تميل الافكار الاصولية المتطرفة وتنظيماتها الجهادية الى اعتبار صراعها مع الاخرين صراعا دينيا، يقوم على اساس المخالفة العامة لأحكام الشرع والدين الذي تمارسه وتعمل به المجتمعات البشرية في العالم الحديث، وهو تعبير عن محاولة استحواذ تمارسها تلك الافكار والايديولوجيات على الدين، فالدين هنا يصير رهين بإرادة افراد وجماعات يشكلون اخيرا هم مصدر الدين ومدارك الحكم الشرعي فيه وليس الكتاب والسنة، وبذلك تتم ازاحة سلطة الكتاب والسنة لتحل محلها سلطة امير الجماعة الاصولية باعتباره محتكرا أوليا لتفسير الكتاب والسنة او محتكرا للحكم الشرعي فيهما، وخير شاهد على ذلك هو منطق التكفير الذي تعتمده تلك الافكار والجماعات والذي يخالف في أغلبه بل في كله الحكم الشرعي في الكتاب والسنة مما يؤشر هذه الازاحة المتعمدة لسلطة الكتاب والسنة الشرعية، وقد تسبب هذا المنطق في جملة الصراع الذي يشهده عالمنا الحديث بشكل متوحش وعلى يد تلك الجماعات الاصولية المتطرفة.
ان طبيعة الفكر الذي يؤمن بالصراع محورا أوليا أو مفهوما يتداخل في تركيبة الحياة الحديثة يجعل من هذا الفكر فكرا انشطاريا باستمرار، وهو ما تأسست عليه تلك الافكار الاصولية وعبرت عنه في منطق التكفير، وبعد ان اعتادت الصراع مع العالم والاخر وتكفيره، أخذت تنتقل في صراعاتها وتكفيرها مع الذات الجماعية لتنظيماتها ومجموعاتها التي أخذ ينتابها التنافس في الاستحواذ على الدين وتمكين ذاتها من السلطة الدينية، او تمكين احد قياداتها مما يعرف عندهم بمنصب "امير الجماعة" ومن ثم منصب "أمير المؤمنين" وهو ما أثبته تاريخ هذه الجماعات المتطرفة القريب وكشف عن بنية الانشطار في تركيبة الفكر السلفي والاصولي.
لقد أعقب الانشطار بين القاعدة وداعش في سورية ومحاولة كل جماعة تمكين ذاتها من منصب "امير المؤمنين" صراعا عسكريا، ثم خروج بعض جماعات اصولية في بلاد المغرب العربي من بيعة القاعدة والتحاقها بداعش تعبير اخر عن هذا الانشطار المستمر، بل ان القاعدة في بلاد الافغان وبعد وفاة أميرها الملا عمر كانت قد انشطرت الى ثلاث جماعات كلها تدعي احقيتها بمنصب "أمير المؤمنين" وقد خاضت صراعاتها المسلحة مع بعضها البعض، وقبل ذلك ايضا انشطار القاعدة عن المؤسسة السلفية الوهابية في العربية السعودية وصراعها المسلح معها في جزيرة العرب وهي بمثابة الام لها والمؤسسة لها في حقبة الصراع السوفيتي الافغاني، وقد دخلت داعش في حالة من الصراع المبكر مع السلفية الوهابية لاسيما وان داعش يمثل النسخة الاصلية للسلفية الوهابية الاولى التي عرفت بحركة الاخوان وتراجعت في اعقاب هزيمتها امام زعمائها السياسيين "آل سعود" في معركة السبلة في العام 1929م وهي تعتبر فاتحة الانشطارات والصراعات المستقبلية والداخلية للسلفية في المنطقة.
ان طبيعة هذه الصراعات والانشطارات المستمرة في تاريخ هذه الجماعات الاصولية–المتطرفة تكشف عن طبيعة الفكر المنشطر الذي تتألف منه قواعد هذه الجماعات الفكرية، وهي قواعد بعيدة عن قواعد العقل الاصولي الفقهي الذي انتجته مدارس الفقه الاسلامي في ايام ازدهارها الحضاري والثقافي، وانما قواعد هذه الجماعات والتي تتألف منها اصول النظرية السلفية او تجد مرجعيتها في هذه النظرية قواعد تكتنه العالم لديها في اطار من التضييق الايديولوجي والنظري الذي يعد الاصل في الاشياء هو الحرمة والذي تتبعه وتمارسه تلك النظرية بشكل ثابت ومستمر فيتولد عنها هذا الانشطار المستمر.
