الأحداث التي رسمت تاريخ العراقيين لها نمطها الخاص المختلف، فهي أحداث لا تشبه غيرها، سواء البعيدة منها وحتى تلك التي لم يمض عليها أكثر من خمسة عقود، ونحن هنا بصدد التاريخ المنظور وأحداثه، حيث لمسنا ضغطا قويا لتلك الأحداث على الروائي ابراهيم سبتي وهو يدوّن روايته الجديدة...
الأحداث التي رسمت تاريخ العراقيين لها نمطها الخاص المختلف، فهي أحداث لا تشبه غيرها، سواء البعيدة منها وحتى تلك التي لم يمض عليها أكثر من خمسة عقود، ونحن هنا بصدد التاريخ المنظور وأحداثه، حيث لمسنا ضغطا قويا لتلك الأحداث على الروائي ابراهيم سبتي وهو يدوّن روايته الجديدة هذه، فهي في الحقيقة لم تفصح عن حرب محددة بعينها، لاسيما وأن حروب العراق كثيرة، ومن الغريب حقا، أننا نلمس ضغوطا هائلة لهذه الحروب على الروائي، لكن لا يعثر القارئ على مفردات ترسم كوارث الحروب، فمفردات (الصاروخ، القنبلة، المدفع، الطائرة)، بل حتى الرصاص لا وجود له في هذه الرواية، ومع ذلك هي تغص بكوارث الحرب، ويمكن أن نلمس ذلك في أحداث بعيدة عن ساحات القتال.
فالبيت المسكون (لسالم الأب وابنه منير وإخلاص)، وإصرار الراوي على اقتحام سرّية هذا البيت الذي شاعت عنه حكايات هائلة انتشرت بين سكان الحي وامتدت إلى مديات أبعد من ذلك، هذا البيت صار الشغل الشاغل لبطل رواية (الموت سحرا)، أما الأسباب التي تقف وراء ذلك فهي كثيرة، من بينها، أنه نشأ مغرما بالسحر وتحضير الأرواح، وسعى منذ السطور الأولى للرواية للعثور على كتاب السحر بأي ثمن كان، ومهما كانت المخاطر التي قد يتعرض لها، فقد قيل له أن قراءة كتب السحر أكثر خطرا عليه من البحث في أسرار هذا العالم المشحون بالغرائب والمهالك المختلفة، لكنه رغم ذلك كله، شغلته نار السحر، وظل مغرما بها، وتاه في عالم الأرواح، وظل بيت سالم وصديق الطفولة والدراسة (منير) المغلق على أسراره وعوالمه المسكونة بالسحر، ظل هذا البيت واكتشاف دواخله هدفا لا يبتعد عن باله مطلقا، وهكذا قرر الدخول إليه عن طريق مخبز الحاج كريم بعد أن يتخفى ساعات طويلة خلف أكياس الطحين ثم يتسلل بعد غلق المخبز إلى جوف البيت المسكون بأسراره السحرية الغريبة، ويحدث هذا بالفعل، ونعيش كقرّاء حالة من الرعب تمتد طوال ساعات الليل حيث يتعرض الراوي لسلسلة من المواقف العنيفة والخطيرة، لدرجة أن حياته تعرضت للفناء في أكثر من موقف عنيف، واشتدت حالة الرعب وسط الظلام الكاسح، حيث مخالب الجن والأقزام والتهويمات والأصوات المرعبة تتقاذفه، ومشهد صعود السلم هربا إلى السطح ثم سقوطه نحو أرض البيت المسكون في أكثر من محاولة للإفلات من هذا المأزق المميت، كل هذا قدم لنا فصلا مرعبا حبسنا فيه أنفاسنا، ومع أنفاس الفجر يتسلل البطل منهكا خارجا من متاهة البيت القاتلة، لكنه ظل مصرّا على مواصلة رحلة الكشف عن غموض عائلة سالم، ورحلة اختفاء صديقه منير الذي درس معه سنوات الابتدائية والثانوية، وإخلاص التي غمرتها أيضا هالة من الغموض وبعض الأخبار المسرّبة المبثوثة كالإشاعات بأنها هربت من عريسها في ليلة الدخلة، ولا تزال مختفية في مكان مجهول حتى اللحظة، فيما أخذ زوجها ومعه رجلان يبحثون عنها ليلا وسرّا ويترددون على البيت المهجور المسكون بالجن وبالأقزام الذين كانوا يخرجون منه ليلا حاملين التوابيت ثم يختفون فجأة في لمح البصر.
يقول الراوي: (غرقت في التفكير والخيالات الجامحة التي تراودني عن بيت سالم، وقفزت فكرة كتابة الحكاية وفق ما يدور في خيالي مضيفا اليها بعض التفاصيل التي يتطلبها السرد لإكمال الفكرة.. أحضرتُ أوراقي وراحت أفكاري تنثال على بياضها ليتحول الى سرد موجع.. فكرت طويلا قبل اتخاذ القرار الذي طال انتظاره (اقتحام البيت المسكون)، وهو ما سيغير حياتي بالتأكيد، يجب أن أقرره بمفردي ولا أخبر أي أحد مهما كان قربه مني. أحاول قطع دابر الشائعات والأقاويل والمرئيات التي تخيلتها وكدت أن أصدقها وما يتناقله الخباز وأهل الشارع والشوارع القريبة من أن ثمة ما يحصل داخل البيت المسكون وقصة اختفاء عائلة سالم المفاجئة ريما لها علاقة بذلك) ص33.
