منذ العام 1619م وهو العام الذي سجل وصول أول مجموعة من الأفارقة –العبيد الى ولاية فرجينيا وحتى العام 1956م الذي انتهى فيه التمييز العنصري ضد الأفارقة– السود، فان تاريخا من انتهاكات حقوق الإنسان في أبسط مبادئها وهي إلغاء الفصل العنصري كان حاضرا خلف الحلم الذي لوح به القس الأسود مارتن لوثر كنج في خطاب ألقاه عند نصب لنكولن في 28/أغسطس/1963م وتحدث في حلمه عن رغبته في جلوس أبناء العبيد السابقين مع أبناء السادة السابقين، تحدث عن رغبته في عيش أطفاله الأربعة بين أمة لا يحكم فيها على الفرد بلون بشرته بل بما تحتويه شخصيته، هذه الرغبة التي أطلق عليها "حلم لوثر" لكن لوثر كنج أطلق عليها "الحلم الاميركي"، لقد استجابت أميركا الى رغبة لوثر كنج القس الاسود وألغت كل قوانين الفصل العنصري.
لكن الى أي مدى استطاعت أميركا أن تنفذ سياسات إلغاء التمييز العنصري؟
إن تاريخا يمتد إلى أكثر من ثلاثة قرون منذ القرن السابع عشر الميلادي، الذي هو تاريخ العنصرية وسياسات التمييز العرقي، من الصعب إزالته أو إلغائه بقانون تشرعه الادارة الأميركية، ذلك أن الأمر يتخطى إلى ثقافة مجتمع ومزاج نفسي موروث من حقب التأسيس الاولى للتاريخ الأميركي، لاسيما أن الثقافة في سلوكها تعبير عن مزاجها الاجتماعي.
لقد تكررت حالات الاعتداء على السود الأميركيين في السنوات الأخيرة، وكانت أغلبها تنتهي بالقتل على يد رجال الشرطة، وقد بثت مقاطع فديو صور هذه الاعتداءات فألهبت الرأي العام الاميركي، وكانت مواقع التواصل مسؤولة إلى حد نهائي في تأليب هذا الرأي وحشد أراء السود باتجاه إحياء ذاكرة التمييز والفصل العنصري الذي مرت أربعة عقود على محاولات تجاوزه ونسيانه.
لقد كانت الاعتداءات بنسبة 80% على السود من قبل الشرطة من بين الذين يقترفون مخالفات قانونية أو جنائية، وكانت مقاطع فديو تبث صورا تعددت لقتل يمارسه رجال شرطة بيض تجاه رجل أسود بسبب مخالفات قانونية يشكك السود بصحتها، ناهيك عما يخلفه هذا القتل المتعمد من إحباط لدى السود ويأس من تحقيق حلم المساواة الذي عاشه الأفارقة السود في وطن مفترض لهم هو أميركا.
إن اقتلاع الجذور لأصولهم الأفريقية الذي مارسه تجار الرقيق في العصور السابقة وضعهم أمام ضياع الذات بعد إن بدأت سياسة الاقتلاع لهم من جديد على يد عنصريين بيض أميركيين في وطن ولدوا فيه وعاشوا به ورسموا مستقبلهم في آفاقه، ضياع الذات هو إحساس يرافق ضياع الحرية التي تضيع هي الأخرى في ضياع المساواة، فالمساواة هي الضامن لديمومة الحرية، ولذلك كان يرى الآباء الأميركيون المؤسسون أن الحرية والمساواة هما هبة الله للإنسان ولذا لا يجوز سلبهما منه، وكانت هي الفقرة الأولى في الدستور الاميركي التي تشرع وفقها كل القوانين وتتفرع عنها كل التعليمات الإدارية والعملية. لكن التفرقة العنصرية التي تشهدها أميركا تشكل النقيض البنيوي للحرية والمساواة ومن ثم النقيض الكلي لإرادة وهبة الله استنتاجا عن إعلان الآباء المؤسسين.
