"تظل الحقيقة المحمدية قائمة محجوبة قابلة للقراءة المتجددة ويظل فعل الفهم والتفسير والتأويل فاعلا فيها دون أن ينتهي طالما أنها تستند منذ البدء إلى نص إعجازي يفوق أي نص لغوي آخر ويفيض على الوجود بسحره وبيانه"1
يبدو أن الإسلام السياسي في دائرة الناطقين بلغة الضاد قد صعد منذ مدة إلى القيادة التاريخية والسياسية للأمة بعد فشل عدد من السرديات الكبرى (التيار الماركسي والتيار القومي) وبالنظر إلى الاستفادة من النزعة المحافظة في أوساط النخب وتبنيه خيار التقدم وإحراز المزيد من التقارب مع التيار الليبرالي.
بيد أن الصعود جاء مصاحبا بمواقف نقدية وتحفظات صادرة من جهات رسمية وتقليدية وعدد من المفكرين الحداثيين.
- لقد اعتبر الرأي الأول الإسلام السياسي وجه آخر للرأسمالية المتوحشة وتم تكوينه من أجل خدمة الامبريالية وترتب عنه تصنيع الخوف والإرهاب والتصادم مع النموذج الحداثي العصري للدولة.
- أما الرأي الثاني فقد كشف عن تناقض بين مرجعية الإسلام السياسي والدين الإسلامي ومنطق التطور وينادي بالخروج عن التاريخ والسكون في الماضي ويمثل ردة فعل على التأخر الحضاري ويجد صعوبات في التأقلم مع الأوضاع والقيم الجديدة ويمثل أحد العوامل التي تكرس التخلف ويخطئ في توصيف الحلول الناجعة للخروج من الأزمة الحضارية الشاملة وبالتالي يكون قبول الحداثة الغربية هو الخيار الوحيد الذي تبقي للمسلمين لفهم الإسلام وإحراز النقلة النوعية.
- الرأي الثالث يتهم الإسلام الأصولي بالفاشية والتطرف وذلك لاعتقاده في الحقيقة المطلقة واستعماله القوة المسلحة من أجل تحقيق التوسع والانتشار، وبالتالي يحمله مسؤولية التصادم بين الحضارات والكراهية بين الشعوب ويرى أن نزعة العنف والتصفية قد تؤدي الى سقوط الحضارة الإسلامية.
صحيح أن الآراء المختلفة تحمل وجها من المعقولية وقابلة للاعتراض في آن إلا أن حركات الإسلام السياسي تبقى رقما صعبا في ظل التحولات المعاصرة معطى واقعيا لا يمكن تجاهله أو الاستخفاف بقدراته وذلك باعتباره المحرك للعديد من التغيرات التي وقعت في المنطقة العربية وبالنظر إلى الأدوار المحددة التي يقوم بها في لعبة الأمم وفي التطورات الإقليمية والعلاقات الدولية.
ربما ما يشهده هذا التيار في الآونة الأخيرة من تأرجح بين قيادة المعارضة الاحتجاجية من جهة وتحمل مسؤولية الحكم من ناحية ثانية دفعه إلى التخلص من لاهوت اليأس والسلب وتبني نظام الديمقراطية وثقافة حقوق الإنسان وتراوحه بين الارتداد إلى الماضي من أجل الإحياء والاسترجاع والتكيف مع الواقع وصنع الآتي.
لقد أدى ذلك إلى تزايد الاهتمام بعودة الديني في الحياة المعاصرة وتراكمت البحوث والدراسات حول ظاهرة استخدام الأديان في الصراع السياسي وتكلم البعض عن صحوة ويقظة وانبعاث ونهوض وحراك وتجدد وإحياء وعارضه البعض الآخر بالإشارة على العولمة المتوحشة وعودة الاستعمار بصورة مختلفة والوقوع في الخطاب الهوياتي والارتداد نحو الماضوية والتقليد ونبه من خطورة التفريط في المكاسب المواطنية.
