مفهوم الحرية في الفكر الغربي أخذ حيزاً واسعاً من عقول بعض المثقفين بحيث جعلوه المثل الأعلى الذي يتطلعون إليه مع أن هذه الحرية الليبرالية تجاوزت الحدود المشروعة بل والمعقولة في كثير من الجوانب حتى صارت تتجاوز الأخلاق والقيم وتدوس حقوق الغير وتطلق الغرائز الحيوانية التي تحط من قيمته ودوره (الوجوديون من أمثال سارتر). ولو أنهم بحثوا عن مفهوم الحرية في الإسلام بعمق لاكتشفوا الكثير من المعاني والرؤى التي تعطيهم أبعاد الحرية المسؤولة حرية الفكر والروح، وحرية الفرد وسلطته على نفسه وماله وحقوقه، والحرية في الإسلام تحرير الإنسان لنفسه من طغيانه الشهوات وجبروت الاستبداد (لا تكن عبداً لغيرك وقد خلقك الله حراً) أمير المؤمنين.
والشورى أحد المفاهيم الأساسية التي غفل عنها بعض المثقفين فأخذ البعض منهم يعتبرها مجرد حالة أخلاقية ينصح بها الإسلام المسلم في حياته الشخصية ولا ربط لها بالأمم والشعوب وحياتها الحضارية، وفي الاتجاه المعاكس رفع البعض راية الديمقراطية التي هي عصارة الفكر الرأسمالي الغربي ذلك الفكر الذي يرى أن قيمة المال ومقدار الربح فوق كل شيء حتى الإنسان الذي يدعي رواد الديمقراطية أنها في خدمته ومن أجل الحفاظ على حقوقه، وليس النقاش الآن في مفهوم الديمقراطية وسلبياتها (إذ لا شك أن الديمقراطية تحمل بعض الايجابيات وخصوصاّ إذا قورنت مع مساوئ الدكتاتورية)، بل النقاش والبحث في مفهوم الشورى الذي يحتاج إلى التأمل في حدوده وأبعاده بتعمق بعيداً عن النظرة السطحية التي قد تسلب هذا المفهوم حقه من البحث والدراسة، وحتى يمكن اعطاء رؤية موضوعية ومنصفة لابد من دراسة مفهوم الشورى كمفهوم بحد ذاته مع غض النظر عما تقوله الأدلة الشرعية من وجوب العمل بها مناقشة لأولئك الذين فضلوا الديمقراطية الغربية.
فالشورى على الصعيد التطبيقي كلمة لها امتدادات واسعة يمكن أن تبني من خلالها نظرية متكاملة قادرة على تغذية الحاضر بالكثير من الرؤى والبرامج، بالاضافة إلى الآفاق التي تخلقها للمستقبل.
ومن الواضح أن الشورى لا تختص بالتشاور بين اثنين بل تعم، اذ ان الغرض من التشاور هو تمحيص الآراء واستكشافها من اجل التوصل على أفضل الحلول والصيغ، لذلك كلما ازداد المتشاورون زادت فرص الحصول على الأفضل والأصوب، وإذا كان بناء العقلاء على التشاور في الأمور الخاصة، فإن الأمر يصبح أكد وأكثر ضرورة عندهم إذا تعلق الأمر بالمصالح العامة التي يشترك فيها الآخرون، وحينئذ فلا يستطيع أي شخص أن ينفرد باتخاذ قرار ما لوحده ليتصرف في شؤون الآخرين إلا إذا حصل على تفويض من الآخرين بالتصرف: (كل شيء يرتبط بشؤون الأمة لابد فيه من الاستشارة.. إنها تكون المال بمال الأمة ولا يحق لأحد أن يتصرف في مال غيره إلا بإذنه..) الشورى في الإسلام للإمام الشيرازي.
وبما أن الشورى ترتبط ارتباطاً أساسياً بالمصالح العامة، حيث يمكن أن تضمن الحفاظ عليها وعدم ضياع حقوق الناس إذا طبقت بشكل كامل تعد من أبرز المقاييس في تحقق العدل والإنصاف بين الناس كما ترسم النظام الذي يستند له المجتمع في عملية التوافق الاجتماعي وعدم حصول اجحاف أو ظلم بحق الآخرين في الآراء وفي المكاسب والمعطيات، فالشورى الكاملة تعني حينئذ الحفاظ على المصالح العامة وتحقيق العدالة.
يمثل الشورى في بعض جوانبه منهجاً للبحث عن الحقيقة عبر عملية طلب الرأي من الآخرين، فالإنسان بطبعه محدود الفكر وغير قادر على رؤية كل جوانب الموضوع، لذلك فإنه قد يرى بعض الجوانب ويغفل عن الجوانب الأخرى كما قد تدفعه اتجاهاته الذاتية ونوازعه النفسية أحياناً للتركيز على بعض الجوانب دون البعض الآخر.