والسؤال هنا: أين تكمن عناصر الدفع باتجاه التمييز العرقي وتكريسه في تاريخ وثقافة أميركا؟
تكريس التمييز العرقي وتقنينه في تاريخ أميركا
من الحقيقة القول أن التمييز ضد السود هو موقف ثقافي -أخلاقي عام عند ذوي البشرة غير السوداء من البشر عامة، وأن ذلك التوجس من ذوي البشرة السوداء موجود للأسف في كل الحضارات والثقافات، فالمشكلة هي مشكلة اللون الأسود في الثقافات الأسيوية والأوربية، وقد روجت لها نصوص العهد القديم اليهودية باللعنة التي ورثها حام إبن النبي نوح بسبب ضحكه على انكشاف عورة أبيه كما تقول التوراة، إنها لعنة اللون الأسود والعبودية لأبناء إخوانه سام وآر. لقد ضخت تلك الثقافات مقارناتها للون الأسود بالشر والمجهول والغامض وأحيانا بالسيئ.
لكن الرق ظهر قبل اللقاء بالجنس البشري الأسود أو قبل دخول أفريقيا سواء بفتوحات عسكرية أو لغرض التجارة بالرقيق، فقد ظهر في تاريخ قديم في الحضارات وكان ظهوره في المجتمعات الزراعية بشكل أولي، وظل يلازم هذه المجتمعات حتى الثورة الصناعية في القرن التاسع عشر والتي استغنت عن الرق، فالرق أصبح لا قيمة عملية له في ظل الحاجة إلى يد عاملة تخضع إلى معيار الربح والخسارة وانتقال الحياة الاقتصادية من الريف مركز الرقيق إلى المدينة مركز العمالة.
ولعل عدم الحاجة إلى الرق في عصر الصناعة يقف خلف الدعوات الأوربية المتتالية لإلغاء الرق في القرن التاسع عشر والتي اختتمت بالمؤتمر الدولي المنعقد في 1906م وعرف بمؤتمر العبودية الدولي حيث تم فيه إلغاء الرق وتحريمه، أو لعل مفهوم الرق توسع في ظل الثورة الصناعية وتنامي الرأسمالية الصناعية ليشمل بالعبودية الشخص العامل مهما كان لونه أو جنسه باحتكار فائض القيمة في العمل وحساب القيمة الإنسانية للعامل بالربح المتحقق من عمله.
لكن الرق بالمعنى المؤسساتي قد ظهر في القرن الثامن عشر الميلادي بعد سن القوانين الخاصة بالعبيد والعقوبات الجزائية المترتبة على الإخلال بنظام الطاعة والعبودية للسيد المالك للأراضي الزراعية، وكان ظهوره الأول في أميركا وهو بذلك يكشف عن حقيقة ترسخ نظام العبودية كثقافة مستشرية في المجتمع الأميركي، وهو يشكل عنصر دفع قوي باتجاه التفرقة العنصرية. فقد كانت هناك ثلاثين ولاية تضع قوانينها التمييزية والعنصرية ضد السود والملونين بشكل جعل منها سياسة رسمية في أنظمة العديد من الولايات الأميركية.
إن التمييز العرقي في أميركا كان يؤسس له القانون ويحوله إلى مؤسسة ذات صبغة اجتماعية وعقدية تمنح للبيض الاعتقاد بان السود من جنس آخر لا يمتون بصلة النسب الآدمي إلى البيض، لذلك كان من الطبيعي وعملا بهذا المبدأ حرمت القوانين المعمول بها في الولايات الأميركية الزواج بين البيض والسود، بل وشمل في بعضها كل ذوي الألوان من غير البيض من آسيويين وهنود وهنود حمر، لقد حرمت ثلاثين ولاية هذا النوع من الزواج وامتد التحريم في ولايات إلى الجيل الثالث من سليل أبيض إذا خالطه زنجي في زواج أب أو جد وبعضها حرمته أبديا من أحفاد الزنوج كما هو حال ولاية جورجيا، ورغم مخالفة هذه القوانين للدستور الأميركي لاسيما التعديل الرابع عشر/الفقرة الاولى/الحقوق المدنية والتي تنص على عدم جواز وضع او تطبيق أي قانون ينتقص من امتيازات او حصانات مواطني الولايات المتحدة في كل الولايات الامريكية، إلا أن المحكمة العليا لم تتخذ أي قرارات ضدها.
