تركز معظم تفسيرات النمو الاقتصادي على الشروط او الحوافز في المستوى القومي والمستوى العالمي. انها تربط التقدم الاقتصادي بعوامل مثل الجغرافيا، الديموغرافيا، الموارد الطبيعية، التطور السياسي، الثقافة الوطنية، و خيارات السياسة الرسمية. غير ان هناك تفسيرات اخرى تعمل في مستوى الصناعة، تسعى لتوضيح سبب ازدهار بعض القطاعات اكثر من غيرها. في نهاية اليوم، منْ يصنع الوظائف ليس المجتمعات او الحكومات او الصناعات وانما الشركات وقادتها. المغامرون من رجال الاعمال entrepreneurs والشركات هم الذين يقررون الانفاق من عدمه، وما اذا كانت هناك حاجة للاستثمار ام للاستئجار.

هذا البحث في النمو يتخذ اتجاها معاكسا، يعمل ليس من الأعلى للأسفل وانما من الأسفل للأعلى، متبنياً منظور الشركة والمدير. من وجهة النظر هذه ندرك ان مختلف انواع الابتكارات لها مختلف التأثيرات الجوهرية على الاستخدام والنمو الاقتصادي. هذه الرؤية تعطي رجال الاعمال وصناع السياسة والمستثمرين القدرة على التعاون غير المسبوق لخلق الظروف التي تطلق الازدهار الدائم، خاصة في العالم النامي. الجدال هنا هو ان هناك نماذج جيدة للاستثمار والابتكار على مستوى الشركة تقود الى تنمية اقتصادية تحولية وازدهار وطني، وان تلك النماذج كانت منسجمة في توضيح النجاحات في الماضي، ويمكنها توفير اتجاه لرجال الاعمال حول ما يبحثون عنه وما يريدون بنائه في المستقبل.

اشكال الابتكار

بما ان معظم الاستثمارات تركز على الابتكار، فان نموذجنا الحالي يستهدف الابتكار كوحدة اساسية في التحليل. يأتي الابتكار في ثلاثة انواع.

النوع الاول هو ما نسميه "الابتكار الدائم"sustaining innovation

والهدف منه هو استبدال السلع القديمة بسلع اخرى جديدة أفضل من السابقة. هذه الابتكارات مهمة لأنها تُبقي الاسواق نشطة وتنافسية. معظم التغيرات التي يراها المرء في السوق هي من نوع الابتكارات الدائمة. لكن هذه الابتكارات هي بطبيعتها استبدالية، اي، لو نجحت الشركة في بيع سلعة افضل الى زبائنها الموجودين، هم سوف لن يشتروا السلع القديمة. حينما اطلقت (سامسونك) نموذج محسّن لتلفونها الذكي Smartphone، تبعها انخفاض في مبيعاتها من النماذج القديمة بشكل دراماتيكي. وعندما تُقنع شركة (تيوتا) الزبائن لشراء سيارة (تيوتا بروز) فهم سوف لن يشتروا سيارة (كامري). لذا، فان الاستثمارات في الابتكارات الدائمة نادرا ما تخلق نموا صافيا للشركات التي تطور وتبيع تلك الابتكارات. وايضا هي نادرا ما تقود الى وظائف جديدة تغذّي النمو الاقتصادي الكلي.

النوع الثاني "ابتكار الفاعلية"Efficiency innovation

هذا النوع يساعد الشركات في انتاج الكثير من السلع بأقل التكاليف. ابتكارات الفاعلية تسمح للشركات بصنع وبيع المنتجات او الخدمات القائمة باسعار منخفضة. نموذج والمرت (The Walmart retail model)، مثلا، هو ابتكار فاعلية. (والمرت) يستطيع بيع نفس المنتجات لنفس الزبائن كمحل بيع تقليدي، مثلما تقوم بذلك مخازن ماكيس (Macy’s) الامريكية حين تبيع باسعار تقل بنسبة 15% وبنصف كمية الستوك. في اي اقتصاد تنافسي، ابتكارات الفاعلية هي حاسمة لبقاء الشركات على قيد الحياة. ولكن نظراً لطبيعتها في انتاج الكثير بأقل التكاليف، فان ابتكارات الفاعلية تعني تقليل الوظائف او التعاقد مع مجهز للوظائف يكون اكثر فاعلية. كذلك لكي تستطيع ابتكارات الفاعلية انتاج الكثير وباقل عدد من الناس، فإنها تجعل راس المال اكثر كفاءة وتعمل على تحسين دورة التدفق النقدي.

