بين فترة وأخرى، ومع كل أزمة سياسية تعصف بعراق ما بعد 2003، تكثر التساؤلات عن درر المثقف ومواقفه من هذه الأزمات والتحديات، والواضح جداً أن النخب الثقافية فقدت مواقعها التي كانت تشغلها خلال العقود الماضية لأسباب تتعلق بتغيير المزاج المجتمعي بفعل تأثيرات العولمة المتسارعة، هذه التأثيرات غيّبت - إلى حد ما - مفاهيم كالأديب الثوري أو فنان الشعب وغيرها من المسميات التي التصقت بالأدباء والكتاب والفنانين. المشكلة أن البعض ينظر إلى المثقفين على أنهم سحرة يمكن أن يقلبوا الواقع متى شاءوا، والحقيقة هي أنهم - المثقفون - جزء من هذا الواقع وبالتالي هم جزء من المشكلة.
يقول سعد محمد رحيم في كتابه (أنطقة المحرّم): " لا نستطيع الكلام عن وظيفة المثقف مالم نستوعب أننا معنيون بسياق مختلف عن ذاك الذي تحدث به غرامشي في النصف الأول من القرن العشرين، وسارتر في العقدين التاليين للحرب العالمية الثانية.
فالمثقف التقليدي ضحية العولمة، إنه أول ضحاياها، على ما يبدو، فالعولمة باتت تقدم بدائل براقة لهذا المثقف في صورة فاعلين اجتماعيين يمتلكون تأثيراً ونفوذاً على العقول والعواطف والغرائز، أي سلطة بوساطتها يلهمون ملايين الأشخاص عبر القارات، منهم مقدم البرنامج التلفزيوني الناجح، ومنهم الرياضي، الممثل، نجم الإعلان التجاري، إن بطل العصر / الملهم لم يعد المثقف / الشاعر أو الروائي أو الفنان التشكيلي أو حتى المسرحي، فلم تعد القصة والقصيدة والمسرحية تؤثر بقدر ما يؤثر لقاء تلفزيوني مع داعية مفوّه ".
في واقعنا العراقي، - الخمس سنوات الأخيرة - تحديداً برزت هذه التأثيرات التي تحدث عنها سعد محمد رحيم خصوصاً فيما يتعلق بتأثير البرامج المقدمة عبر وسائل الإعلام المرئية وكيف أنها تساهم عبر مقدمين بارعين في توجيه الرأي العام حتى وإن كانت هذه الوسائل الإعلامية مؤدلجة ولها أجنداتها ومشاريعها .
قد نلتمس العذر للعامة في تأثرهم بما تطرحه هذه البرامج لكن السؤال هنا: كيف استطاعت هذه البرامج المكشوفة الأدلجة والمشاريع التأثير على مزاج النخبة الثقافية؟ نعتقد أن تلاقي الإيديولوجيات له دوره في هذا التأثير المحدود زمنياً وأن اكثر من 60% من هذه النخب غير مقتنعة بهذا النموذج التأثيري لكنه بخطابه يتماهى مع الأدلجة المختلفة التي يتبنونها والتقت عند نقطة لعبت عليها هذه البرامج .. الأمر الذي يعيد النقاش حول إشكالية المثقف المؤدلج.
الأزمة السياسية الأخيرة في العراق، برّزت وبشكل غير مخفي حالة الشيزروفينيا الثقافية العراقية من خلال سلوكيات لبعض من النشطاء الذين يمثلون الحركة المدنية بدولة علمانية لا يعرفون هم ملامحها في بلد المكونات المتعددة دينياً وعرقياً، والواقع أن هؤلاء الناشطين جلّهم من المثقفين الذين رحبوا بـ (الإصلاح) الذي تحدث عنه رئيس الحكومة ولم يطبق منه شيئاً - حتى هذه اللحظة على الأقل - وراحوا يجوبون الشوارع مبشرين فرحين لتعلو أهازيجهم ضد الدين وأحزابه متناسين أن الذي يبشرون به وبإصلاحه هو شخص قيادي في حزب ديني (في عنوانه على الأقل)!.
لكن سرعان ما انحرفت بوصلتهم وراحت تشير باتجاه شعارات مستهلكة منذ خمسينات القرن الماضي والتي لفظها ومازال يلفظها الشعب العراقي وهي الحقيقة التي لا يريد هؤلاء تصديقها حتى مع كل جولة انتخابات برلمانية او مجالس محافظات تُظهر الحجم الحقيقي الضئيل لأصحاب هذه المتبنيات.
