رغم كل ما يثار من كلام ونقاشات عن "التغيير" او "الإصلاح" في العراق؛ الا ان الأمور لا تزال تسير على نفس السكة وبنفس القطار أيضا. فالمشاريع التغييرية التي تحولت فيما بعد الى مشاريع إصلاحية ولدت ميتة لأسباب عدة أهمها عدم الجدية من أصحاب القرار، فضلا عن التداخل الكبير في الازمات والتدخلات الدولية التي جعلت أي مشروع لا يعمر أكثر من الوقت الذي يستغرقه اثناء تداوله في وسائل الاعلام.
منذ ان طرح رئيس الوزراء وثيقته الإصلاحية الأولى والأوضاع في العراق تراوح مكانها ان لم تكن انحدرت نحو الاسوء، وبعدها تسيّد التيار الصدري المشهد التظاهراتي المطالب بالإصلاح متخذا منهجا تصعيديا بطيئاً تحت عنوان (سلمية)، الى ان اعتصم المتظاهرون في بوابات القلعة الحكومية في المنطقة الخضراء ثم تلتها عملية الاقتحام الأولى ثم عملية الاقتحام الثانية.
ومع ازدياد مخاوف الطبقة السياسية المتنفذة من إمكانية قلب موازين العملية السياسية استخدمت الكتل المتنفذة لغة تصعيدية مضادة اتهمت التيار الصدري وانصاره بكسر هيبة الدولة أدت الى تراجع من قبل التيار الصدري. وعلى طول هذه المدة الزمنية لا تزال الحكومة بلا وزراء (الذين قدموا استقالتهم لم يعين بديلا عنهم) ومجلس النواب يبتعد عن الشارع الذي انتخبه حيث يبحث عن زيادة مخصصاته المالية مقابل فرض استقطاعات من رواتب بعض الفئات الاجتماعية تحت ذرائع عدة ليجري البحث عن صيغة قانونية حتى يتم تثبيت هذا الامر.
في عملية الشد والجذب بين الكتل السياسية العراقية التي تتخذ من مطالب الشعب وسيلة لرفع قيمة أسهمها في الدولة العراقية، استطاعت تلك الكتل ان لا تخسر اي شيء من مصالحها او تتنازل عن امتيازاتها لصالح الشعب، وما كان يحصل هو محاولة لتبادل الأدوار لكن التداخل الكبير بين الازمات المتراكمة جعل من الصعوبة على أي كتلة سياسية ان تحقق تفوقا على الأخرى، ما عدا التظاهرات التي قام بها التيار الصدري والتي أوضحت وزنه في الشارع العراقي حتى ان البعض اتهمه بانه يقوم بنوع من استعراض الذات.
وفق هذه المعطيات شعرت الكتل السياسية بنوع من الاطمئنان؛ فالأوضاع الحالية لا تتغير بانتظار النزال السياسي الأكبر الذي بدأ يتدحرج للأمام، حيث سيتوقف عند محطة الانتخابات المحلية (مجالس المحافظات) والبرلمانية (مجلس النواب)، وهناك سيتقرر من هم الرابحون والخاسرون في هذا الصراع المستمر لتقاسم التأثير والنفوذ في البلاد.
بعض الكتل السياسية بدأت استعداداتها للانتخابات المقبلة بمحاولة تأسيس تفاهمات جديدة لتكون أرضية خصبة امام عقد تحالفات في المستقبل، سيما وان الوضع العراقي لا يسمح بان تقود البلاد كتلة او حزب واحد، فيما ذهب اخرون الى اثبات جديتهم بتقديم الخدمات للشعب العراقي وتأكيد تفرد مشروعهم الذي ينطلق من الشعب والى الشعب.
رئيس الوزراء العراقي السابق نوري المالكي صاحب الرقم القياسي بعدد المختلفين عليه حتى قيل إنك "إذا اردت ان تخلق جدالا سياسيا في أي جلسة عراقية فما عليك الا ان تذكر اسم (نوري المالكي)"، وقد شد رحاله الى شمال العراق في جولة شملت اللقاء بقادة الاتحاد الوطني الكردستاني وحركة التغيير الذين اسسوا مؤخرا تحالف (الامل) المعارض لسياسات رئيس إقليم كردستان المنتهية ولايته مسعود برزاني، وقد أشاد المالكي بتلك الزيارة فيما قالت دولة القانون التي يترأسها المالكي ان الزيارة "ستفتح افاق جديدة للتعاون بين دولة القانون والكتل الكردستانية". وقد اكد اغلب المتابعين للشان العراقي ان تلك الزيارة تأتي لاستغلال الخلاف بين الكتل السياسية الكردية، ومحاولة الاستفادة منها في الضغط على رئيس الإقليم المنتهية ولايته، فضلا عن انها تهيء للمرحلة القادمة، أي تحدد طبيعة التحالفات المستقبلية قبل الانتخابات، وضمان وقوف التحالف الكردي الجديد مع دولة القانون.