النوع الثالث هو "ابتكارات خلق السوق"

عندما تنشأ معظم الصناعات، فان منتجاتها وخدماتها تكون مكلفة جدا ويصعب الوصول اليها لدرجة لا يستطيع شرائها واستعمالها الاّ الاثرياء. ابتكارات خلق السوق تحوّل مثل هذه العروض الى منتجات وخدمات تكون رخيصة بما يكفي لتصل الى فئات سكانية جديدة كليا. في نموذج (ت فورد)، نجد الكومبيوتر الشخصي، الموبايل الذكي، والمتاجرة بالأسهم اونلاين كلها امثلة عن ابتكارات خلق السوق. وبسبب ان العديد من الناس يستطيع شراء مثل هذه المنتجات، فان المبتكرين يحتاجون لإستئجار المزيد من الناس لصناعة وتوزيع وخدمة هذه السلع. وبما ان ابتكارات خلق السوق هي ابسط واقل كلفة، فهي سوف لن تنال الدعم من سلسلة التجهيز التي عادة تُستخدم في الابتكارات الدائمة. هذا يجعل من الضروري بناء شبكات تجهيز جديدة وتأسيس قنوات توزيع جديدة لكي تخلق سوق جديد. ابتكاريو خلق السوق يخلقون نموا جديدا ووظائف جديدة.

ان استثمارات خلق السوق تتطلب شيئين: مغامر يحدد الحاجات غير المشبعة للزبائن ووجود معطيات اقتصادية (مثل مقدرة تكنلوجية او خصائص في السلعة او نموذج عمل يجلب مزايا هامة في اقتصاديات الحجم) خدمات شركة M-pesa الكينية وهي اكبر شبكة لاتصالات الموبايل، مثلا، نجحت في معالجة نقص استهلاك الخدمات المصرفية في جميع انحاء البلاد وذلك باستخدام نموذج الاتصالات اللاسلكية. عندما اطلقت M-pesa خدماتها عام 2007، كان آنذاك فقط 20% من الكينيين يستخدمون البنوك، اما اليوم ازداد العدد الى 80%. شركة جنوب افريقيا للاتصالات (MTN)، دشنت ثورة التلفون الخلوي عبر القارة وذلك بدمج البنية التحتية للاتصالات مع تلفونات ذات كلفة واطئة تستهدف غير المستهلكين (وهم العدد الاكبر من الناس الفقراء الذين لايستطيعون شراء او استعمال السلع والخدمات وكذلك الذين يشترون السلعة لكي يستعملها اخرون غيرهم كالاطفال او العاملين).

الاقتصاد القوي، وفي اي وقت، يمتلك مزيجا من الانواع الثلاثة للابتكارات. ولكن فقط ابتكارات خلق السوق تجلب الوظائف الدائمة التي في النهاية ستخلق الازدهار. استهداف ابتكارات خلق السوق لـ،اللاستهلاك، يحوّل عجز الدول النامية – حرمان شعوبها من مختلف الحاجات – الى اصول. في هذه العملية، تقود الابتكارات لخلق شبكات ذات قيمة جديدة، وبناء قدرات جديدة، وتوليد عمالة دائمة. هذا بدوره يغذي حلقة حميدة، حيث يتسلق الابتكاريون الى اعلى السلم نحو فرص لا استهلاكية اكثر تعقيداً.

كيف تعمل ابتكارات خلق السوق؟

النموذج الياباني

ان ابتكارات خلق السوق تشكل عاملا هاما في جميع الدول التي نجحت في تحقيق النمو الاقتصادي التحولي. اليابان في ما بعد الحرب تجسّد افضل مثال. فبعد ان خرج الاقتصاد الياباني مدمراً من الحرب العالمية الاولى، كان التحدي في اعادة بناء ما تحطّم اصعب من مهمة البدء من الصفر. نجاح اليابان في ذلك المسعى كان يُعزى للفخر القومي واخلاق العمل القوية، ولرؤية الوكالات الحكومية مثل وزارة التجارة العالمية والصناعة، والى التفوق في العلوم وتعليم الهندسة. لكن هذه التفسيرات فقدت قوتها الإقناعية حينما دخل الاقتصاد الياباني في ركود تضخمي في العقود الاخيرة. ولاحقا، برز هناك تفسير اكثر قوة لنمو البلاد بعد الحرب وهو نجاحها في ابتكارات خلق السوق في مجال الموتورسايكل والسيارات والكترونيات المستهلك وتجهيزات المكاتب وصناعة الصلب.