إن ما تصنعه الشورى هو استكشاف جوانب الموضوع وخوافيه بجمع الآراء وغربلتها للوصول إلى الأصح والأكثر صواباً، لذلك تمثل الشورى طريقاً مثالياً للوصول إلى الواقع ولو في الجملة، أي أنها تشكل المنهج الأقدر في تحقيق التوازن الفكري والاجتماعي والسياسي بحكم كونها المعيار الذي يحتكم إليه المجتمع في عمليه الفصل بين الآراء المتنازعة والحقوق المتعارضة وتشخيص الموضوعات بصورة أفضل.
الحرية والشورى:
ولكي تحقق الشورى عملياً لابد من وجود الحرية والقدرة على الاختيار، لذا فإن الحرية تشكل البناء الأساسي الذي تعتمد عليه الشورى، إذ لا يمكن أن تتم مداولة الآراء وتحاور الأفكار غالباً ما لم يتمتع الرأي المشارك بعملية الشورى بحريته الكاملة في إبداء رأيه ومناقشة الأفكار الأخرى، وإلا فإن الشورى قد تفقد قيمتها الأساسية وتصبح نوعاً من العبث أو شعاراً يخلوا من المصداقية.
فالشورى مفهوم لا يتحقق من دون تحقق الحرية بشكل عملي لذا يعد البعض الالتزام بها التزاماً بالحرية والالتزام بالحرية التزام بالشورى فهما أمران متلازمان لا ينفكان من ناحية المصداق الخارجي إن كانا متفارقان مفهوماً.
ومن هنا ينبثق من مفهوم الشورى معنى آخر وهو ذلك التضاد الحاصل مع مفهوم الاستبداد، الذي يعني تحكيم الرأي الواحد والاستغناء عن الآراء الأخرى وإن اسلتزم ذلك الإكراه والإجبار على الخضوع لهذا الرأي المستبد، لذلك فهما أمران لا يجتمعان فلا يمكن وجود شورى مع سيطرة وتحكم الرأي الواحد، إذ أن مفهوم الشورى يعني تعدد الآراء وتنوعها واختلافها، وبعبارة واضحة إن مصداقية الشورى تظهر في تعددية الآراء وحرياتها.
ثمار الشورى:
أحد المعاني الجوهرية التي يصوغها لنا مفهوم الشورى هو قدرة هذا المنهج على امتصاص النزاعات واحتواء الأزمات التي قد تحصل بسبب اختلاف الآراء أو تعارضها، وما يفعله منهج الشورى تنظيم هذا الاختلاف وفق قواعد وأسس قد توفر فرصاً سانحة للتفاهم والتنسيق ثم المشاركة السليمة في إنجاز الأدوار. وبدون الشورى إما أن يتحول الاختلاف إلى فوضى تؤدي إلى العراك أحياناً أو استبداد يعمق النزاعات ويوسع الشروخ أحياناً أخرى فإن العديد من التنازعات تنشأ في الأجواء والمجتمعات التي لا تملك سعة الصدر اللازمة في تحمل الآراء الأخرى ولا تستطيع أن تدخل في معادلة مداولة الأفكار وتنوعها.
فإن الانفتاح أمام تعدد الأفكار لا يعني خلق أزمات تنتهي إلى التصادم، بل أن ينتهي إلى التصادم وخلق الأزمات وهو الانغلاق حيث يستبيح الرأي الآخر ويخنقه وهو حرمان الإنسان من ابسط حقوقه الفطرية المشروعة وهو اختياره الحر في إبداء رأيه والتعبير عن ذاته. ومعلوم أن الإنسان عندما لا يجد الفرصة الكافية للتعبير عن رأيه بصورة سليمة تبرز اتجاهاته العنيفة والتصادمية في محاولة لإبراز ذاته ولكن منهج الشورى يبرمج عملية التنوع والتضاد بأسلوب منظم يحول الاختلاف إلى طاقة إيجابية وروح تنافسية بنّاءة، وبذلك تكون الشورى صمام الأمان الذي يحمي المجتمع من التفكك والانشقاق ويقوده نحو التماسك والوحدة والتضامن بعد أن يتحول كل انسان ينشأ في ظل هذا النهج الى إنسان مسؤول يكافح بقوة من أجل حماية الآخرين والدفاع عن أفكارهم، لأنه يشعر حينئذ بأنه يدافع عن نفسه وفكره وحقه، الشورى بعبارة ملخصة تعني التنافس البناء.. الوحدة والتضامن.. تعلم المسؤولية.
