلولا مهانا يجمع المال من التسول حتى مات.
قصة حقيقية تحكي واقع الحالة التي يكون عليها المتسول، فربح كثير مقابل جهدٌ قليل هو السبب الأكبر لمزاولة هذه المهنة المذلة، وما كان صعبا على كرامته ومهابته بالتعويد والممارسة يستسهله، لتجعله لا يقبل بأي عمل آخر حتى لو سنحت له الفرصة الى ذلك، ولهذا نلاحظ تزايد المتسولين المنتشرين في التقاطعات والأرصفة والأسواق وغيرها من الفئات مختلف العمرية.
- كيف أصبحت متسولا ومن هو السائل بالمفهوم الديني؟.
- ومن يتحمل مسؤولية تزايدهم، المجتمع أم الحكومة أم الاثنين معا؟؟.
- وكيف نعالج هذه الظاهرة الخطيرة؟؟.
هذه الأسئلة طرحتها (شبكة النبأ المعلوماتية) على عدد من المواطنين لمعرفة آرائهم وحلولهم والأسباب التي دفعت البعض للتسول.
بدأنا مع الشيخ (فاضل الجشعمي) الذي قال: إن المجتمع والحكومة هما المسؤولين عن تنامي هذه الظاهرة فالكثير من الناس لا تستطيع أن ترد السائل حتى لو كانت تشك بأنه غير محتاج مستندين على الآية (أما السائل فلا تنهر) والحقيقة أن النهر معناه لا تزجره اذا سالك فأما أن تعطيه او ترده برفق ولين وفي الحالتين وجب التحري عن حالة الفقير قبل إعطائه خاصة في أموال الزكاة فقد وجب أن تصرف لمستحقيها وليس لمن يتخذ التسول صنعة لجمع المال، وبهذا يكون المجتمع هو من ساهم بتزايد هذه الظاهرة غير الحضارية، ولا بأس أن تقول له (الله يعطيك) خير دعاء وأفضل عطاء لأنك تدعوا له برزق من الله، وهناك تفسير آخر، فالسائل هو طالب العلم فعلى المعلم أن يعين المتعلم ويفهمه بود واحترام والتعامل معه بالخلق الحسن.
أبو هشام 65 سنة يعمل كاسبا، قال: في احد أيام القحط والفقر (الحصار) الذي عاشه العراقيون سقطت من يدّي احد الصبية طبقت بيض وكانت وقتها غالية الثمن فجلس بقربها واخذ يبكي خوفا من عقاب أهله وحين رآه الناس تأثروا بالمشهد فراحوا يرمون عليه دنانير قليلة حتى تجاوز المبلغ أضعاف سعر طبقت البيض ففرح كثيرا وراح كل يوم يسقط طبقة البيض ويجلس ينوح بجانبها متخذا أماكن مختلفة في بغداد ثم قام بتغيير الأسلوب بآخر مشابه من اجل استعطاف الناس وتحريك مشاعرهم، فالتسول أصبح في هذا الزمن مسألة تتعلق بنفسية الشخص فمتى ما تجاوز مبدأ الكرامة واحترام الذات هانت عليه كل أعمال الخنوع والإذلال وأولها التسول.
تقول السيدة (آمنة الحسيني) الكاتبة والناشطة في حقوق الإنسان: على الرغم من تزايد المتسولين لكننا لا نستطيع أن نقول أن الطمع واستغلال الناس دفعهم لهذا العمل وليس الفاقة والعوز، فانا شهدت حالة يدمى لها القلب ألما، وكانت سيدة كبيرة في السن قد تزوج زوجها بإمرأة أخرى بعد زواج دام أكثر من أربعين سنة كونها لم تنجب له الأطفال، وهذه السيدة المنقطعة إلاّ من الله بعد وفاة زوجها أجبرتها شريكتها (الزوجة الثانية) على التسول مقابل إطعامها والعيش معها في البيت الذي هو أصلا ملكا لزوجها الذي ساندته وتعبت في أعماره، وهناك حالات كثيرة تجبر المرء لامتهان التسول، لذلك أتمنى أن لا نحكم على الناس حسب أهوائنا او تجاربنا فلكل شخص ظروفه الخاصة، وتزايد المتسولين في الآونة الأخيرة لأسباب منها: المهجرين الذين لجأوا لمناطق آمنة هربا من بطش الدواعش ولا يملكون حرفة او معيل يعيلهم وهم في عوز وفاقة وكذلك الأرامل والأيتام الذين لا تكفيهم رواتبهم بسبب ارتفاع أجور البيوت والحالة المعيشية ومنهم من يكون في العائلة مصابين بمرضٍ عضال يتطلبون علاجا ورعاية وهذا يحتاج الى مبالغ كبيرة وكذلك هناك عصابات تقوم بالاستحواذ والسيطرة على الأطفال والنساء وكبار السن الذين لا يمتلكون مأوى او معيلا لتوظيفهم واستغلالهم أبشع استغلال مقابل إطعامهم وحمايتهم.