في الجانب الأخر اتخذ زعيم التيار الصدري السيد مقتدى الصدر طريقا مغايرا من خلال اصلاح منظومته السياسية الداخلية، إذ قرارا جريئاً بتشكيل لجنة يقع على عاتقها إحالة جميع أعضاء كتلة الاحرار الحاليين والسابقين الى هيئة النزاهة. مؤكدا ان ذلك جزء من المشروع الإصلاحي قائلا في بيان له انه "استكمالاً لمشروع الاصلاح الداخلي، وباعتبار ان كتلة الاحرار كانت تابعة لنا وما زال البعض يدعي ذلك ببعض افعاله المسيئة، صار لزاماً علينا تشكيل لجنة من: لجنة الاصلاح الإداري، لجنة مكافحة الفساد، رئاسة كتلة الاحرار (الدكتور ضياء الاسدي)". بيان الصدر تضمن إشارة الى أهمية العمل بقوانين هيئة النزاهة من خلال "احالة جميع افراد الكتلة الحاليين والسابقين الى (هيئة النزاهة) وبالطرق القانونية المعمول بها".
بعض المتابعين للشأن العراقي قارنوا بين تأكيد المالكي لإمكانية عودته لرئاسة الحكومة زيارته لإقليم كردستان، وبين قرار السيد مقتدى الصدر بإخضاع أعضاء كتلة الاحرار للمسائلة وفق قوانين هيئة النزاهة، واعتبروها نوعا من التحضير الانتخابي. مع اختلاف في الأساليب فالمالكي يريد توسيع تحالفاته السياسية أي انه يتوسع عموديا باتجاه الكتل المؤثرة في القرار العراقي، فيما يتوسع مقتدى الصدر افقيا متجها نحو مشاريع واصلاحات واقعية من الممكن ان تؤدي الى تحقيق بعض ما يطالب به المواطن العراقي ابتداء من اصلاح المنظومة الداخلية للتيار الصدري لإثبات جديته في رعاية مصالح الطبقات المسحوقة في العراق.
قد يكون من الظلم المقارنة بين تحركات التيار الصدري والأحزاب العراقية الأخرى، فاغلب نشاطات الصدريين كانت مختلفة عما تقوم به تلك الأحزاب، وتركز نشاطه في رعاية مصالح الطبقات الفقيرة والمطالبة بحقوقهم، في المقابل يقول معارضو التيار الصدري ان ما يروج له التيار لم يحقق للمواطن أي اثر، وان كل ما يفعله الصدريون هو اثبات وجودهم السياسي واستخدام ورقة النزول للشارع كنوع من المناورة السياسية بعد فقدان مركزهم العسكري لصالح فصائل الحشد الشعبي.
وفي النهاية فان الشعب العراقي يتذكر ان بداية كل نزال انتخابي تقوم الأحزاب بتقديم تنازلات غير مسبوقة كل حسب نوعية الأوراق التي يمتلكها اما بتوسيع نطاق التحالفات او تعديل مسارها السياسي الداخلي، وبعد ذلك تتخلى عن تلك التنازلات فور انتهاء الموسم الانتخابي تحت ذرائع عدة، الا ان الانتخابات الحالية ستكون استثنائية بعدما مر به العراق من هجمات إرهابية أدت الى سيطرة داعش على عدد من المحافظات ويتوقع ان تشهد المرحلة القادمة حصول بعض التغييرات التي قد تؤدي الى تبادل للمراكز بين الكتل السياسية الفاعلة، فلا غرابة ان تقدم بعض هذه الكتل مشاريع واصلاحات استثنائية او ان تقوم بخطوات تصالحية مع إقليم كردستان تحت يافطة خدمة المصالح العليا للبلد، فالمرحلة الانتخابية المقبلة تتطلب تنازلات غير اعتيادية.
اضف تعليق