وقد يفهم من الشورى أنها النهج الأفضل القادر على استثمار الطاقات واستيعابها وإدارتها بشكل متميز وناجح، لأن الشورى تعني أن الأولوية للمجموع الذي ينطلق في سبيل الصالح العام، وبهذا تأخذ الطاقات المتنوعة في مواهبها وقدراتها الحيز المناسب في استثمار فعالياتها، ولذلك تتألق الطاقات الإنسانية في ظل الشورى وتنبعث مواهبها الذاتية الضامرة وتنمو ملكه الابداع والابتكار لتخلق حركة إنسانية متقدمة نحو القمة والعلو والرقي.
وهذا ما لا تستطيع الحركة الفردية أن تقوم به غالباً، لأنها تحتكر القرار وتستفرد بالرأي لذلك لا تسمح إلا بالطاقات التي تخضع وترفع راية الولاء المطلق لها، وتستبعد الطاقات التي قد تحمل آراء تختلف عن آراء القيادة العليا، فتكون الحسابات وفق ميزان ذاتي وفردي يرتكز على مبدأ الولاء لا الكفاءة، لذلك يلاحظ التمييز والاستبعاد في هكذا أجواء وصعود أفراد لا يملكون المستوى المناسب على حساب الكفاءات الواقعية، وتؤدي هذه الحالة إلى جمود الطاقات وضمور المواهب واندثار الإبداع والتوهج، وفي المقابل تنمو حالات الرذائل والسلبية والنفاق والنميمة حيث تتحول أجواء الفردية والاستبداد إلى مستنقع قابل لعوامل الفساد والانحطاط.
ولا تملك الإدارية الفردية القدرة على الاستمرار، لأنها تستغني عن طاقات الآخرين أو لا تستطيع أن تستثمرها وتكتفي بتحركها الفردي المحدود والذي يتوقف سريعاً وينتهي بعد أن استتر في الكثير من الموارد وضيعها، ولكن في الشورى تملك الإدارة الجماعية ويشكل أكبر مقومات الاستمرار والتطور لأنها إدارة منبثقة من عمل جماعي منظم خاضع لأصول مداولة الآراء ومناقشتها فهي تمثل المجموع وتقسم الأدوار وتحدد المسؤوليات وفق واقعية الكفاءات، لذلك يمكن القول بأن الشورى هي منهج الإدارة غير المباشرة التي تعتمد على أسلوب تفويض الأدوار.
وتبقى هنا حقيقة أساسية يفرزها هذا المفهوم وهو أن الشورى عمل العقلاء من أجل تجنب الوقوع في الخطأ مهما أمكن، وهذا الأمر يجري كلما تصاعدت أهمية الشيء وزادت خطورة الخطأ فيه، ولذلك يحتاطون فيه كثيراً ويجرون المزيد من المداولات للوصول إلى أصح الآراء وأكثرها بعداً عن نسبة الخطأ ـ وهذا الأمر نراه عند الأطباء إذا توقفت حياة المريض على إجراء عملية جراحية خطيرة قد تؤدي بحياته ـ ويشكل النظام السياسي الحاكم أعلى المستويات الاجتماعية وأخطرها لأنه هو الذي يرسم حدود المستويات الاجتماعية، فالنظام السياسي هو القمة التي تخطط وتقرر للتحرك والسلوك العام.
لذلك فإن نسبة الوقوع في الخطأ تؤثر بنحو حتمي وإجباري على كافة الجوانب الأخرى، فقرارات الحرب أو السلم يمكن أن تترك آثاراً سلبية معكوسة لو اتخذت بالأسلوب، والنهج الفردي لأن القرار الفردي يكون أقرب إلى الخطأ نسبة لحساب الاحتمالات وهنا تكمن الخطورة، وتعرض الشورى واقعيتها العقلانية على النظام السياسي وترسم المنهج الذي يجب أن تسير وفقه، وهي بذلك ليست مجرد أداة سياسية يستخدمها السياسي عند الضرورة، بل الشورى نظام أساسي يقنن الشورى أجور الذي تتمحص منه الآراء الاجتماعية والسياسية، وذلك لتطبيق مفهوم الشورى بشكل صحيح وسوي لأن التطبيق السيئ والمغلوط يشوش هذا المفهوم ويشكك في مصداقيته الخارجية.
إن الشورى كمفهوم بحد ذاته مفهوم شمولي يملك الكثير من الاشعاعات المعنوية والانعكاسات الفكرية التي يمكن أن تغني الواقع الإسلامي وترفده بالثقافة والفكر مما قد تعطيه الاكتفاء الذاتي لبناء هيكليته الحضارية والاستغناء عن الثقافة الغربية بما تحمله عن سلبيات لا تتلائم مع واقع الحياة بل تزيد من تأزم العالم الإسلامي ومشاكله.
اضف تعليق