لو تأملنا في آيات الذكر الحكيم، لوجدنا أن من أهم المفاهيم النهضوية، التي تساهم في تشكيل قوة مجتمعية، رافضة للتخلف وساعية نحو سد الثغرات وردم الهوة الفاصلة بين ما هو قائم وبين ما ينبغي أن يكون، لوجدنا مفهوم (وتعاونوا على البر والتقوى) من أهم المفاهيم النهضوية، التي تتطلب امتلاك قدرة على تجاوز كل الأنانيات للتعاون مع شرائح وفئات المجتمع المتعددة على البر والتقوى.
وهذا الشيء الذي نتعاون من أجله، ليس محدداً بشيء محدد، فكل ما هو من البر والتقوى، ينبغي لنا وفق هذا المفهوم أن نتعاون فيه. فالمجتمعات الإسلامية وفق هدي هذه الآية الكريمة، هي منارات لعلوم الإسلام، تضيء العقول، وتشحذ الهمم وتهدي الأفئدة إلى الخير وصناعته.
ووفق هذه الرؤية فإن الإنسان المسلم، ينبغي أن يمتلك قدرة نفسية لقبول التعاون مع غيره من المسلمين من أجل أهداف البر والتقوى.
كما أنه بحاجة إلى ثقافة تشجعه على التعاون، وتحرضه على رفض كل أشكال الأنانية.
فالأمم المتقدمة والتي تجاوزت حقبة النهضة، هي تلك الأمم التي تمكنت من اجتراح تجربتها وفرادتها في التعاون بين جميع أطرافها ومكوناتها لإنجاز أهدافها وتذليل كل العقبات التي تمنع عملية التحقيق والإنجاز.
والتعاون المطلوب يتجه صوب:
1- كل المعيقات والموانع التي تحول دون تقدم الأمة؛ بحيث نتعاون مع بعضنا البعض من أجل إزالتها أو رفعها عن طريق تقدمنا وتطورنا.
2- بناء حقائق البر والتقدم في مجتمعنا، بعد إزالة كل ما يعيق نهضتنا وتقدمنا وإبداعنا.
والتعاون هنا ليس له آلية محددة، وبالتالي فنحن جميعاً معنيون في اكتشاف كل الإبداعات الإنسانية التي التزمت بالتعاون، بحيث نتمسك بأحدث النظريات والآليات التي تحقق (وتعاونوا على البر والتقوى) فالتعاون هنا ليس مشروعاً ناجزاً، بل هو من المشروعات الإنسانية الفردية والاجتماعية المفتوحة على كل الإبداعات والمنجزات الإنسانية.
استنفار العقل:
وكل هذه القضايا المذكورة أعلاه تسند وفق الرؤية الإسلامية القرآنية باستنفار العقل المسلم لكي يعمل على تحصيل الوعي والمعرفة وتجاوز غبش الرؤية وجعل حياة الإنسان المسلم في كل جوانبها وأبعادها قائمة على العلم والمعرفة.
والأدوات المذكورة في القرآن لاستنفار العقل هي مفاهيم "النظر - التدبر - التعقل - البينة - البرهان - الجدل" وكلها أدوات أو آليات أو مفاهيم تؤدي إلى فقه الواقع بكل جوانبه ومآلاته.
ففي أكثر من "ثمانين آية قرآنية نتلو، في الحض على "النظر"، شواهد من مثل: (فلينظر الإنسان ممّ خلق).. (أولم ينظروا في ملكوت السموات والأرض)، (أفلم يسيروا في الأرض فينظروا كيف كان عاقبة الذين من قبلهم)، (أفلم ينظروا إلى السماء فوقهم كيف بنيناها وزيناها)، (أفلا ينظرون إلى الإبل كيف خلقت)،(فانظر إلى آثار رحمة الله كيف يحيي الأرض بعد موتها).
وفي آيات أخرى نطالع الحث على "التدبر"، فنتلو: (أفلا يتدبرون القرآن أم على قلوب أقفالها)، (أفلم يتدبروا القول أم جاءهم ما لم يأت آباءهم الأولين)، (كتاب أنزلناه إليك مبارك ليدّبروا آياته وليتذكر أولو الألباب).
