هناك علاقة جدلية وحتمية بين الديمقراطية -كمفهوم معاصر ومنتشر- وبين عملية بناء المجتمعات على أسس صحيحة خصوصاً إذا تبنتها المؤسسات المتعددة الاهتمامات والمتبنيات على صعيد الرؤى والأفكار التي تطرحها بهدف تنشئة أجيال خالية من العقد الماضوية، وتتعامل مع الإختلاف الطبيعي بإيجابية وتفاعل بنّاء. ومن المعروف أن العراق شهد تحولاً سياسياً بعد الإطاحة بنظام ديكتاتوري شمولي قائم على أحادية حزبية مقيتة، وصار له نظاماً يتبنى الديمقراطية كمفهوم، ويعتمد التعددية السياسية والمشاركة المكوناتية الواسعة في بنية النظام الجديد.
وبعد ثلاثة عشر سنة من هذه التجربة، ومع كل ما نتج عنها من تداعيات لامست المجالات المجتمعية والسياسية والإقتصادية، صار لنا أن نستفهم عن حقيقة النموذج العراقي الجديد على صعيد البناء الفكري، هل نجح أم أخفق؟
وبعبارة أكثر تفصيلاً ومباشرة، هل يمكن لهذا النموذج الجدلي أن يحقق ما يصبو إليه، في ظل مجتمع يتأرجح بين منطق التمدن والحرية من جهة، ومنطق البداوة والقبيلة من جهة أخرى؟، هل نفع التأريخ الذي يحدثنا بأن العراق يعتبر من أهم الحواضر العالمية التي أنتجت الأطر والأنماط الحضارية؟
عملياً، سيكون جوابنا: (لا)، لكن لابد بالمقابل من مناقشة هذه الـ (لا) القاطعة، ومعرفة الأسباب التي جعلت من بلد مهم ومحوري كالعراق يتخلف عن ركب التطور الحضاري والإنساني، وجعلته عاجزاً عن إنتاج الأفكار.
نعتقد أن هذا العجز يكمن في البنية المجتمعية العراقية، فمشكلة القبلية والعشائرية بدأت مع عصر مايسمى بـ (الفتوحات الإسلامية)، حيث ظهرت التجمعات العشائرية في منطقتي البصرة والكوفة، فصارت كل مدينة تتلون بلون معين من القبائل يغلب عليها الطابع الصحراوي ؛ بسبب الطبيعة الجغرافية للعراق، وهو ماترك آثاره على المجتمعات العراقية المتعاقبة، وكانت السمات العشائرية لازمت -بحسب كتابات المؤرخين- نشوء المدن التي أُنشأت مطلع القرن التاسع عشر.
معوق التمييز الطائفي
عندما يهيمن المنطق المذهبي على واقع معين، فهذا يعني أن الخناق يضيق على كل المجهودات الرامية لبناء فكري رصين لمجتمع يتبنى الديمقراطية. وطالما نحن نتمثل بالتجربة العراقية بين ماض وحاضر، يمكن القول أن العراق ومنذ عهود فُرِضَ عليه الواقع الطائفي، فالأكثرية الشيعية في هذا البلد عانت من التمييز المذهبي بعد أن وُصِفت بأوصاف عديدة، هذا التمييز يرجع إلى مراحل ماضية حيث أزمنة (الخلافة الإسلامية) أيام الأمويين والعباسيين، ولهاتين المرحلتين الزمنيتين أحداث هائلة يمكن الإستدلال بها على أبشع صور التمييز المذهبي. بل أن التأريخ لم يحدثنا ولو برماد قليل يذره في العيون عن أية عملية لما يُعرف اليوم بـ (التوازن)، وقد نستشهد بنموذج قريب نوعاً ما من عدة نماذج، إذ لم يستطع الشيعة من المساهمة في صياغة الدستور المؤقت للعراق في سنة 1970 وهم أكثرية واقعية في هذا البلد.
وقد فرض التنافر المذهبي وجوده بقوة حتى في المرحلة التي قيل انها من (الفترات الذهبية)، ابان حكم نظام حزب البعث ذي التوجهات العلمانية ونقصد بها مرحلة السبعينات من القرن العشرين الماضي، في الحقيقة كانت هناك دولة ومؤسسات، وكان هناك توجه للبنى التحتية، لكن ذلك لم يستطع اخفاء حالة تلاشي الفكر التنويري؛ بسبب الأحادية المفروضة حزبياً بالنار والحديد، فعملية إقصاء الفكر الإسلامي شكلت هاجساً مستمراً، خصوصاً الفكر الذي ينتمي لمدرسة لا تؤمن بالتسلط والإستبداد، مدرسة العدل والرفض وعدم الرضوخ، وهي مدرسة أهل البيت "عليهم السلام"، وشواهد هذا الإقصاء كثيرة لسنا بصدد الإسهاب فيها.
وفي ذات السياق لكن على الصعيد المجتمعي، راحت سلطة البعث تشكك وفق توجهاتها القومية المتطرفة بعروبة المكون الشيعي العراقي، واشترت أقلاماً واستأجرت كُتّاباً لهذا الغرض، أرجعوا أصول الشيعة إلى الفرس تارة، وإلى الصفويين والهنود تارة أخرى.
