السؤال هو ما إذا كانت الحقبة الجديدة التي يبزغ فجرها الآن سيهيمن عليها للمرة الأولى خلال جيل كامل نمو سريع ومتواصل في الأسعار؛ أو أننا سنتمكن لأول مرة في التاريخ من التغلب بلا آلام على أزمة تضخمية بأسعار فائدة حقيقية سلبية مع تفادي الإضرار الجانبية التي قد...
بقلم: أناتول كالتسكي
لندن ــ هل تؤمن بالحكايات الخرافية؟ إن كنت كذلك، فقد يكون بوسعك في أيامنا هذه كسب الكثير من المال لو كنت تاجر أوراق مالية، أو اكتساب سلطة ومكانة لو كنت مسؤولا في بنك مركزي. فبينما قفز التضخم السنوي في الولايات المتحدة ومنطقة اليورو وبريطانيا إلى أعلى مستوياته في 40 عاما، مع احتمالية بلوغه خانة العشرات بعد الصيف، نجد الأسواق المالية والبنوك المركزية تبدو واثقة من انتهاء الحرب ضد الارتفاع الشديد في الأسعار بحلول عيد الميلاد وبدء هبوط أسعار الفائدة بحلول الربيع القادم.
إن حدث ذلك، سرعان ما سيعود الاقتصاد العالمي للظروف المثالية ماليا الشبيهة بأجواء حكاية جولدي لوكس الخرافية، وهي الظروف التي استطابها المستثمرون طوال العقد الماضي: فلم تكن الأمور شديدة السخونة ولا شديدة البرودة (كالثريد الذي كانت تفضله جولدي لوكس)، ومواتية دوما لتحقيق الأرباح فقط.
يمكن رؤية تفاؤل المستثمرين في تريليونات الدولارات التي جرت المخاطرة بها مؤخرا استنادا إلى ثلاثة رهانات سوقية وثيقة الصلة ببعضها، إذ تتنبأ أسواق المال الآن بأن تبلغ أسعار الفائدة الأميركية ذروتها عند مستوى أقل من 3.5% في يناير/كانون الثاني من عام 2023، لتتراجع بعد ذلك بدايةً من إبريل/نيسان التالي حتى تهبط إلى 2.5% في بواكير عام 2024. تُسعر أسواق السندات على أساس توقعات بانهيار التضخم في الولايات المتحدة من مستوى 9.1% اليوم إلى 2.8% فقط في ديسمبر/كانون الأول من عام 2023. كذلك تفترض أسواق الأسهم أن يكون أثر التباطؤ الاقتصادي المسبب لهذه المحاولات غير المسبوقة لإبطاء معدل التضخم خفيفا بالدرجة التي تسمح بارتفاع مكاسب الشركات الأميركية بنسبة 9% في عام 2023 مقارنة بالمستويات القياسية للعام الحالي.
يبدو القائمون على البنوك المركزية أكثر توترا من المستثمرين، وإن سرى بينهم شعور بالطمأنينة مبعثه النماذج الاقتصادية، التي ما زالت قائمة على نسخ مُحدَّثة من "فرضية التوقعات الرشيدة" التي فشلت فشلا ذريعا في مواجهة الأزمة المالية العالمية التي حدثت عام 2008. تفترض تلك النماذج أن تكون التوقعات بانخفاض التضخم المفتاح للحفاظ على استقرار الأسعار. لذا يرى القائمون على البنوك المركزية في توقعات التضخم "الراسخة تماما" دليلا على فعالية سياساتهم.
عندما يتبع مسؤولو البنوك المركزية والأسواق بعضهم بعضا، ينتهي الأمر بأن يضل كلاهما السبيل على الأرجح. لكن هذا يفسر بشكل جزئي فقط استعداد الأسواق المالية للمراهنة ضد تحذيرات أبرز المعلقين، أمثال لاري سامرز ومحمد العريان وجيم أونيل ونورييل روبيني، من عودة إلى ركود تضخمي على غرار سبعينيات القرن الماضي.
أمضيت لتوي ثلاثة أشهر من التجول حول العالم للتحاور مع مئات من المستثمرين المحترفين حول الأسباب التي دعتني أيضا للتحول إلى نظرة متشائمة على نحو قاطع، بعد عقد من التفاؤل المفرط بشأن التوقعات المحتملة للأسواق المالية. وقد أقنعتني تلك النقاشات أن الثقة التي يشعر بها المستثمرون اليوم تقوم على أربع مغالطات، أو على الأقل تحيزات معرفية.
تتمثل أولى تلك التحيزات في التقليل من شأن العوامل الجيوسياسية وتحديها ــ وهي وجهة نظر لخصها التوجيه الأسطوري الصادر عن ناثان روتشليد إبان الحروب النابليونية الذي يقول "اشترِ عند سماع صوت المدافع". ومن ثمّ، يتباهى المستثمرون المحترفون بمباشرة نشاطاتهم التجارية في مواجهة مستثمري التجزئة المذعورين الذين يبيعون أصولهم عند الحروب.
لا أنكر أن هذا النهج الاستثماري المعاكس أثبت صحته في أغلب الأحايين، وإن كان الأمر لا يخلو من استثناء صارخ. فقد تسببت حرب أكتوبر/تشرين الأول عام 1973 بين إسرائيل وتحالف من الدول العربية قادته مصر وسوريا في تغيير شكل الاقتصاد العالمي إلى الأبد بطرق دمرت جيلا من المستثمرين شديدي الثقة بأنفسهم حينما قللوا من شأن أحداث تشبه بصورة مخيفة أحداث اليوم: صدمة الطاقة، وارتفاع كبير في التضخم بعد فترة طويلة من التوسع النقدي والمالي، وارتباك بين واضعي السياسات الذي واجهوا ارتفاعا في التضخم والبطالة في آن واحد.