وتنتشر في سور القرآن الآيات التي تحض على التعقل، والتي تستنفر العقل أداة للوعي والمعرفة، حتى لقد صار شرط التكليف ومناطه، ولب جوهر إنسانية الإنسان.. (إن في خلق السموات والأرض واختلاف الليل والنهار والفلك التي تجري في البحر بما ينفع الناس وما أنزل الله في السماء من ماء فأحيا به الأرض بعد موتها وبث فيها من كل دابة وتصريف الرياح والسحاب المسخر بين السماء والأرض لآيات لقوم يعقلون).. وغير هذه الآية، من مثلها، تسع وأربعون آية يأتي فيها هذا المصطلح بلفظه..
وفي "المجادلة" - بمعنى المناظرة - يحض القرآن الكريم على إحسانها والإحسان فيها مع الخصوم: (وجادلهم بالتي هي أحسن)، (ولا تجادلوا أهل الكتاب إلا بالتي هي أحسن)، ويطلب أن تكون المجادلة والمناظرة "بالبينة" (ليهلك من هلك عن بينة ويحيى من حيّ عن بينة)، و"بالبرهان" (قل هاتوا برهانكم)".. محمد عمارة، معالم المنهج الإسلامي، المعهد العالمي للفكر الإسلامي، ص 54-55.
لذلك نجد أن آيات الذكر الحكيم تعيب على الذين يقفون على ما دون علم. قال تعالى: (وما لهم به من علم إن يتبعون إلا الظن وإن الظن لا يغني من الحق شيئا) "النجم، 28". ويحذر القرآن الكريم من الوقوف على أي شيء بدون علم ومعرفة، قال تعالى: (ولا تقفُ ما ليس لك به علم إن السمع والبصر والفؤاد كل أولئك كان عنه مسؤولا)[الإسراء، 36]..
والأقوال التي نسمعها ويطلقها الآخرون سواء أكانوا أفراداً أو مؤسسات، فإن آيات الذكر الحكيم توجهنا إلى ضرورة الالتزام بمشروع (فتبينوا) قال تعالى: (يا أيها الذين آمنوا إن جاءكم فاسق بنبأ فتبينوا أن تصيبوا قوماً بجهالة فتصبحوا على ما فعلتم نادمين)، "الحجرات، 6".
فالمنهج الذي استنفر العقل والنظر والتدبر، والذي جعل التفكر فريضة شرعية، هو الذي علم الإنسان أن نطاق عمله محدود بنطاق مكانته في الكون - مكانة الخليفة - ووظيفته هي أعمال وتأدية رسالة الاستخلاف، ولذلك كانت خشية علماء هذا المنهج من الله هي خشية المدرك لنسبية أدوات الخليفة وحصيلته بالقياس إلى الكلي والمطلق واللانهائي الذي تنفرد وتتفرد به ذات الله: (ألم تر أن الله أنزل من السماء ماء فأخرجنا به ثمرات مختلفاً ألوانها، ومن الجبال جدد بيض وحمر مختلف ألوانها وغرابيب سود، ومن الناس والدواب والأنعام مختلف ألوانه كذلك، إنما يخشى الله من عباده العلماء إن الله عزيز غفور).. (شهد الله أنه لا إله إلا هو والملائكة وأولو العلم قائماً بالقسط، لا إله إلا هو العزيز الحكيم).
ونستطيع القول في هذا السياق إن القرآن الحكيم فرض على الإنسان المسلم فريضة التفكير، فالباري عز وجل يثيبنا على يقظتنا، ويحاسبنا على غفلتنا. إذ قال تعالى: (إن في خلق السماوات والأرض واختلاف الليل والنهار لآيات لأولي الألباب، الذين يذكرون الله قياماً وقعوداً وعلى جنوبهم ويتفكرون في خلق السماوات والأرض ربنا ما خلقت هذا باطلاً سبحانك فقنا عذاب النار) "آل عمران، 190-191".
وعليه نستطيع القول: إن استنفار العقل، يستهدف تحريك العقل وتنمية قدراته، وجعله حاضراً في حياة الإنسان المختلفة.
اضف تعليق