عندما تتفق شرائح واسعة حول قضية معينة، بأكثرية مطلقة، أو نسبية بتفوق عددي، فعندها يمكن وصف هذا الإتفاق بأنه رأي عام؛ كون القضية المتفق على الرأي بشأنها ذات مساس مباشر بما يجول في رأس الشريحة المجتمعية من تطلعات وآراء وأفكار، تصب أولاً وأخيراً في صالح المصلحة العامة.
إن صناعة الرأي العام أمر بالغ الخطورة؛ لأنه قد تكون له نتائج سلبية على الواقع المجتمعي، خصوصاً إذا جانب الصواب وانحرف عن حقائق الموضوع الذي تكوَّن لأجله، وهو أمر يمكن ملاحظته في السنوات الأخيرة حيث الأحداث المتسارعة والإلتهاب السياسي والإقتصادي والأمني، وامتداده من ساحة الصراع الأصلية (الشرق الأوسط) إلى أوروپا والولايات المتحدة الأمريكية.
ومن المهم جداً، حين يقوم صانعو الرأي العام بوسائل دعائية وإعلانية، أن تتم عملية قراءة وتمحيص لهذا الرأي من قبل النخبة الثقافية قبل أن تتبناه العامة التي ستردده كشيء مُخْلَصٍ مُسَلَّمٍ به، حيث يطالعها في في كل الوسائل الإتصالية والمعلوماتية بتأثيرها الكبير الذي لايُنكر، وهذا التمحيص النخبوي من شأنه تعطيل أو إجهاض عملية تضليل العامة وخداعهم.
ولعل المشكلة الرئيسية هي تحول النخبة إلى عامة مُقلدة، الأمر الذي سيزيد الأمور سوءاً وضبابية؛ لأسباب تتعلق بعدم جدية المشروع الثقافي، أو لسطحية النخب على صعيد التحليل والرؤية، أو لعرض الضمائر في سوق المزايدات والمواقف الرخيصة من أجل الحصول على مكاسب آنية ضيقة.
وقد لعب الرأي العام دوراً كبيراً في المرحلة الحرجة التي مرت وتمرُّ بها المنطقة، لكنه - للأسف - كان سلبياً لم ينسجم مع دوره الحقيقي وسط انزواء نخبوي، أو تماه مع مشاريع السلطات.
ويمكن لنا أخذ التجربة المصرية في المرحلة التي تلت حكم مبارك، ونرى كيف أنتجت الحقبة (الإسلامية) الجديدة رأياً عاماً، وكيف أثَّر هذا الرأي على عموم المجتمع المصري.
أكثر شيء يمكن أن نحصل عليه من التجربة المصرية، هو الموقف الرائع للنخبة المثقفة في مصر التي لم تنطل عليها إجراءات الإخوان المسلمين القشرية، فأسست وعياً التفت حوله شرائح المجتمع، فكانوا سبباً في قلب المعادلة بعد إظهار الوجه الحقيقي للسلطة السلفية، والذي كان متخفياً خلف ألوان وردية الظاهر سوداوية الباطن.
إن عملية صناعة الرأي العام امتدت لتشمل مساحات واسعة من خريطة الذهن المجتمعي مع تعدد وسائل الإتصال والتواصل مثل فيسبوك وتويتر وتليغرام وغايبر وغيرها، فضلاً عن التأثير الكبير لوسائل الإعلام المرئية في عملية توجيه العامة وفقاً لسياساتها وسياقاتها، مايتطلب الحذر والإنتباه من المواد التي تنشر عبر هذه الوسائل، والتصدي لممارسات التضليل بلغة هادئة تعتمد الصدق في طرح المعلومة بعيداً عن الإستفزاز، لغة تنأى عن التحدث بانحياز فئوي أو جهوي على حساب المصلحة العامة، لغة تركز على لم الشمل وتنبذ التنازع والإختلاف مؤسِّسةً لنموذج تعايش سلمي.
بين الباطن والظاهر
في كتابه (الرأي العام والإعلام - دراسة منهجية) للمجدد الشيرازي الثاني، يقسم الرأي العام إلى عفوي وتحصيلي، وخامل وفعال، وباطني وظاهري، فيعبر عن الخامل بأنه حالة اللامبالاة الناتجة عم ضعف ووهن وشعور باللاجدوى تصيب المجتمع، بعكس الرأي العام الفعّال الذي ينتج ثورات شعبية ضد الممارسات السلطوية الجائرة، لكنه يحذر من الإنقلابات العسكرية؛ لأنها تؤدي إلى تأخر البلدان وتجر شعوبها للتخلف.
أما فيما يتعلق بالتقسيمين الباطني والظاهري، فإنه يرى الرأي العام الباطني متمثلاً في حالة الرضى او الرفض المجتمعي لحالة معينة من دون القدرة على التصريح علناً بالقبول أو الرفض، واستشهد بالمزاج المجتمعي الإسلامي أيام تولي يزيد بن معاوية (الخلافة)، حيث أن المجتمع في داخله لايرى هذا الشخص المتحلل أهلاً لما وكل به، وفي ذات الوقت لايستطيع التعبير عن رفضه خوفاً من البطش والجور، وهو ماشرحه الفرزدق للإمام الحسين عليه السلام بقوله (قلوبهم معك وسيوفهم عليك).