وللحكومة الدور الأول والأخير للقضاء على هذه الظاهرة من خلال معرفة ودراسة الأسباب التي دفعت المتسول لهذه المهنة المذلة وإيجاد الحلول المناسبة لهم، لكن مع الأسف الحكومة لاهية و (كلٌ يغني على ليلاه) فهم في سعي حثيث من اجل تحقيق مصالحهم الشخصية والفقير له الله.
الطالبة (ز.م) علوم إسلامية جامعة كربلاء تقول: المجتمع هو المسؤول الأول عن تفشي ظاهرة التسول لجهله بمعرفة من هو المتسول الحقيقي الذي أوصانا الله ورسوله بالتصدق عليه فسؤال الناس للمال لا يجوز إلاّ في الحالات الثلاث كما ذكر الرسول (ص) وهذا جزء من حديث مطول حين جاء رجل من الأنصار يسأله مال فقال صل الله عليه واله وسلم:" إن المسألة لا تصلح إلاّ لذي غرم مفظع، أو دم موجع، أو فقر مدقع ".
وليس لكل من تسمح له كرامته وظروفه أن يتخذ التسول صنعة لجمع المال مستغلا طيبة الناس وكسب عطفهم، واستخدم التسول كغطاء وتمويه من قبل العصابات لأعمال إجرامية لا أخلاقية كالسرقة والدعارة وغيرها من الأعمال التي تقوم بها عصابات متمرسة وبتدبير محكم بعيد عن الشبهات مستخدمين الأطفال والنساء.
أما رأي محسن أبو الهيل صاحب معرض سيارات والذي بدأ بقصة واقعية حدثت في محافظة القادسية فقد قال:
حدث أن صبيا يعمل مساعدا لخاله في محل سمكرة وفي يوم جلس متسول أمام المحل فتضايق صاحب المحل من وجوده وطرده أكثر من مرة لكن المبلغ الكبير الذي يحصل عليه الشيخ المتسول جعله يصر على البقاء فاقترح الصبي يوما حلا على خاله فقبل الأخير به، وهو الجلوس بالقرب من المتسول ومد يده وبدل أن يعطي الناس للمتسول سوف يعطونه له باعتباره طفلا وهو أولى بالصدقة وفعلا نجح الأمر وغير المتسول مكانه، لكن الطفل رفض أن يترك هذا العمل رغم محاولات خاله بإقناعه، وأنا اعتقد أن الطمع والتعويد هو السبب في اتخاذ مهنة التسول كمصدر عيش.
ختاما، إن القضاء على ظاهرة التسول وكفاية الفقراء والمحتاجين هي مسؤولية الحكومة والمجتمع وتكمن بمجموعة حلول منها: على الحكومة أن تقوم بمتابعة حقيقية وبطرق سليمة وصحيحة للمتسولين وتدوين أسمائهم ومكان أقامتهم ومعرفة الأسباب التي تدفعهم للتسول، وتوفير العلاج المجاني للمعاقين والعجزة وتسجيلهم بشبكات الحماية الاجتماعية لتزودهم برواتب شهرية، احتواء الأطفال والصبية في مراكز تأهيلية لتعليمهم مهارات وحرف يجنون منها المال، تقديم قروض ميسرة من اجل أقامة مشاريع خاصة وصغيرة للشباب والأصحاء من الرجال، مع فرض عقوبات على المخالفين.
وعلى المجتمع تقديم المساعدات للمتسولين بطريقة عادلة، ووضع الصدقات في صناديق الصدقات المنتشرة في الأسواق والمحال لتوزع بطريقة صحيحة على مستحقيها من الفقراء والأرامل والأيتام.
اضف تعليق