q

لم تعد وسائل الإعلام في وقتنا الحاضر مجرد ناقلة للحدث، بل صار لها دورها الكبير والمؤثر في صناعة الأحداث ولفت الأنظار لها وتوجيه الرأي العام حسب رؤية هذه الوسائل وحسب الأجندات المكلفة بتنفيذها وهي - الأجندات - سبب إيجاد هذه الوسائل فتكون تابعة لها إدارياً ومالياً ، هذه الأجندات قد تكون محلية أو اقليمية أو دولية. وبغض النظر إن كانت وسائل الإعلام هذه مرئية أو مقروءة أو مسموعة أو حتى على صعيد المواقع التواصلية التي صار لها نشطاء يمارسون دوراً توجيهياً تفوح منه رائحة الأجندات والمهيمنات السياسية والفكرية.

ويمكن الاستدلال على ملامح هذه المهيمنات حتى مع صعوبة الاستدلال بحكم الفضاء الإلكتروني المفتوح.

في كتابه (الطريق الوعر الى أور) يقول الكاتب أمير دوشي عن الإعلام المضلل بأن خبراء الإعلام أجمعوا "على أن الصورة هي التشكيل الأول للدعاية، والكثير من تواصلنا هدفه الإقناع" ، ويخلص إلى أن هؤلاء الخبراء يحددون خمسة أسئلة وصفها بالجوهرية والتي لابد من حضورها من أجل الحصول على المعلومة الصحيحة وتبيان حقيقة الخبر، وهذه الأسئلة تتعلق بمصدر المعلومة ، وماهي مصلحته في هذه القضية؟، وأية إيديولوجية تؤشر على المتحدث وهل نقل وجهة النظر النعارضة بصورة منصفة وصحيحة؟، وأخيراً هل تم ذكر أسباب المشكلة العميقة؟ .

الحقيقة التي لايمكن التغافل عنها هي أن الإعلام صناعة لها مهرتها ومحتكروها من الذين لديهم رأس المال الكبير الذي يضمن بقاء هذا النفوذ والإحتكار لأطول فترة حتى تحقيق مفردات الخطة التي من أجلها تم انشاء هذه الوسيلة أو المؤسسة الإعلامية أو تلك.

ولم تعد قضية استقاء المعلومات كما السابق مرتبطة بالحكومات والإدارات والعاملين بالمجال الصحفي بل صارت صناعة الخبر سهلة، بحيث يمكن أن تصنع حدثاً يحدث ضجة كبيرة من خلال رسالة فيديو مصورة مرسلة من هاتف محمول وهو ما تعمل عليه غالبية المؤسسات الإعلامية - الفضائية خصوصاً - ذات المشاريع المتعددة والمتباينة والتي تلتقي مع مشاريع وأجندات في أخرى وتبتعد في أماكن ثانية.

كما يستشهد (أمير دوشي) بكتاب (احذروا الإعلام) لميشيل كولون الذي يقدم مفاتيح اكتشاف التضليل الإعلامي وهذه أهمها:

1/ المصادر، ويسأل هل قدمت الوسيلة الإعلامية مصادر متعددة أم مصدر واحد، وماهي هوية المراقبين والمحللين السياسيين الذين تستضيفهم وماهي توجهاتهم وإلى أي مدى تتطابق مع رؤية المؤسسة أو بتعبير أدق مع مشروعها الذي أُنشئت من أجله .

2/ التناقضات، خصوصاً في حالة المقارنة بين الفعل المهني الصحفي لهذه الوسائل مع وسائل الإعلام والصحافة المتخصصة.

3/ النقاش ومدى اعطاء الحرية الكاملة في النقاش للآخر المختلف، ومنحه الوقت الكافي للتعبير عن رؤيته ووجهة نظره تجاه قضية تطرحها القناة قياساً بالشخص الذي تستقدمه القناة للدفاع عن وجهة نظرها حتى وإن بذلت جهداً لتوحي للمتلقي بأنه وسطي ويمثل حيادية هي غير موجودة بطبيعة الحال.

4/ المجابهة، حين تهاجم وسيلة إعلامية مسؤولا او جهة سياسية لسبب ما ، لابد من الإتصال بالناطقين الرسميين للشخص او الجهة لمعرفة ماإذا كان لديهم وجهة نظر تدحض الأسباب الموجبة للهجوم أو لتصحيح بعض المعلومات التي قادت لهذا الهجوم ، وإلاّ فإن الموضوع سيبدو على قدر كبير من الشخصنة وغرضه الرئيس تسقيطي لاعلاقة له بالسلوكيات الحضارية والمهنية.