مؤخراً، قاد زعيم التيار الصدري السيد مقتدى الصدر حركة احتجاج واسعة على الأوضاع المزرية التي تسبب بها السياسيون، واعلن اعتصاما جماهيريا عند بوابات المنطقة الخضراء المحصنة مطالبا بإصلاحات حكومية جذرية وشاملة تبعد الحكومة عن المحاصصة وكان هو نفسه معتصماً داخل المنطقة الخضراء. ولأن جماهير التيار الصدري كبيرة، شاهدنا التفافاً مدنيا علمانيا حول هذا الاعتصام الكبير بحيث صار المدنيون يأتمرون بأوامر الزعيم الصدري .. الأمر الذي دفع أحد الكتاب الماركسيين للتصريح من خلال صفحته على فيس بوك والقول بوفاة كارل ماركس إلى الأبد.
الواقع ، ان الناشطين المدنيين أرادوا أن يقولوا إننا موجودون وبقوة متكئين على الزخم الجماهيري الصدري الكثيف لينطبق عليهم المثل الشعبي (كرعة تتباها بشعر عمتها) إذا ما علمنا أن ليس ثمة قرابة بين التيارين فكراً وسلوكاً.
وحتى هذا الخيط الرفيع من الأمل انقطع عقب انتهاء الاعتصامات بعد الاستجابة الحكومية الشكلية، ومع ارتفاع الأصوات الناقمة على أداء نواب البرلمان المتنعمين بامتيازاتهم الأسطورية، وبعد أن كانوا في واد والشعب في واد آخر، أقدم النواب البرلمانيون على حركة احتجاج تقترب من عبارة (صحوة موت) ليعلنوا ايقاف خضوعهم لرؤساء الكتل والأحزاب ولأمزجتهم السياسية وشكلوا جبهة موحدة لتصحيح المسار البرلماني والسياسي بعد أن شعروا بلا جدواهم كممثلين للشعب بعد أن وقّع رؤساء الكتل والأحزاب وثيقة أطلقوا عليها (وثيقة شرف) رسخت مبدأ المحاصصة سيء الصيت، وقاموا بعقد جلسة شهدت تصويتهم على إقالة رئيس البرلمان الذي وقّع على الوثيقة بصفته النيابية.
الغريب ان نواب البرلمان الذين يمثلون التيار المدني الليبرالي والعلماني لم يكن لهم حضور في حركة تصحيح المسار البرلماني، والأغرب من ذلك هو أن النشطاء المدنيين أعلنوا رفضهم لهذه الحركة البرلمانية، كما رفضوا أداء النواب الذين يمثلونهم وفي ذات الوقت هم رافضون لمبدأ المحاصصة حتى صار الشارع مستغرباً من هذه التناقضات المدنية وسلوكيات النخب التي يفترض أن يكون لها دورها التأثيري على صعيد المواقف الصريحة والواضحة.
وعلى ما يبدو، ستظل العلاقة الإشكالية بين المثقف والسلطة تدور في فلك التناقضات لانعدام التفكير الجدي بمشروع بديل يمكن للنخب الثقافية أن تطرحه، مشروع واقعي وعملي قابل للتحقق بعيدا عن التنظيرات والشعارات التي ما أفضت سابقاً ولن تفضي حالياً إلى شيء ذي قيمة ملموسة، ونعتقد ان السبب الرئيس لهذه الشيزروفينيا الثقافية هو غياب المثقف الفعال، المثقف الذي لايرتضي أن يكون نتاج نسخة مشوهة تعبث بمتبنياته وقيمه.
يسأل سعد محمد رحيم في هذا الصدد: " ألا تفرض تحديات القرن الواحد والعشرين صياغة جديدة لمفهوم المثقف؟، هل المثقف حالم كبير استبد به حلمه لزمن طويل وهو قابع وسط الخراب… وحين استيقظ وجد الخراب قد استفحل وامتد الى نفسه وعقله ورؤياه أيضاً؟"، لا نريد أن نكون متشائمين أكثر من اللازم في الإجابة عن هذه التساؤلات، كما لا نريد أن نبتعد عن واقعنا ونكون خياليين مثاليين لدرجة إنكار واقعيتها، الحل يكمن في مصارحة حقيقية مع الذات ودراسة الواقع المجتمعي بعيداً عن تأثيرات الإيديولوجيا والإنتماء، وتشخيص المشكلات ومسبباتها ثم وضع الحلول الواقعية المنسجمة لتحقيق التحول الحضاري والاجتماعي.
اضف تعليق