إن الصمت بإزاء هذه القوانين التمييزية والعنصرية تعبير عن رضا مستبطن داخل الدولة الأميركية والمجتمع الأميركي للتمييز العرقي باعتباره أحد المقومات الرئيسية للشخصية الأميركية التي تجد تعبيرها الأكثر انتشارا في المخيل العام في الرجل الأبيض. وإذا كان هذا العنصر الفاعل في تاريخ القضاء الأميركي هو الذي مهد إلى الدفع باتجاه ديمومة التفرقة العنصرية أو تكريسها باستدامة هذه التشريعات إلى عقود أو إلى قرون من الزمن الأميركي.
تكريس التمييز العرقي في ثقافة أميركا الدينية
كذلك فان امتداد التمييز العرقي إلى مفاهيم الدين جعل منه حقيقة اجتماعية مسلما بها، لقد أنشأت الكنائس والأبرشيات الخاصة بالسود في مدن الشمال والجنوب الأميركي منذ القرن الثامن عشر الميلادي، وكان روادها من القساوسة والمتدينين المسيحيين السود حصرا، فالدين المسيحي الذي يؤمن أتباعه بأنهم مخلوقون لله تعالى وأنهم بالروح يدخلون ملكوت الله، جعلت البيض يعتقدون وفق مسلمة التمييز العرقي حتى أمام الله تعالى بان السود لا أرواح لهم مما يحل لهم في الضمير الديني اضطهادهم، لانهم لا يتحسسون الألم لأنهم بلا أرواح فهم غير مؤهلين لدخول الملكوت ودخول كنائس البيض.
وقد كرس هذا الفصل الديني لدى السود الأميركيين نموذجا للمسيحية متأثرا جدا بتقاليدهم الروحية وتراثهم الديني الإفريقي مما عمق الفصل بينهم وبين البيض، وحين كان القساوسة الذين يرافقون سفن تجارة الرقيق يقومون بتعميد السود المخطوفين من أفريقيا فانهم كانوا يتقاضون ضريبة عن كل رأس من العبيد الذين كانوا يدخلون المسيحية، وكان بعض منهم مسلمون أرغموا على اعتناق المسيحية، وقد جنت كنائسهم أرباحا طائلة من النخاسين، فعملت الكنيسة المسيحية على الإبقاء على تجارة الرقيق ولم تصدر عنها أي معارضة حفاظا على مكاسبها المادية والاقتصادية، فأورث ذلك غصة في نفوس السود المسيحيين الأميركيين تجاه كنائس البيض، وقوضت العلاقة المسيحية بينهم فأدت الى انفصالهم عنها واختصاصهم بكنائسهم أو كنيستهم التي أطلق عليها الكنيسة السوداء، وهي تضم مجموعة الكنائس البروتستانتية التي يتجمع أتباعها ومريدوها في المناطق التي تشكل غالبيتها من السود وتخصص أعمالها وخدماتها للسود الأميركيين، بل أن كنيسة الميثودية الأفريقية هي خاصة بإتباعها من السود الأميركيين الأفارقة، وكان السود يمنعون من دخول كنائس البيض في الجنوب الأميركي حتى بعد إلغاء الرق، وقد استمر الفصل في المؤسسة الدينية المسيحية منذ القرن التاسع عشر الميلادي وحتى تاريخ أميركا المعاصر.
وبطبيعة الحال فان الكنيسة السوداء قد تطورت إلى مؤسسات اجتماعية تكفلت بالتعليم والتربية والرعاية الاجتماعية للسود الأميركيين، بل تحولت الى مراكز قوة في المجتمع الأميركي الأسود وتصدرت بعض قياداتها الروحية زعامات سياسية–اجتماعية للسود وكان أهم تطور للكنيسة السوداء هو تحولها إلى مراكز لمنظمة الحقوق المدنية في خمسينات القرن العشرين.