5/ المنطق، ويتعلق بما تتوصل اليه المؤسسة من نتائج يفترض أنها استندت إلى تحليل رصين قبل أن تصل لقناعاتها بدلاً من التعبير المؤدلج والمرتبك والذي يصدر على أنه قناعة إعلامية .

6/ الأرقام عندما يتم التعامل مع حدث أمني وطريقة تناوله أو مع بعض الإحصاءات في جوانب صحية أو تنموية ودراسة ماإذا كان التعامل مع الأرقام جاء بعد التقصي الحقيقي من الجهات الرسمية أم أنه تم وفق أهواء شخصية وأمزجة لمجرد الإثارة .

هذه المفاتيح وغيرها يعتقد ميشيل كولون أن بالإمكان اكتشاف التضليل الذي تمارسه مؤسسات الإعلام المختلفة ، وطبقاً لهذه المفاتيح الكولونية يمكننا الاستدلال على بشاعة التضليل الذي تمارسه المحطات الإعلامية في العراق والتي صارت شبه مكشوفة أمام العراقيين من خلال التقارير والبرامج التي تتعاطى مع الشأنين المجتمعي والسياسي من أجل انتاج رأي عام موجه .

مؤخراً عرضت احدى القنوات التي تستقطب جمهوراً واسعاً برنامجاً فكاهياً يتناول قضايا اجتماعية مختلفة ، وماإن صار لهذا البرنامج جمهور ومتابعون حتى فاحت رائحة التوجه الذي يسيّر هذه القناة ، حيث انحرف مسار البرنامج عن تناول قضايا الشارع والمجتمع الى السخرية من مسائل تتعلق بفقه يختص بمذهب معين دون غيره بهدف تسقيطه والنيل من رموزه ، لكن ردود الأفعال الشعبية جاءت عكس ماتشتهي إرادة هذه القناة التي وجدت نفسها أمام غضب مجتمعي وحرج حقيقي دفعها لإرسال وفد رسمي يمثلها للإعتذار عن هذا السلوك. غير الأخلاقي والبعيد عن المعايير والأخلاق الصحفية الحقيقية.

واذا ماانتقلنا إلى الجانب الأسخن وهو الجانب السياسي ، نجد أن هناك سباقاً محموماً لتضليل الجمهور خصوصاً في قضية اقتحام البرلمان العراقي من قبل المتظاهرين المعتصمين ، فقد اجتهدت الوسائل الإعلامية أو أكثرها في إيصال رسالة مفادها أن المقتحمين لمجلس النواب العراقي يمثلون كافة أطياف الشعب الشعراقي ومكوناته العرقية والقومية والمذهبية بهدف إسقاط النظام السياسي برمته والمتحقق بعد سقوط نظام صدام حسين وسقوط حقبة حزب البعث ، لتنكشف خيوط اللعبة وكيف أن الجماهير المطالبة بحقوقها المشروعة كانت سُلَّماً تسلقه أصحاب الأجندات والمشاريع المشبوهة والحالمة بعودة العراق الى نقطة البعث التي حُذفت من قاموس الاهتمام العراقي إلى الأبد . وكان لمواقع التواصل الاجتماعي دور بارز جدا في هذه الأحداث حيث كان للناشطين صولات وجولات في تغذية الرأي العام بالمعلومات المغلوطة عن سقوط النظام السياسي في العراق وبشعارات تقترب من المفاهيم الليبرالية المستهلكة التي تتخذ من شعارات المدنية مطية لها، فإذا بالجمهور والمتابعين يصدمون بصور وشعارات تمثل الحقبة البعثية البائدة.

وحتى حادثة (القنفة) الشهيرة، أخذت أبعادا أكثر من حجمها الحقيقي حيث تم استغلال الموجة الجماهيرية الساخرة من وقوف رئيس البرلمان ورئيس الوزراء على أطلال هذه القنفة السياسية ومشاهدة الأضرار التي لحقت بها جراء دخول المتظاهرين لمجلس النواب ليتم إيهام البعض بأن هذه (القنفة) تعود إلى عائلة صدام حسين وذلك لإبقاء تداول قضية صدام ونظامه، وأظهرت بعض مقاطع الفيديو التي نُشرت من مكان التظاهرات قيام بعض الناشطين بتقليد حركات صدام في ساحة الاحتفالات الكبرى مع بعض الشعارات القومية البائتة، وقامت وسائل الإعلام المرئية بتداول هذه المقاطع بشكل مكثف في نشراتها الإخبارية ما يعكس توجهاً كبيراً لخلخلة الوضع وإرباكه لتأثيرها المباشر على المزاج المجتمعي، وهذا يعني أن وجود إعلام مقابل يتصدى لمثل هذه الممارسات التضليلية الهدامة صار من الضرورات الملحة في واقعنا العراقي الملتهب.

اضف تعليق