هل يمر العراق بمنعطف خطير؟، بكل تأكيد لا... لقد تجاوز هذا البلد منطقة الخطر وهو الان في قلب بركان الانهيار التام لكل مفاصل الدولة العراقية السياسية والامنية والاقتصادية والاجتماعية، وما يروج له هذه الايام من تحسن في أحد هذه الجوانب المذكورة (السياسية والامنية والاقتصادية والاجتماعية) ما هو الا ذلك السراب الذي نراه نحن في صحراء الامنيات بالحصول على وطن وفق الحد الادنى للمعايير التي تؤهلنا للدخول في معترك الحياة الانسانية.
الانهيار العراقي الذي شاركت فيه شرائح واسعة افرز جملة من المتناقضات يعرفها الجميع ويتناقشون فيها دون التوصل الى اي نتيجة، والسبب اوضح من شمس الصيف في بلد بدون كهرباء؛ اننا نعاني كمواطنين من غياب الرؤية الواضحة للأمور نتيجة التفسيرات الذاتية المصلحية تارة والخاطئة تارة اخرى، وهذه البيئة المتأزمة ادت الى صعود احزاب وسياسيين استخدموا كل ترسانتهم التضليلية من اجل البقاء في واجهة الاحداث في العراق. فالتضليل السياسي اليوم هو اساس النجاح ومن يعمل دراسة بسيطة لما يقوم به ساسة العراق يتأكد من صحة ما نقول.
وليس في العراق فحسب بل ان كتب العلوم السياسية تؤكد على وجود علاقة ارتباط قوية بين السياسية والتضليل وهي لا تقتصر على بلد معين. ففي كتابه "طرق التضليل السياسي" تحدث الدكتور كلود يونان عن هذا الموضوع واشار الى تلك العلاقة قائلا: " ان التضليل يرتبط ارتباطا وثيقا بالسياسة، ويشكل اهم منهاجياتها الصراع. واستخدام التضليل في ممارسة واقعية وعملية في الصراعات الفلسفية والفكرية السياسية.
وما زال يزاول بشدة بآليات وتقنيات ومنهجيات متطورة وحديثة متناغما مع التطور والحداثة. فانه واذا كان المضمون السياسي التضليلي قديما كان يتم ايصاله الى الجمهور السياسي المتلقي بواسطة الخطابة السياسية، فانه يتكرر اليوم عبر وسائل الدعاية المتطورة مع تطور (قوة الاستعلام) و (التبادل الاستعلامي) و(التخاطب الاستعلامي). وذروة هذه القوة الاستعلامية تتم بواسطة الانترنت حيث يتم لتصارع الايديولوجي بين الافكار والعقول بهدف التغلب والنصر والاقناع وتحقيق المصلحة بما قد تحمله هذه الايديولوجيات من تشويه للواقع وتزييف له في بعض الاحيان، لان بعض الايديولوجيات ينوه عنها غالباً (بالتضليل).
ما نريد التركيز عليه هو طرق التضليل المستخدمة في انتاج أوهام البناء والاصلاح في العراق والتي جاءت كنتيجة حتمية لصراع الارادات السياسية والحرب على تقاسم ما تبقى من كيان الدولة العراقية منذ سقوط صدام وحتى الان، وبعد احتلال داعش للموصل وجدت بعض الكيانات نفسها منزوية في الخطوط الخلفية إثر صعود نجم كيانات عسكرية خطفت الأضواء لدورها في محاربة إرهاب داعش، كما ان هبوط أسعار النفط كشف عورة الحكومة العراقية وكذبة العملية السياسية برمتها التي كان يروج لها الحزب الحاكم آنذاك.
هذه الأجواء المضطربة دعت الكيانات التي خسرت نجوميتها الى تغيير استراتيجيات البقاء على قيد السلطة فوجدت في الإصلاح وسيلة للعودة الى الأضواء مجددا ولكن بعد ان لبست ثوبا جديدا يخفي نواياها الحقيقية في الرغبة بصعود سلم قلوب الشعب، فانبرت للحديث باسم الجماهير الغاضبة على الطبقة السياسية فيما الجماهير هتفت ورائها مهلهلة بقرب افول قوى الفساد. اما الطبقة الحاكمة فطورت سلاحا خاصا بها عن طريق (ضرب الإصلاح بالإصلاح المضاد) فلبست هي الأخرى ثوب الإصلاح بعجالة، ولإخفاء فسادها استخدمت استراتيجية جديدة تمثلت بتعميم الفساد من خلال تصريحات فُسِرت على انها البداية لحل مشاكل البلد. فعلى سبيل المثال اعترف أكثر من مسؤول حكومي او برلماني على ان ساسة العراق جميعا هم مشتركون في انهيار البلد وهم يتحملون مسؤولية انتشار الفساد في مفاصل الدولة.
ومن يأخذ هذه التصريحات على ظاهرها يجدها من فضائل السياسية العراقية على قاعدة ان " الاعتراف بالذنب فضيلة" لكن الغاية من ذلك ليس الوصول الى حل نهائي ينتشل البلاد من ظلمات الفشل بل من اجل تضليل الشعب واقناعه بأنهم أقرب الطرق للوصول الى جنات الرفاهية والاستقرار. فمن الصعوبة بمكان محاكمة جميع المتهمين كما ان هذه الاستراتيجية التضليلية أدت الى اخفاء الشخصيات الفاسدة مع العلم ان أسمائهم موجودة في سجلات هيئة النزاهة.