1- فهل أن مشروع الإسلام السياسي له ما يبرره اليوم؟ هل ينتمي إلى دائرة المجتمع المدني أم المجتمع السياسي؟ والى أي مدى يجوز التعويل عليه في إنجاح مسار ربيع الشعوب وتمدين الدول ومقاومة الرداءة والانحطاط؟
2- يطرح الإسلام السياسي قضية العلاقة بين الفقه والحكم والصلة بين الشيخ والمريد ضمن إطار حلقة المعرفة والسلطة ويقتضي إجراء قراءة علمية للسردية الثابتة وبناء هوية قصصية متطورة.
3- من المهم تناول قضية طبيعة الخطاب الديني في علاقة بالفضاء المسجدي والإعلامي وضمن نظم التربية والتعليم وحضوره في الإطار الثقافي والسياسي العام وضبط مواطن المحافظة والإصلاح والتجديد والثورة فيه والاتجاه نحو إعادة بناء العلوم الأصلية بالاعتماد على مناهج مستحدثة.
4- يتنزل الإسلام السياسي من حيث المرجع ضمن الدائرة الحضارية الواحدة ولكنه من جهة التطبيق يختلف من تجربة إلى أخرى ويتنوع من دولة إلى غيرها حسب خصوصية الحركة وتغير السياقات ويقتضي الأمر معرفة الجوانب الاستثنائية في كل تجربة واستخراج النقاط الكلية التي تجمع بين مختلف التجارب التاريخية الماضية والراهنة من أجل غربلة الأخطاء وتجاوز كل أشكال التردد والتعثر وتطهير المسيرة نحو الاستفاقة والتحديث والارتقاء.
لكن ماهو عند العامة والخاصة الإسلام السياسي؟ وما الفرق بين التجارب العربية في الإسلام والتجارب غير العربية؟ لماذا حصل إجماع حول ضرورة مغادرة منطق الاحتجاج والمعارضة وأهمية المشاركة في تسيير الشأن العام؟ أين الخلل الذي وقعت فيه الأحزاب الإسلامية؟ وهل المشكل في السياسة العرجاء أم في البنية الفقهية الثابتة؟ وما العمل من أجل تجديد الفكر الإسلامي وتدارك ما فات؟ هل التناقض يظل محتم بين الإسلام السياسي من جهة والتيارات الماركسية والقومية من جهة مقابلة؟ ألا يمكن حوار بين المكونات السياسية لللأمة وبناء كتلة تاريخية على أساس الوحدة الوطنية؟
والى أي مدي يمكن تجاوز الأمية الحادة بين النزعة العلمانية والنزعة الإيمانية؟ وماهو الدور الذي لعبه الإسلام السياسي في تحديد طبيعة العلاقة بين الشرق والغرب؟ وهل هو عنصر توتر وتصادم أم عامل تهدئة ووسيط تفاهم وسلام؟ ماهي حدود الأطروحة التي تربط بين الإسلام والإرهاب؟ ومن يتحمل مسؤولية الإساءة إلى الإسلام والمسلمين؟ هل هي نزعة جلد الذات والفوات الحضاري أم حالة التركز على الذات والنزعة العنصرية عند الآخر؟
متى ينهي الفكر البشري ثنائية الأنا والآخر، والنحن والهم، والعرب والعجم؟ كيف يجب التعامل مع حالة الخوف من الإسلام التي تفشت في النخب العربية وفي الأوساط الشعبية والسياسية الأوروبية والغربية؟ هل يجوز الحديث عن إسلام بلا سياسة وعن سياسة محايدة عن الأديان؟ أليست ثقافة الإسلام هي من حيث التجربة التاريخية للعلماء أنسنة بلا ضفاف؟ فما قيمة الحديث اذن عن إسلام ديمقراطي عقلاني يوضع مكان إسلام سياسي احتجاجي؟
اللافت للنظر أن العديد من التحديات والعراقيل تقف حجرة عثرة ضد عودة الإسلام إلى الواجهة وتحوله في قوة روحية حقيقية تمارس ضغطا عاليا وتمثل فائض قيمة في المنظومة المعيارية للحياة المعاصرة يمكن ذكر البعض منها:
- عداء المسلمين المضطهدين للغرب الغازي وإنتاج خطاب مناهض للأجنبي ضمن زمن مابعدكولونيالي وعداء الغرب المسيحي اليهودي للدين الإسلامي ضمن رؤية متمركزة على ذاتها وتعتبر عولمة السوق ديانة جديدة تحمل الخلاص والرخاء والرفاه والسعادة للبشرية.