لننظر في صناعة الموتورسايكل اليابانية. من بين مجموعة من 200 صانع موتورسايكل في 1950s، برزت (هوندا) و(كاواسكي) و(سوزوكي) و(ياماها) لتقود التطور الصناعي في الداخل وفي الخارج. هذه الشركات (الاربع الكبار) لم تبحث عن النمو عبر سرقة حصة السوق من القادة الموجودين سلفا في صناعة الموتورسايكل. بدلا من ذلك، قامت تلك الشركات باستهداف اللااستهلاك. عندما شرع البرلمان الياباني تعديل لقانون حركة المرور عام 1952 سمح للسائقين الشباب بركوب الموتورسايكل، كانت سوزوكي اول شركة تكيّف منتجاتها لحاجات الزبائن الشباب، وذلك بتصنيع محرك حجم 60 cc. كذلك، بالنسبة الى هوندا قامت بتصنيع محرك بقوة 50 سي سي يستهدف العدد المتزايد للأعمال الصغيرة التي تحتاج عجلات صغيرة لإيصال السلع. وضعت هوندا سعرا متواضعا للموتورسايكل بـ 25 الف ين اي حوالي سبعين دولارا ووفرت خطة للدفع بالاقساط الشهرية لمدة 12 شهر. المنافسة المحلية بين الشركات التي تسعى بقوة لاستهداف المستهلكين الفقراء دفعها للتكامل العمودي في المركبات (components) وللتكامل الافقي في قنوات التوزيع. هذا بدوره خلق وظائف في اليابان تجاوزت الاربع الكبار ذاتها، وهو ايضا اعطى تلك الشركات القدرة على تصدير الموتورسايكل الى الولايات المتحدة واوربا والتنافس على مستهلكين جدد في هذه الاسواق ايضا.

نفس النموذج لوحظ في (بانوسونك) و (شارب) و (سوني) في مجال الكترونيات المستهلك، وفي (نيسان) و(تيوتا) في مجال السيارات، وفي (كانون) و (Kyocera) و (Ricoh) في مجال الاثاث المكتبية. جميعها اتبعت ستراتيجية من مرحلتين في المنافسة ضد اللااستهلاك في السوق المحلي الياباني اولا ومن ثم اتباع نفس الاستراتيجية في الخارج.

كوريا الجنوبية

هذا النموذج استُنسخ في جنوب كوريا، حيث درس مبتكرو خلق السوق التجربة اليابانية بدقة، المثال هنا هو شركة سامسونك التي كان لها الدور المحوري في صعود اقتصاد البلاد. سامسونك تأسست كشركة تجارية لكنها دشنت مصانع الكترونية فرعية عام 1969 لصنع منتجات تستهدف اللااستهلاك المحلي لتكنلوجيا الترفيه والتبريد. اول منتج لسامسونك الالكترونية كان تلفزيون ابيض واسود، اُنتج بالاشتراك مع شركتين يابانيتين هما نيس وسوميتومو. بعد ذلك مباشرة، قامت سامسونك بدراسة النماذج اليابانية لإنتاج اول مروحة كهربائية لكوريا الجنوبية رخيصة الثمن، ومن ثم انتقلت الشركة الى مكيفات الهواء الرخيصة الكلفة. وعبر تدشينها سلسلة مستمرة من ابتكارات خلق السوق، اصبحت سامسونك اشهر الانواع المعترف بها عالميا واحدى اكبر المساهمين في الناتج المحلي الاجمالي لكوريا الجنوبية.