من الواضح أن هذه الرواية مكتوبة بطاقة خيالية عالية، فالراوي (ابراهيم) لم يتعكز على أحداث واقعية ويملأ بها سطور الورق، كما أنه لا يريد أن يحدّث الناس عن أحداث ملأت سابقا أسماعهم، ولا يريد أن يكرر مفردات ملّوا منها، إنه كما أظن خطط لكي يسترعي انتباه القارئ بقوة الإيحاء والإيماء، وتشغيل طاقة الخيال، واستنهاض الذاكرة بمؤازرة طاقة الخيال التي يمتلكها، كل هذه الأدوات جعلت من الرواية ذات صورة سردية لا تشبه غيرها، كما أن انعكاس ضغوط الحرب بدأت تتناثر في نسيج السرد، وصار للسحر والرعب الذي ينبثق منه حيّزا فاعلا، لدرجة أن الراوي ظل مشغولا انشغالا تاما بالبيت المسكون، وبفقدان عائلة سالم، وبمنير الطالب الذي اختفى مع عائلته، ثم سنعرف لاحقا إنه فرّ إلى مصر وعاش هناك غريبا بما يشبه حالة التخفي.
أما سالم الأب فقد ضاعت أخباره، لكن الراوي سوف يسلط عليه لمحة خاطفة تؤكد لنا وجوده في العاصمة بغداد متخذا من ساحة الطيران قرب ساحة الأمة مسكنا له في رصيف مهجور يعيش فيه منبوذا مخدّرا متشاركا سلوكيات شائنة مع مجموعة من الأشخاص فيما يشبه العصابة التي تبتز أصحاب السيارات بعد أن يقوم سالم بافتعال التصادم مع سيارة فارهة يتم اختيارها ليسقط على الأرض ويتجمع حوله الناس، ومن بينهم أفراد العصابة التي تبدأ تبتز السائق حتى لا يتطور الامر ويصل للشرطة والقضاء، فمن الأفضل تسوية الأمر بينهم، وعليه ان يدفع مبلغ تعويض للرجل الذي تعرض للدهس، وقد نجحوا في أكثر من (مسرحية) من هذا النوع، ولكن لم يستمر مسلسل النجاح، إذ تم إلقاء القبض عليهم وتم رميهم في السجن.
أما فيما يخص هيكلية رواية الموت سحرا، من الناحية الفنية، فقد وزعها الروائي إبراهيم سبتي على مجموعة من (الشروعات) فأسماها (شروع أول الحاج كريم)، ثم (شروع ثان حديث أمي)، وهو بمثابة الفصل الثاني الأشد تشويقا في هذه الرواية، حيث يستعيد الراوي (البطل) حديثا من بطون الذاكرة لأمه تخبره فيه عن دماثة أخلاق عائلة سالم وطيبة زوجته (أم منير) لكنها تذكر له واقعة حصلت في إحدى المناسبات الاجتماعية في بيت سالم حيث تجمعت النسوة في هذا البيت وكانت أم منير ودودة طيبة جدا وخلوقة وكريمة لدرجة أنها كانت بلسما لجروح نساء الحي، لكنها في هذه المناسبة بالتحديد قامت بسلوك غريب فاجأت به جميع النساء الحاضرات، فقامت بأفعال هستيرية أرفقتها بضحكات هستيرية ثم أطلقت موجات بكاء متلاحقة ومريرة ونحيب لا تزال لوعته تشتعل في القلوب، كانت تلك الحادثة الغريبة تحصل لأول مرة من أم منير، وبعدها لاذت هذه المرأة بعزلة قاتلة لم تشارك بعدها في المناسبات ولا تزور الجيران مطلقا بل حتى السوق امتنعت عن الذهاب إليه، لتشتعل بعد ذلك حكايات الجن وأن البيت مسكون بالسحرة المشعوذين وبالأقزام الخبثاء الذين يرفعون التوابيت كأنها قادمة من أتون الحرب المشتعل أوارها ليل نهار في الجبهات التي لم تهدأ لحظة واحدة، وخروج الأشباح قبل الفجر من البيت في أرتال وجحافل متلاحقة باتجاه السماء.
الشروع الثالث تم تثبيته باسم (عصام مجيد) يقول فيه الراوي: ً(شارعنا لم يصبه التغيير سوى بعض البيوت تغير لون أبوابها، فالناس ليس بمقدورهم أن يهدموا بيوتهم ويبنوا بمكانها بيوتا جديدة لأن الحرب فتحت فاهها وابتلعت الشباب الذين كانوا يسترزقون في الأسواق وحُرِمت الكثير من العوائل من أبنائها)، في هذا الفصل هناك صورة مباشرة عن وقائع الحرب، وتوجد إشارات نتذكرها جيدا عن الامتعاض من الحرب، ومحاولات الشباب لإيجاد أكثر من طريق لتأجيل الذهاب إلى الجبهات سنة أخرى عبر الدراسة بشكل خاص، ولكن مثل هذه الصور السردية لا تتكرر كثيرا، ولم يكن لها حيّزا سرديا واسعا، لأن انعكاسات الحروب لم تكن مباشرة في حضورها، ومع ذلك طاقة الخيال أجّجت روح الرماد وحركت الجمر الساكن تحت الرماد، واشتعلت الصور من جديد، هكذا تتشابك قدرة الخيال مع نسيج السرد لترسم حكايات مسحورة نعيشها في شروعات متوالية، تتداخل مع بعضها في نسيج روائي مشوّق.
أما الشروع الرابع فحمل اسم (بركات)، ثم (شروع خامس.. منير وإخلاص)، ثم (شروع سادس .. الحاج سالم) وتُختَتَم رواية الموت سحرا بمفردة واحدة هي (أثر)، لنصل إلى نهاية رحلة الراوي مع السحر والجن والبيت المسكون، لنرى عبر هذه الرحلة صورا (معتّقة للحروب)، تخمّرت في ذاكرة السرد لتتمخض عنها رواية تستدعي جهدا خاصا للخوض في غمارها.
اضف تعليق