- الاستخدام النفعي للإسلام أدى إلى إحداث شرخ في البنية السياسية للدين واللاوعي الديني للجماعات السياسية وأحدث توتر بين الوحي والواقع ووقع انفصال ولا اتصال بين الديني والدنيوي بحيث شن الديني هجوما كاسحا على الدنيوي وحاول الدنيوي كنس الديني من مجاله بظهور نزعات الدهرنة والارتياب واللاإعتقاد والنسبية الثقافية والتعددية المعرفية من جديد.
- الفزع من التأويل العصري للقرآن ومحاولات أنسنة الوحي وظهور بوادر أزمة في بنية الثقافة العربية وتعطل المشروع النقدي واندلاع صراع بين المرجعيات وضبابية في المصطلحات وتأخر انجاز الإصلاح الديني بسبب تفشي فلسفة الإقصاء وذهنية التحريم.
- نجاح نسبي في قيادة المعارضة الاحتجاجية للسلطة السياسية القائمة وتعثر كبير في تحمل مسؤولية الحكم والعجز على التصدي لأشكال الانقلاب على المكاسب الديمقراطية والارتداد عن المسار الثوري الى التجارب الشمولية.
من هذا المنطق لكي يتم تحديد المنزلة الإجرائية لحضور الإسلام بجميع تمظهراته ومذاهبه في اللعبة السياسية ولكي يتسنى نقد نظرياته وتسديد فحوى ممارساته حري بنا الاهتمام بالمسائل التالية:
الاشتغال على تنقية مفهوم الإسلام السياسي من كل مواطن الغموض وأساليب التشويه التي تعرض لها وذلك برسم الحدود الفاصلة بين الدين والدنيا وإدراك المجال الذي ينتهي فيه الإسلام وتبدأ السياسة ورفع اللبس عن هذا المفهوم المشحون بالايديولوجيا واليوتوبيا.
التفكير في مجال صلاحية الدين في الشأن العام ونقد الاستعمال الانتفاعي من أجل التسلط وترشيد الاعتماد على الينابيع الإيمانية من أجل رفع الظلم وإقامة العدل والانتصار إلى القيم النيرة. علاوة على ذلك يستحسن التركيز على الأدوات الإجرائية التي تمكن من الانتقال من قيادة المعارضة الاحتجاجية إلى الاقتدار على تحمل مسؤولية الحكم والالتزام باستحقاقات المرحلة.
ما يمكن التحفظ عليه هو قدرات الإسلام السياسي على الالتزام بتحقيق جملة من المطالب العاجلة:
- المساهمة في النضال الاجتماعي والائتمان على الحراك الثوري وتمكين الشرائح الكادحة من الوعي بذاتها ونيل حقوقها والمحافظة على مكاسبها في ظل عودة للنظريات الليبرالية المحافظة.
- السير في اتجاه التكامل العربي وتشجيع كل أشكال التقارب والتحاور والتعاون والتضامن بين الدول العربية ضمن الإطار السياسي الرسمي وضمن شبكات المجتمع المدني والفضاء الأهلي.
- المشاركة في بناء رؤية قيمية كونية والانتصار إلى القيم الإنسانية التقدمية ضمن رؤية منفتحة على الآخر والتعامل بندية ومسؤولية مع منتجات الثقافات الأخرى والإيمان برسالة العلم والتقنية.
في نهاية المطاف يمكن الإقرار بحصول تفاعل بين الديني والسياسي في الإسلام من جهة المصلحة الدنيوية وفي سبيل إعلاء القناعة الإيمانية، إذ في البدء تم منح الأولوية للسياسي من أجل تدعيم الاعتقاد الديني وتثبيت أركانه في الأرض، ولكن بعد ذلك قام الحكام بإعطاء الأفضلية إلى الديني على السياسي بغية كسب المشروعية وطاعة الناس. فهل يجوز الفصل بين الدعوي والسياسي من جهة الواجب اذا ما كان التلازم بينهما متكامل من جهة الواقع؟ ألا تدخل معضلة نظرية الحكم في الإسلام في باب الدراية بشؤون الدنيا؟
اضف تعليق