فالعالم حين يتعرض الى هذا الضغط وهذا التكديس له في المعاني او المفاهيم الضيقة والاصل في التعامل معه هو الحرمة والبدعة والضلالة، فانه يتهيأ للانفجار ويمهد لكل الانشطارات والصراعات التي تبدأ مع الاخرين ثم تنتهي مع الذات الاجتماعية والجماعية التي تحمل تلك الافكار السلفية والاصولية نتيجة تشعب أصالة الحرمة والبدعة في تعاملاتها اليومية والحياتية والسياسية اخيرا، وهذا هو مجمل تاريخ الجماعات الاصولية والمتطرفة او تاريخ انشطاراتها المستمر في المنطقة الاسلامية.
مصادر هذا الانشطار ومرجعيته
ان العالم الذي يعاني من التضييق والتحديد وفق جملة من الاحكام والأحاديث المروية انما يعكس ضيق منهج النقل الذي تعتمده هذه الجماعات، وهو منهج تجد فيه هذه الجماعات مصدرها ومرجعيتها الدينية، وهو منهج يسهل احتواء العالم وفق صيغة ايديولوجية معدة مسبقا، وهو مأزق كل الايديولوجيات في العالم الحديث دينية او علمانية، انه مأزق الصياغة المسبقة والمعدة سلفا لما يجب ان يكون عليه العالم، انه غير التخطيط والتنظير العلمي لما سيكون عليه العالم وليس لما يجب ان يكون عليه.
هذا القسر الذي تعتمده الايديولوجيات هو ماوضع العالم امام خطر المواجهة والحرب، وأخطر هذه الايديولوجيات التي تبنت وضع العالم أمام خطر الانشطار المستمر هي الجماعات الاصولية المتطرفة، والفكرة الاساسية لديها التي تهدد بالانشطار المستمر فلا يبقى العالم منسجما، او امكانية ان يبقى منسجما بتوافق المصالح او بتهدئة التوترات، هي فكرة سوء هذا العالم الحاضر وضلالاته المستمرة وان الحل للخلاص من سوئه وتأثيمه هو العودة الى الماضي الاسلامي القديم والارتماء في الحضن الزمني للسلف الصالح، وهنا نجد مصدرية هذا الانشطار عن العالم ومرجعيته الدينية والتاريخية، وفي هذه المرجعية ومصدرها الفقهي النقلي اعتبرت السلفية المتشددة بكل اشكالها ان ماجاء بعد عصر السلف من اضافات على الحياة البشرية، حتى وان كان بصياغة اسلامية وشرعية، هو من البدع ومن الضلالات التي تخرج من الايمان وترتد عن الاسلام، ولذلك رمت السلفية كل من خالفها بالبدعة والارتداد، فغدا العالم غير المسلم من حولها مشركا كافرا عدوا لله والدين، وغدا العالم المسلم مرتدا مبتدعا قد أذن الشرع في عقيدتهم السلفية بإعلان الحرب عليه.
من هنا اعتزلت السلفية وانشطرت عن هذا العالم، لتبدأ انشطارها الذاتي مجددا عبر التكفير المتبادل بينها خصوصا فيما يتعلق حديثا بالبيعة لقادتها وامرائها، وبذلك تكشف عن منهجها الانشطاري وبنية الفكر المنشطر لديها وأصله النظري، والذي يعتمد أحادية النظرة واحتواء الاخر والرغبة في ممارسة السلطة نتيجة كم زائف يروونه وينقلونه من الأحاديث في ثواب الامرة.
ان ابرز ما يشكل صورة ظاهرة للسلفية في تجربتها الحديثة لاسيما الجهادية منها هي النظرة الاحادية والغاء الاخر والرغبة في امتلاك السلطة والامرة، وهي عوامل تسببت في كل انشطاراتها تاريخيا، وهي تجربة ايديولوجية تخالف مبادئ الاسلام في احترام الانسان والزهد في الدنيا والسلطة في تجربة المؤمنين والصالحين، وبالقدر ذاته تخالف مبادئ العالم الحضاري الحديث في حرية الانسان والديمقراطية في الحكم، ومن هنا يعد الكثير من الباحثين والكتاب أن أزمة السلفية والجماعات الاصولية هي أزمة حضارية نتجت عن تمسكها الحرفي وغير المنطقي بزمن السلف الصالح ومحاولة اعادته او نقله في صورته الزمنية القديمة ضمن منهج النقل الذي تؤمن به، ولذلك عبرت عن رفضها دخول الحداثة التي شكلت بناء هذا العالم الحديث وهيكله العام.
واذا ادركنا عظم الاخطاء والاخطار التي حدثت في زمن هذا السلف، وممارسات بعض الصحابة غير الصالحة اسلاميا وانسانيا ادركنا حجم الخطر المتوقع الذي يواجه عالمنا، ولعل واحدة منها اسواق النخاسة الجديدة التي ظهرت على ايدي افراد داعش في المناطق التي استولوا عليها في بلاد المسلمين، وكانت تشكل ذروة الخلاف بين العالم القديم الذي تؤمن به السلفية والعالم الحديث الذي تعيشه المجتمعات البشرية الحديثة.
اضف تعليق