الصين

في الصين ايضا، قام مبتكرو السوق بدمج مواقع محلية لهم ضمن مواطئ قدم وطنية وعالمية في صناعات تتراوح من السلع الاستهلاكية المعمرة الى تجهيزات البناء. شركة Haier)) بدأت العمل عام 1984 كمبتكر صانع للسوق حيث انتجت ثلاجات صغيرة لـ اللامستهلكين الصينيين، ومن ثم دخلت في تشاركية مع شركة (Liebherr) الالمانية لاكتساب التكنلوجيا والتجهيزات. في عام 2011، ازاحت الشركة العديد من الشركات العالمية في سوق الكهربائيات المنزلية البيضاء وبخطوط انتاج مستوحية خبرتها في الصين، ما جعلها تكتسب 7.8% من حصة السوق العالمي. ونفس الشيء بالنسبة الى شركة (ساني) التي دخلت العمل في عام 1989 كمتجر للحام المواد الصغيرة في مدينة محرومة بمقاطعة Hunan. انها استفادت من فهمها للحاجات المحلية واستيعابها لآخر ما وصلت اليه التكنلوجيا في انتاج تجهيزات بناء رخيصة لسوق البناء الصيني المزدهر. واليوم، تمتلك ساني اعلى حصة في السوق الوطني مقارنة بمنافسها الكبير شركة كاتيربيلر الامريكية، وهي ايضا لديها حصة في السوق العالمي.

شيلي

نفس النمط يسود في دول اخرى ايضا. في شيلي، اصلاحات الحكومة وصناعة النحاس المزدهرة لقيت ترحيبا كبيرا. لكن ابتكارات خلق السوق تبدو المحرك الحقيقي للنمو. فمثلا، ازدهار القطاع الزراعي الشيلي كان مرتكزا على خلق السوق – قبل الابتكارات الشيلية، كان عدم استهلاك الفواكه الطازجة والخضراوات شائعا في معظم فصول السنة في الدول غير الاستوائية المتقدمة. المصدرون الزراعيون استخدموا علم الحراثة المحسّن والخدمات اللوجستية الحديثة في استغلال الوفرة وإحداث التحول عبر توفير سلع طازجة طوال السنة.

الهند

في الهند، العديد من مجهزي الخدمات الصحية يتبنّون ابتكارات خلق السوق لتسهيل الوصول للرعاية الصحية العالية النوعية. مستشفى (The Aravind Eye Hospital) باشر عمله في تقديم رعاية صحية واطئة الكلفة للفقراء من غير المستهلكين الذين يعانون من امراض العيون. قيام المستشفى بإدخال الابتكارات مثل الاستخدام الراقي للطاقم الطبي وخدمات متدرجة المستويات لمن يدفع او لا يدفع من الزبائن، جعله اكبر مستشفى عيون في العالم. وتماما كما في الحالة اليابانية، تستخدم الشركات الهندية امكاناتها المحلية في استهداف اللامستهلكين في الخارج: مستشفى ناريانا، مثلا، افتتح مركزا في جزر كايمن ليقدم خدماته للامريكيين المتحفظين تجاه الكلفة، كما ان الهند اصبحت رائدا في تقديم خدمات السياحة الصحية التي توفرها لأكثر من مليون اجنبي سنويا.

البرازيل

في البرازيل كان الاهتمام منصبا على الوفرة الكبيرة في الزيوت وموارد الخشب، كان مبتكرو خلق السوق مثل (Embraer) يبذلون جهودا كبيرة في ميدان خلق الوظائف والقدرات. وكما في معظم مصنعي الطائرات، في البدء حصلت امبراير على الدعم من الحكومة وركزت على انتاج طائرات للاغراض العسكرية. لكن الشركة وجّهت اهتمامها نحو السوق التجاري، حيث تقوم بتسليم طائرات واطئة الكلفة للخطوط الجوية المحلية. واليوم، اكتسبت امبراير قدرات واسعة، حيث بنت شبكات عرض محلية واسعة، وتقوم بصنع طائرات للعديد من الخطوط الجوية العالمية الشهيرة، بما فيها الامريكية و دلتا و جيتبلو و يونايتد. اما شركة غروب ملتي Grupo Multi، فهي نجاح آخر في مجال خلق السوق البرازيلي، حيث استهدفت غير المستهلكين من متعلمي اللغة الاجنبية وذلك بتطوير نموذج جديد لتعليم البرازيليين كيفية التحدث بالانجليزية. هي الآن تحتفظ بـ 2600 مدرسة لها حق الامتياز، وخلقت اكثر من 20 آلف وظيفة بينما درّبت اكثر من 800 آلف طالب.