لقد فجّر إقصاء روسيا، أحد أكبر منتجي الطاقة والعديد من السلع الأخرى في العالم، من الأسواق العالمية صدمة في العرض لا تقل خطورة بأي حال عن حظر النفط العربي عامي 1973 و1974 وستستمر لسنوات. لذا، يتطلب استعادة استقرار الأسعار الآن تحجيم الطلب طويل الأمد على نحو صارم بما يكفي للتوافق مع الانخفاض في إمدادات السلع، مما يعني زيادة في أسعار الفائدة الأميركية إلى 5% أو 6% أو 7%، وليس ذروة لا تتجاوز 3.4% كما يفترض المستثمرون ومسؤولو البنوك المركزية الآن. لكن رد فعل المستثمرين الآلي ينحصر في التقليل من أهمية هذا الاضطراب المتعلق بالعوامل الجيوسياسية والتركيز بدلا من ذلك على تعديلات طفيفة في السياسة النقدية الأميركية.
يعكس هذا الموقف تحيزا معرفيا ثانيا، يتلخص في المثل الاستثماري القائل "عوِّل على الاتجاه المسيطر" الذي يعني أن التغيرات في المؤشرات الاقتصادية المحركة للسوق كالتضخم أو البطالة أو أسعار الفائدة أهم من مستوياتها. وعليه يعتقد كثير من المستثمرين أن الأوضاع النقدية ما أضحت مشددة للغاية إلا بسبب رفع البنوك المركزية أسعار الفائدة بزيادات بلغت 0.75 من النقطة المئوية بدلا من الزيادات المعتادة ومقدارها 0.25 نقطة مئوية، رغم أن هذه الأسعار لا تزال في الحقيقة منخفضة مقارنة بأي دورة تشديد سابقة.
بالمثل، يبدو المستثمرون غير مكترثين لارتفاع التضخم فوق مستوى تسعة بالمئة، ذلك أنهم يتوقعون هبوطه إلى 7% "فقط" بحلول ديسمبر/كانون الأول. ولكن ستستمر مؤسسات الأعمال والعاملين في الاقتصاد الحقيقي في رؤية الأسعار وهي ترتفع بأسرع معدل على الإطلاق في عقود من الزمن، وهو الأمر الذي سيتحكم حتما في استراتيجيات التسعير الخاصة بالشركات والمفاوضات بشأن الأجور لعام 2023.
يبدو مثل هذا الاستنتاج واضحا ــ إلا في نظر تجار الأوراق المالية الخاضعين لتأثير تحيز معرفي ثالث وهو: "لا تحارب مجلس الاحتياطي الفدرالي". تشدد هذه المقولة المفضلة في الأسواق على أن المستثمرين ينبغي لهم التسليم بأن البنك المركزي الأميركي سيحقق مراده بمجرد أن يسعى بجدية إلى تحقيق هدف ما، كأن يحدد مستهدفا معينا للتضخم على سبيل المثال.
ربما يبدو هذا منطقيا عندما يكون مجلس الاحتياطي الفدرالي مستعدا بحق لفعل اللازم للوفاء بأهدافه، كأن يسعى بشكل صريح وواضح لخفض التضخم بصرف النظر عن تأثير ذلك على البطالة وأسواق الأسهم وتكاليف خدمة الدين. غير أن جل تركيز مجلس اليوم منصب على توقعات التضخم "الراسخة تماما" لدرجة أنه لا يشعر بأي قلق تجاه البيانات "ذات النظرة الرجعية" التي تواصل إبراز ارتفاع الأسعار بوتيرة أسرع من كل ما رأته غالبية الشركات والعاملين من قبل.
يقودنا ذلك إلى التحيز الرابع المتمثل في الصعوبة التي يجدها معظم الناس في تصور أحداث لم تقع قط في فترات حياتهم. بالنسبة لكثير من المستثمرين وواضعي السياسات، تندرج مستويات التضخم العالية غير القابلة للسيطرة ضمن هذه الفئة. هنا نجد عقلية السوق تعبر عن هذا التحيز بالمثل السائر القائل "لا عصور جديدة".
لكن العصور الجديدة تأتي حتما، كما حدث في عام 1973 عندما تعلم العالم درسا مؤلما. وقد أوجد التفاعل الحالي بين أزمتي روسيا وجائحة مرض فيروس كورونا 2019 (كوفيد-19) والتوسع النقدي والمالي ظروفا غير مسبوقة كفيلة بأن تجعل الفترة القادمة مختلفة تماما عن الأعوام الأربعين الأخيرة.
لكن السؤال هو ما إذا كانت الحقبة الجديدة التي يبزغ فجرها الآن سيهيمن عليها للمرة الأولى خلال جيل كامل نمو سريع ومتواصل في الأسعار؛ أو أننا سنتمكن لأول مرة في التاريخ من التغلب بلا آلام على أزمة تضخمية بأسعار فائدة حقيقية سلبية مع تفادي الإضرار الجانبية التي قد تترتب على ركود كبير. تتوقع الأسواق والبنوك المركزية بثقة كبيرة حقبة جديدة هانئة. ولو صدقت توقعاتها، فربما نحيا جميعا في سعادة أبدية.
اضف تعليق