وبعد إفلاسها من هذا التوجه، وبعد الديون التي كثرت عليها نتيجة حرب الثمان سنوات مع إيران، ثم غزو الكويت وما ترتب عليه من آثار تدميرية على الجانب الإقتصادي العراقي، انتبه النظام إلى أهمية التقارب مع الإسلام ظاهرياً، بعد أحداث الحادي عشر من سبتمبر في الولايات المتحدة الأمريكية، لكن أي إسلام يجب على السلطة أن تتماهى معه وتنسجم رؤاها مع تصوراته ؟ لابد أن يكون إسلاماً قشرياً بمقاسات سلطوية يمكن بموجبها تبرير حماقات السلطة وغباءها، حتى وصل الأمر إلى تزاوج غير منسجم بين (وعاظ السلاطين) من الإسلاميين القشريين وبين المفهوم الفارغ من مضمونه أصلاً (الديمقراطية مصدر قوة للفرد والمجتمع).
إن كل هذه الممارسات التي انتهجها النظام في تلك الفترة ؛ أدت إلى زيادة مساحة الإبتعاد بين المجتمع وبين الفكر الذي يمكن أن يُنتج من أجل الإرتقاء إلى مستويات تخدم البشرية، حتى مع كثرة المؤتمرات والفعاليات التي أرادت تجميل الصورة الخارجية لنظام استبدادي، سرعان ماانكشفت على حقيقتها ومن ذات المنطق القومي الذي تشدق به، وذلك بعد حادثة غزو الكويت واحتلالها في عام 1990.
المركزية ورقابة الأدلجة
يمكن أن تلعب المركزية دوراً في إعاقة عملية انتاج الأفكار المتجددة، والمركزية في مجتمعاتنا تأخذ أنماطاً وأشكالاً متعددة، وقد تطورت هذه الأنماط من فترة زمنية إلى أخرى، لكنها في ذات الوقت ظلت محافظة على جوهرها الأصلي المتمثل بأحادية القرار، فمن مركزية القبيلة والعشيرة، إلى مركزية الحزب وصولاً إلى الشكل الذي يجعل نظام الدولة نظاماً مركزياً شمولياً. وأمام هذه السطوة الكبيرة كان الحلم بإنتاج أفكار غير تقليدية تساهم في بناء المجتمع بشكل ينسجم مع مايحدث من تحولات في تقهقر مستمر، بل وصلت الدرجة بـ (المركزيين) إلى اتهام مروجي الأفكار الجديدة ومنتجيها بتخريب النظام والعمالة للإستعمار، وغيرها من الإتهامات، فكيف يتطور الفكر ويُبنى على أسس صحيحة في ظل وجود هكذا سلوكيات دأبت على ممارستها الأنظمة القمعية والديكتاتورية؟.
واليوم، وبعد زوال هذه الأنظمة العابثة بمقدرات البلدان ومواردها الإقتصادية وخيراتها، صارت هناك ضرورات لتفعيل المؤسسات التي لاتخضع لأدلجة النظام السياسي الحاكم، مهمتها الرئيسة إنتاج الأفكار التي تساهم في تحقيق التنمية المجتمعية، مؤسسات فاعلة ومتنوعة الحقول والميادين فكراً وثقافة واقتصاداً.
إن المؤسسات والمنظمات الفاعلة هي -بلاشك- من سيرسي دعائم ومقومات الديمقراطية الحقيقية، أما الخضوع للرقابة المؤدلجة، وممارسة تجميل كل فعل يصدر من النظام ؛ لن ينشأ معه مجتمع ديمقراطي، حتى ولو زاد عدد المؤسسات أضعافاً على عددها، وحتى لو رفعت شعاراً لاتعرف منه غير كلماته التي لاتمت لمنهجيتها بصلة كشعار ( الديمقراطية مصدر قوة للفرد والمجتمع )، ذلك الشعار المفرغ من محتواه، فالديمقراطية عند الأنظمة الشمولية تعني أن يمشي الفرد خائفاً حتى من الطريق واشارات المرور، هذا النوع من الديمقراطية يعتمد مصادرة كل علاقة للفرد مع الوعي والفكر. لابد إذن من علاقة تفاعلية وتشاركية قائمة على الصراحة والنقد البناء بين نظام الدولة ومؤسساتها المدنية على اختلاف توجهاتها، لا أن يتم إنشاء المنظمات لتكون بوقاً دعائياً كما حدث في تجربتنا العراقية منذ قيام النظام الجمهوري في العراق وحتى 2003، حيث كانت المنظمات خاضعة بشكل كامل لتفكير النظام على الرغم من تنوع توجهات هذه المنظمات وأعدادها، كالجمعية الفلاحية واتحاد نقابات العمال والاتحاد الوطني لطلبة وشباب العراق ونقابة الصحفيين والاتحاد العام للأدباء والكتاب والمنظمات التي تعنى بحقوق الطفل والمرأة وغيرها، فالكل منسجم مع تفكير الدولة أو بعبارة أدق مع إيديولوجية النظام وطريقة تعاطيه مع الأحداث، إذن هي مؤسسات شكلية، وتقدم في حقيقتها نموذجاً تبريرياً لتغييب الفكر وفق منهجية في الوقت الذي كان يجب أن تكون فيه الصوت النخبوي لتطلعات الشعب، وبريداً مدنياً يصل إلى القنوات الرسمية.
وفي تجربتنا الماثلة أمامنا اليوم، وإن كان ثمة ما يقال عليها نقداً وتقويماً، يمكن تقديم النموذج المتوازن بين شكل الدولة العام وطريقة إنتاج الرأي المتحرر، ومع هذا التوازن توجد بعض الإرباكات التي نتجت ؛ بسبب التحولات التي تترك آثارها على مشهدية الوضع العراقي في عديد مستوياته، وتزال هذه الإرباكات كلما تم التقدم بثقة وإصرار إلى الأمام، مع الإيمان بمشروعية الهدف وأفكاره المنسجمة مع العصر ومتغيراته.
اضف تعليق