النوع الصحيح للاستثمار

الامثلة اعلاه تشير الى مجال واسع من الفرص المتوفرة للنمو عبر استهداف اللااستهلاك وخلق وكلاء محليين يستطيعون تحقيق حضور اقليمي او عالمي. النظر الى الاشياء بهذه الطريقة ايضا يلقي الضوء على الدور الحقيقي الذي تلعبه الموارد والاستثمارات في التنمية. من الواضح ان العديد من الدعامات الهامة للتنمية – مثل الاستثمار في صناعات الموارد الطبيعية ومشاريع البنية التحتية الكبيرة والاستثمار الاجنبي المباشر- لم تحقق المنافع التي توقعها داعموها. لماذا؟ السبب جزئيا يعود الى ان هذه الاستثمارات لم تخلق اسواقا.

الاقتصاديون تسائلوا منذ وقت طويل لماذا الامم النفطية مثل (ايران والعراق ومكسيكو ونيجيريا وفنزويلا) او ذات المعادن الثمينة (مثل منغوليا وبيرو وروسيا) تولّد بلايين الدولارات كعائد لكنها لا تخلق الا القليل من الوظائف والقليل من النمو في الاقتصاد القومي. الجواب هو ان الاستثمارات في صناعات الموارد في الدول النامية تقود الى ابتكارات الفاعلية، وهي مصممة لإنتاج الكثير بأقل كلفة. ومنذ اليوم الاول الذي تذهب فيه هذه الحفارات والمصافي للعمليات، فان اهداف مدرائها هو زيادة الانتاجية عبر تقليل العمالة المستخدمة. هذا هو منطق ابتكارات الفاعلية، والمحصلة تكون صافي خسارة في الوظائف وليس مكسبا.

العديد من مشاريع البنية التحتية، مثل ابراج الاتصالات، محطات توليد الطاقة الكهربائية، والطرق، هي ايضا استثمارات الفاعلية. انها تقلل كلفة عمليات الشركات الوطنية، تسمح لها بأفضل خدمة لزبائنها الموجودين، لكنها لا تقود مباشرة لخلق نمو مستدام وازدهار. في الحقيقة، اذا لم تستطع هذه المشاريع ضم انواع اخرى من الاستثمارات تستهدف خصيصا اشباع حاجات المستهلكين المحرومين، فان منافعها ستبقى محدودة بالزبائن الموجودين سلفا كما ان تأثيرها الاقتصادي سيكون محدودا ايضا. هذا يوضح لماذا استثمارات البنية التحتية في الدول النامية، المدعومة من منظمات دولية كالبنك الدولي وصندوق النقد الدولي، تفشل عادة في تحقيق نمو اقتصادي طويل الاجل.

معظم الاستثمارات الاجنبية المباشرة، في النهاية، هي ايضا موجّهة نحو الفاعلية. النوع الاكثر شيوعا هو عندما تقوم الشركة المتعددة الجنسيات ببناء مصنع واطئ الكلفة لتزويد مركبات او خدمات لمنتجات ذات استخدام نهائي. هذه الاستثمارات عادة هي "مهاجرة": حالما تنتهي الشركة من ممارسة دورها القائم على اساس الكلفة الواطئة في البلد x، فانها ستنقل مصانعها الى البلد y المنخفض الكلفة. هذه الاستثمارات في ايصال الاشياء الى البلد واخراجها منه، لا تبني مصدرا مستقرا وطويل الاجل للإنتاج والوظائف.