وفي إطار الحديث عن تطبيقات التضليل السياسي في العراق وعلاقتها بما ذكره وأصّلَ له الدكتور كلود يونان ارتأينا ان نبدأ من خلال تسلسل طرق التضليل التي وردت في الكتاب مع التركيز على الأمثلة العملية في السياسة العراقية وكما في الكتاب فان اول طرق التضليل التي وردت هي "الديماغوجية السياسية" والتي تعني بحسب ارسطو بانها "مجموعة من أساليب ملتوية وتعميمات وتمويهات للحقيقة وضروب المجاملة والملاطفة" وهي تستخدم المداهنة توددا الى الجماهير واعتناقا لمرضاته.
وبالعودة الى مثالنا السابق والذي تحدث عن تعميم الفساد على الطبقة السياسية كاملة نجد ان هؤلاء استخدموا هذا الأسلوب بحرفية عالية فمن جهة أصبحوا وطنيين وفق رأي بعض المواطنين الطامحين للكشف عن رموز الفساد باعتبارهم اعترفوا بذنبهم والان هم يقودون علمية الإصلاح، ومن جهة أخرى استطاعوا إخفاء المفسدين الحقيقيين. بل ان بعضهم صعدت أسهمه السياسية الى درجة غير متوقعة من خلال استخدام هذه الاستراتيجية.
ومن اهم طرق الديماغوجية التضليلية هي الديماغوجية التسويفية التي نعيشها في الواقع السياسي العراقي منذ سقوط نظام صدام عام 2003، اذ يبادر المسوف المضلل بأطلاق الوعود وترغيب الجماهير بالخطابات اللفظية واعداً إياهم بالأماني التي يتوخاها هؤلاء فيوحي لهم ان يتوقعوا منه نتائج ما يقول والتي تبنى عليها التزاماتهم معه... الم نتذكر مثلا وعود المرشحين للانتخابات فبعض الكتل استغلت رغبة الجماهير بتحسين الخدمات الأساسية في البلد ورفعوا شعار الاعمار والبناء، وما ان تم انتخابهم حتى تبخرت تلك الوعود بحجج بعيدة عن الواقع. فلو راجعنا الوعود الانتخابية او المهرجانات الانتخابية في حينها لوجدنا ملف الكهرباء والبناء ومبادرات السكن على رأس أولويات جميع الأحزاب السياسية العراقية، فيما الواقع يكشف عن عدم وفاء الأحزاب بالتزاماتها وملف الكهرباء شاهدا حيا على ذلك.
ومن طرق التضليل التي يذكرها الدكتور كلود يونان هي الديماغوجية التكيفية إذ تتكيف فيها الجهات السياسية التي تحاول تضليل الجماهير مع وضعيات وكيفيات الجهة التي يراد تضليلها والتكيف السياسي في هذا المجال يعني ملائمة الخطاب السياسي مع حاجات وميول الجماهير المضَلَّلة وتقوم على "اللامبدئية" و "اللاالتزامية" وعلى "التقلب والتبدل". لكن ذلك ليس متاحا دائما بل بحاجة الى انتهاز الفرصة المواتية للتكييف السياسي كان تكون الجماهير المزمع تضليلها في حالة القابلية الفكرية والنفسية والسلوكية لتقبل هذا الخطاب والتأثر به.
وعلى وفق اساليب الديماغوجية التكيفية كانت الأحزاب التي حكمت العراق تنادي بضرورة تطبيق الشريعة الإسلامية فرفعت شعار الدفاع عن قيم الإسلام ومبادئه باعتبارها أساس العمل الحزبي في ذلك الوقت، وقد حققت تلك الاستراتيجية نجاحا منقطع النظير مستغلة رغبة الجماهير بأهمية تسنم شخصيات إسلامية مقاليد الحكم في البلاد على غرار النموذج الإيراني، حتى ان بعض القيادات الحزبية كان غاضبة جدا من خطاب مرجعية النجف الاشرف الذي ينادي بضرورة تبني المشروع الوطني العابر للطائفية، أي انها لم تأييد فكرة الأحزاب الإسلامية بشكل مطلق فاتُهِمَت المرجعية في ذلك الوقت بانها تقوض المشروع الإسلامي في العراق.
لكن ومع فشل هذا المشروع تراجعت تلك الأحزاب عن خطابها بل وتبدلت بشكل كبير وراحت تلوح بمشروع وطني مع بروز النزعة الوطنية لدى الجماهير وبداية افول تقديس الأحزاب الاسلامية. وهذا الاجراء يتوافق تماما مع الديماغوجية التكيفية التي تتوجه الى الناحية "اللاواعية للجماهير"، لان الذي يحرك الجماهير هو غرائزها وعواطفها وانفعالاتها. ولكي تقنع تلك الأحزاب الجماهير وتضللها ينبغي أولا فهم العواطف الجياشة في صدورها وان تتظاهر بانها تشاطرها إياها كما ينبغي ان تعرف في كل لحظة كيف تتراجع وكيف تصدر مشروعها. وهو ما فعلته مع تراجعها عن المشروع الإسلامي لصالح المشروع الوطني كما اننا شهدنا خطابا ملونا بين الوطني والطائفي فمع ارتفاع المد الطائفي تجد بعض الساسة يتحدثون عن حماية الطائفة وحقوق أبنائها من اجل كسب عطف الجماهير والحصول على تأييدها.
اضف تعليق