لقد تنبه العنصريون البيض الى الدور الذي تؤديه الكنيسة السوداء في التزامها بحقوق السود والدفاع عنهم، فاستهدفوا عددا من كنائس السود بأعمال التخريب وإشعال الحرائق فيها، وحسب تقرير لواشنطن بوسط – 3/ يوليو/ 2015م فقد وجد أن من أصل 827 حادث حريق أو تفجير متعمد لكنائس ودور عبادة ومساجد عامي 1995 و1994م كان هناك 24 حادثا منها تم بدوافع التحيز العنصري، وفي العام 2015م تم إحراق ست كنائس للسود في غضون أسبوعين، وفي عام 2008م تم إحراق ثلاث كنائس للسود احتجاجا على انتخاب أوباما رئيسا أسودا للولايات المتحدة الأميركية، وقد ربطت جريدة واشنطن بوست هذه الحرائق وظهور تيار عنصري بين البيض يؤمن بتفوق العرق الأبيض، وقد بلغ عدد الجماعات المنضوية تحت فكرة هذا التفوق حسب جريدة ليبرا سيون –20/ يوليو/2015- 784 جماعة كراهية في الولايات المتحدة من بينها 115 جماعة من العنصريين البيض. وفي أعقاب انتخاب الرئيس الأسود أوباما ارتفع عدد الجماعات العنصرية من 888 في عام 2008م إلى أكثر من ألف في عام 2012م.
لقد طرحت ليبراسيون هذه الاحصائيات بعد إن استعرضت في تقريرها حادثة قتل رجل أبيض لعدد من المصلين السود في كنيسة خاصة بهم بمن فيهم القس في هذه الكنيسة، مما دعت الى التذكير بعدم الأمان حتى بين جدران دور العبادة وتساءلت امرأة سوداء عن إمكانية "أن يكون السود آمنين؟ أين يمكن أن نكون أحرارا؟ أين يمكن أن نكون سودا؟ " سؤال يكشف عن عمق جذور العنصرية في المجتمع الأميركي حسب جريدة ليبراسيون.
وتكمن خطورة ذلك التجذر في وجه من وجوهه، أن الكنيسة المسيحية تخضع الى ذلك الفصل العنصري في أداء العبادات، والكنيسة الأميركية هي الكنيسة الوحيدة من بين كل دور العبادة وفي كل الأديان تخضع إلى ذلك الفصل العنصري في دخول دور العبادة وأداء العبادات الدينية، ذلك أن الأديان لا تقوم على مفهوم العرق في كل نسخها وشرائعها، وهو ما يقودنا إلى القول بالمركّب النقيض للكنيسة الأميركية، وهو جزء من المركب النقيض في بنى التمييز العرقي في الولايات المتحدة الأميركية. أنها الدولة الأكثر سعيا في العالم وراء حقوق الإنسان لكنها الدولة الأشد انتهاكا لحقوق الإنسان في التمييز العنصري، وهي الدولة الأكثر إشادة بالمساواة لكنها الدولة الأكثر خرقا للمساواة بين البيض والسود.
إن مبادئ الديمقراطية وحقوق الإنسان هي أفكار شهدت ظهورها وتطورها مع صعود البرجوازية واستغلتها أسوأ استغلال في قضائها على الإقطاع ونظام القن الإقطاعي، لتستبدله بنظام الهيمنة الصناعية على البشر واستغلال العمال من أجل بناء إمبراطوريتها المالية، وهي أنموذج حاضر لازالت الولايات المتحدة الأميركية تحتذي به في استغلال الشعوب من خلال مقولة الديمقراطية وحقوق الإنسان، أو ما تعبر عنه الولايات المتحدة الأميركية بقيم أميركا العليا. ان العنصرية والتمييز العرقي يكشف عن زيف هذه القيم على مستوى تطبيقاتها في الداخل الأميركي وارتهانها بالمصالح الأميركية على مستوى الخارج الأميركي.
وإذا كان القانون الأميركي في تاريخه التمييزي والعنصري ودور المؤسسة الدينية المسيحية في تكريس الفصل العنصري، فان الميل لدى السود في التعبير عن شخصيتهم العرقية والثقافية والمستقلة أدت إلى تكريس آخر للفصل العنصري وليس للتمييز العنصري، فقد كان الفن والإعلام الأسود جادا وقويا في الكشف والتعبير عن الهوية الثقافية للسود بعد ان تمثلت تلك الثقافة في تعبيرات الكنيسة السوداء الأميركية وعدم جدية كنائس البيض في مواجهة التمييز العنصري...
اضف تعليق