بعض انواع الاستثمار الاجنبي المباشر، طبعا، تجلب منافع هامة للدول النامية. احد الامثلة هو عندما يتولّى الاستثمار دعم السلعة التي تخلق سوق جديد في الخارج. من المألوف ان سوق السلع والخدمات النهائية الذي ينمو اسرع من ابتكارات الفاعلية هو مخفّض للتكاليف. مثل هذه الاستثمارات تدفع الناس ليعملوا وليبنوا ويديروا المصنع الاول، ومن ثم تستمر الشركة باستئجار عمال اضافيين لمواكبة نمو المستهلك. هذا التمييز يوضح لماذا الاستثمار الاجنبي المباشر لا يخلق نموا جوهريا في مكسيكو ولكنه خلق ذلك النمو في تايوان. معظم الاستثمارات الامريكية في مكسيكو موّلت ابتكارات فاعلية مندمجة ضمن اسواق الاستخدام النهائي القائمة سلفا – في صناعات مثل السيارات، الاثاث الكهربائية، والموتورات الكهربائية. بالمقابل، معظم الشركات التي قادت التطور الاقتصادي في تايوان – بما فيها ASUSTeK computer, HTC, Hon Hai precision Industry, MediaTek – وفّرت ابتكارات فاعلية مندمجة ضمن ابتكارات خلق السوق: ذلك ينطبق على اغلب المركبات الفعّالة و الخدمات المستخدمة في ابتكارات خلق السوق مثل اللابتوب وكومبيوتر التابلت والهواتف الذكية. وبسبب ان النمو الناتج من ابتكارات خلق السوق هو اكبر من نسبة الانخفاض الناتج عن زيادة الفاعلية، فان الاقتصاد الواسع اصبح اكثر ازدهاراً.

كيف نخلق النمو المستدام؟

بما ان معظم الاستثمارات في الدول النامية جرى تصورها من الأعلى نحو الادنى وكان تركيزها على الفاعلية، فمن غير المدهش لو وجدنا القليل من النمو في المجالات التي تتطلع للنجاح. كل من القطاع العام والخاص اذا ارادا انجاز مستقبل افضل يجب عليهما العمل على دعم ابتكارات خلق السوق والمبتكرين في اسواق بلدانهم.

ان العامل الحاسم في ترسيخ ابتكارات خلق السوق ربما يكون في تهيئة الخطط والحوافز التي تعجّل من تدفق رأس المال بين المستثمرين ومبتكري خلق السوق. جزء من هذا العمل يستلزم تكييف الادوات القائمة مع تحديات معينة للاستثمار في الاسواق الصاعدة. خطط الاستثمار اونلاين، مثل انجلست وجست، التي تربط المستثمرين مباشرة برجال الاعمال، لديها امكانية تسريع العديد من استثمارات خلق السوق (شريطة انها تستطيع التكيف لمعالجة مخاوف الثقة المشروعة للمستثمرين)، وكلاهما لديهما حضور في النطاق العالمي. ان ما يسمى بشبكات التمويل الجماعي مثل Kickstarter and Indiegogo، يمكن توظيفها بدقة اكبر في فعاليات خلق السوق، مع تركيز خاص على منح المستثمرين ذوي الاثنيات المتعددة في الدول النامية الفرصة للاستثمار. وفي الدول الغنية بالموارد، يستطيع رجال السياسة لعب دور الجسر في نقل حصة من العائدات من تلك الموارد باتجاه صناديق صممت خصيصا لاستثمارات خلق السوق. هذه الصناديق يجب ان تدار بشكل مستقل من جانب مستثمرين يفهمون كيفية رصد ودعم ابتكارات خلق السوق.

معظم رجال الاعمال يركزون على ادخال منتجات وخدمات لم تكن موجودة، فقاموا بتأسيس اسواق ولكن ابتكارات خلق السوق بنيت على استهداف اللااستهلاك والحاجات غير المشبعة في الاسواق الجديدة. لكي يستطيع رجال الاعمال الاستفادة من غزارة الفرص اللااستهلاكية المتوفرة في الدول النامية، لابد من وجود برامج تدريب كافية تعلّم رجال الاعمال كيفية رصد مثل هذه الفرص وتقدير المكافأة المتوقعة من تلبية تلك الحاجات المحرومة. وبالتنسيق مع الجامعات والشركات، هذه البرامج يجب ان تدرس الكيفية التي تمت بها السيطرة على ابتكارات خلق السوق في دول مقارنة وتحديد التكنلوجيات ذات التأثير الاكبر. عدة حالات دراسية هي متوفرة سلفا بحيث يمكن تعليم رجال الاعمال العناصر الحاسمة في خلق السوق. مثلا، قيام شركة Godrej & Boyce بصنع الثلاجة المحمولة (chotukool) – وهو المنتج الذي وفر امكانات تبريد معقولة لـ 80% من سكان الارياف الهنود غير القادرين على الحصول على تبريد جيد، يبيّن كيف ان الابداع والصبر يمكن ان يجلبا السلع المغيّرة للحياة لقطاعات من السوق كانت لفترة طويلة تفترض ان مثل هذه الرفاهيات بعيدة المنال.