غير أن المجدد الشيرازي يرى أن لهذا النوع من الرأي العام تأثيراً إيجابياً، فهذا الباطن كان سبباً في قيام ثورة المختار الثقفي التي أبادت أكثر من ثلاثة آلاف شخص شاركوا في جريمة قتل الإمام الحسين عليه السلام بكربلاء، وماتلاها من أحداث انتهت إلى زوال حكم بني أمية الجائر.
وعلى النقيض من الرأي العام الباطني، يعبر الشعب عن هواجسه وآرائه ظاهرياً؛ وذلك لميل النفس للتعبير عن الآراء فيتم تكوين الرأي العام داخلياً، وبعدها يتم توجيهه إلى الخارج.
الحالة العراقية
يمكن تتبع طرائق صنع الرأي العام في العراق، خصوصاً بعد التغيير الحاصل في 2003، إذ لايمكن عد هذا التغيير سياسياً فقط بإزالة النظام الديكتاتوري، فالتغيير المجتمعي كان له صداه الواضح والمميز، إلا أنَّ الضجيج السياسي غطى عليه، فقد صار الحديث عن حرية المرأة مثلاً مشاعاً لدرجة نسف الثوابت الإجتماعية والأخلاقية، ناهيك عن الثوابت الدينية حتى مع محاولات طمس الخصوصية الدينية له. ومثلما قلنا أن للإعلام الفضائي - انتعش كثيراً بعد 2003 - دوراً في توجيه الرأي العام وصناعته، فإن ذلك بدا واضحاً في التجربة العراقية الجديدة حيث كثرة الفضائيات المرتبطة بتوجهات لاتنسجم وفطرة مجتمعاتنا، فصار من الممكن - وإن في أماكن محددة - جلوس البنت أمام والدها أو إخوتها وهي تدخن السيجارة أو الأرجيلة في الأماكن العامة، وهو مالم يكن مألوفاً في السابق، أو مثلاً ظاهرة مايسمى بـ (رد فعل الزوجة) بدافع الإنتقام من الأزواج، وذلك عن طريق إقامة العلاقات غير الشرعية - والعياذ بالله - على المستوى الواقعي أو الإفتراضي بوساطة الفضاء الإلكتروني.
هذه السلوكيات تندرج تحت يافطة (حقوق المرأة)، بفعل تكثيف برامج الفضائيات التي تركز على هذه الموضوعات من خلال التقارير والتحقيقات الصحفية، والمسلسلات الدرامية والأفلام السينمائية، وغيرها من الإتجاهات البرامجية المقلدة للغرب في شؤون بعيدة عن واقعنا وقيمنا، وكأن هذه الممارسات عبارة عن تحديث (Refresh) للدعوات السابقة، والتي رافقت دخول الإستعمار البريطاني للدول العربية ومنها العراق، حيث تم تجنيد الطاقات الأدبية؛ لصناعة رأي عام سلبي كما في قصيدة الشاعر جميل صدقي الزهاويالتي دعا النساء فيها لترك الحجاب بوصفه من مخلفات وتراكمات قديمة، أما الآن، فلم تعد هناك حاجة للزهاوي وقصيدته بفضل وجود الفضاء الإتصالي المتنوع.
إن هذا التسارع في الأحداث والتحولات الكبيرة جعل من صناعة الرأي العام عملية مصطدمة مع منهج الإنسان وفطرته، بينما من الأفضل صناعته بما يتطابق مع الخط الإنساني.
يقول فرديناند تونيز : " إن الوظيفة الرئيسية من وظائف الرأي العام في تنظيم المجتمع هي اختزال أخلاقيات ذلك النمط من الحياة بقصد تحويلها إلى قواعد ومناهج، وبالنسبة للرأي العام فإنه يكون من اليسير التماس القوى ذات الطغيان، ضد الطبقات السفلى، مثلما يكون من اليسير طلب منح الحرية للطبقات العليا. والصحافة هي السلاح الحقيقي للرأي العام، إنه سلاح وأداة في أيدي أولئك الذين يعرفون كيف يستخدمونها، وكيف يجعلونها تخدمهم،… ، إن الرأي العام هو مايتصل بالموضوعات المتنازع عليها القابلة للجدل والمناقشة بالنسبة للجماهير المعنية، لاتلك الضروب من الحياة العقلية الثابتة ".
يقدم تونيز في هذا المقطع خلاصة رائعة لمفهوم الرأي العام بحيث يمكن اتخاذها منهجاً يحتج به على الذين يوجهون العامة بأنساق من شأنها الإطاحة بالمُسلَّمات عن طريق الصحافة عبر استخدام نفوذها سلبياً فتصبح الأنساق شائعة يلتزم بها الجميع وكأنها عملية استنساخ ولصق للأفكار بدون حوار أو نقاش، كما هي الحال مع أكثر معتنقي المذاهب الماركسية أو القومية وغيرها من التوجهات الفكرية والسياسية، وكأنّهم حُقِنو بمبادئ هذه التوجهات وأدمنوا عليها؛ حتى صارت جزءاً لايتجزأ من سلوكياتهم، بل ويحاولون توريثها لأبنائهم وأحفادهم، ولك عزيزي القارئ أن تتخيل النتائج الوخيمة التي تترتب على صناعة رأي عام بهذه الطريقة السطحية.
اضف تعليق