مشكلة الفساد

احدى المخاوف القديمة للمستثمرين ورجال الاعمال في محاولتهم بناء اعمال في الدول النامية هي عقبة الفساد. هناك دليل بان الفساد المنهجي يمكن الالتفاف عليه. على الرغم من ان درجة الفساد في الهند هي عالية في جميع مستويات المجتمع، لكن شركات تكنلوجيا المعلومات في المقاطعات الجنوبية ازدهرت لأن الانترنيت اصبح يشكل قناة حول الفساد وليس ممرا له. هذا المبدأ يعطي املا لشركات اخرى حول العالم. بدلا من صرف الوقت في تقديم طلبات او في المفاوضات حول رسوم الشهادات، والاجازات والتراخيص والتسجيل، يجب على التنفيذيين العمل مع قادة ذوي ذهن اصلاحي في خلق طرق لجعل تلك الاجراءات سهلة وواقعية، تتجاوز فرص الفساد المتعددة المتوفرة في الطرق العادية.

حلول لمشكلة التمويل

في القيود ضمن بعض مستويات النظام، بدلا من الانتظار الى ان يغير النظام ذاته، يحاول رجال الاعمال استيعاب المشكلة والسيطرة بقوة على النتائج. فمثلا، رغم ان اسواق رأس المال التقليدية غير مرحبة بابتكارات خلق السوق، لكن مفهوم "تمويل الملكية" royalty financing قد يساعد شركات الافراد. في ظل هذا النظام، بدلا من ان يقوم رجال الاعمال بتوفير الاموال عن طريق طرح اسهم او عن طريق القروض، سيقومون بمنح رخصة لمستثمر رأس المال. المستثمر لا يستلم اي شيء حتى يتم تحقيق العائد، ومن ثم يقوم رجل الاعمال بدفع حقوق ملكية للمستثمر وهي نسبة من العائد – تماما كما في حالة اجازات الملكية الفكرية. عندما يزداد العائد، تزداد حقوق الملكية، حتى تصل الحقوق المتراكمة المدفوعة اضعاف المبلغ الاصلي. هذا الاتجاه يمنع الحاجة للسيولة، او فرصة دفع نقود، والتي يصعب التنبؤ بمحصلتها عندما تكون اسواق رأس المال ضعيفة التنظيم والحراسة. بدلا من ذلك، يستفيد المستثمرون من عملية السيولة التي هم يستطيعون فحصها والتأكد منا مباشرة.

المهارات المدربة

ان المهارات الموهوبة هي اكثر ندرة من رأس المال، وهنا ايضا، تستطيع الشركات التحرك لاستيعاب المشكلة. عبر احتضان برامج تدريب مهنية داخل الشركة والعمل عن قرب مع المدارس والجامعات، تستطيع الشركات معالجة المشكلة مباشرة. في كوريا الجنوبية، قامت شركة بوسكو POSCO للصلب ببناء جامعة خاصة بها لتدريب المهندسين الكفوئين. اعلن مؤسس الجامعة بارك تاي- جون"انك تستطيع استيراد الفحم والمكائن، لكنك لا تستطيع استيراد الموهوبين"، وبذلك قاد الشركة لتأسيس جامعة Pohang للعلوم والتكنلوجيا لتوفير التعليم في العلوم والتكنلوجيا. كانت المدرسة دائما في قمة تسلسل الجامعات الوطنية والعالمية، حيث صُنفت حسب استطلاع التايمز للتعليم العالي ضمن الترتيب الاول من بين 100 جامعة يقل عمرها عن خمسين سنة.

التسلح بتفسير سببي للنمو المستدام، والعمل في ظروف مشجعة والارتباط بصناع سياسة متعاطفين، كل ذلك يمكّن رجال الاعمال في الدول النامية من خلق اسواق وفرص جديدة. النتيجة سوف لن تكون فقط نجاح الشركات وانما ايضا خلق وظائف على نطاق واسع وازدهار دائم لبلدانهم ومواطنيهم.

* The power of market creation, How Innovation can spur Development, Foreign Affairs, January/February 2015

اضف تعليق