مرة أخرى يعلو الضجيج بين العراق وتركيا، بعد فترة من الصمت السياسي، حاولت خلالها حكومة العبادي في بداية عهدها، قبل أكثر من عام، امتصاص زخم الخلافات التي تولدت بعد التقاطع التركي-العراقي حول عدة ملفات حيوية (الإرهاب، المياه، الاكراد، النفط) في حكومة رئيس الوزراء العراقي السابق (نوري المالكي) مع حكومة ادوغان الصدامية... لكن سرعان ما تتلاشى أي هدنة او بادرة للسلام يمكن ان تجمع الطرفين على طاولة الحل ونسيان الخلافات.
المصالح هي من تحكم تصرفات الجانب التركي امام العراق، في حين يحاول الأخير التعاون مع تركيا والاستفادة من نفوذها الإقليمي لتقديم المساعدة في جهود مكافحة الإرهاب، إضافة الى تقدير الازمات التي يمر بها العراق منذ عام 2003 وما سبقها، على الأقل من باب عدم إضافة المزيد من الأعباء الاقتصادية والسياسية والأمنية على الحكومة والعملية السياسية الجديدة في البلد من منطلق حسن الجوار وليس المصالح.
تركيا التي بنت سياستها الخارجية في زمن اردوغان على اعتماد الصدام المباشر والجرأة في اتخاذ المواقف الاكثر عنفا من دون المرور بالأعراف او الطرق الدبلوماسية، كانت تعتقد ان نهاية الأسد والنظام السوري أقرب من لمح البصر، وسعت من البداية الى اعداد البدائل الإسلامية ودعم المعارضة والسماح لدخول المقاتلين الأجانب وتقديم الدعم المالي واللوجستي لهم، من دون الاخذ بالاعتبار ان لنظام الأسد من يدعمه وسوف يمنع سقوطه المبكر باي حال من الأحوال... وعلى هذا المنوال دارت الحرب السياسية والعسكرية (بالوكالة) والاقتصادية والكلامية سجالا بين الأطراف المتناقضة المصالح والاهداف.
وبما ان الازمة السورية جعلت سوريا بلد منتج للتطرف والإرهاب، وحاضنة مثالية للجماعات المسلحة والتنظيمات المتشددة، فقد استقطبت عشرات الالاف من العناصر الإرهابية من عشرات الدول العربية والغربية، فضلا عن تنافس شرس بين أبرز التنظيمات المتطرفة (القاعدة، داعش) للسيطرة على الأراضي وإعلان (الخلافة) كبديل عن العمليات الانتحارية والهجمات الفردية التي كانت متبعة في السابق من قبل هذه الجماعات.
العراق كان اول المتضررين من التحولات الأمنية والسياسية التي اصابت سوريا، فمع صراع طويل مع تنظيم القاعدة، العدو الإرهابي الذي لم يهزم في العراق الا بعد معركة طويلة وقاسية ومكلفة، جاء الدور على تنظيم داعش الذي استفاد من الوضع السوري ليسيطر على مساحات واسعة من أراضيه، ويلحقها بالمزيد من الاراض العراقية، فيما بعد، مهددا العاصمة العراقية بغداد والعملية السياسية برمتها بعد هجوم سريع شنه في بداية حزيران من العام الماضي.
تركيا كانت اللاعب الرئيسي في المنطقة الرمادية من الحدث، وقد تحكمت بخيوط اللعبة من خلف الكواليس بصورها الثلاث
- السياسية من خلال دعم الجماعات المعارضة لإسقاط نظام الأسد بالتعاون مع دول عربية وغربية مؤيدة لها
- الأمنية من خلال فتح الحدود امام الراغبين بالانضمام للجماعات المسلحة، بما فيها التنظيمات الإرهابية، إضافة الى تشكيل مليشيات مسلحة لتسريع عملية اسقاط الأسد
- الاقتصادية عبر حركة التجارة الواسعة مع الأطراف المختلفة داخل سوريا، خصوصا مع تنظيم داعش، والتي امتازت بتهريب النفط وتوريد السلاح وغسيل الأموال والمخدرات وغيرها، وغالبا ما تتم عبر وسطاء ومافيات تهريب معروفة
الا ان خمس سنوات من التعقيد والضغط لم تكن كافية للإطاحة بالآسد او النظام السوري، خصوصا وان المشهد قد ازداد تعقيدا بدخول روسيا الى جانب حليفها السوري بقوة وعلى خلاف ما تشتهي المصالح التركية، وهذا الامر قد جر الى مواجهة حقيقية بين السلطان العثماني اردوغان والقيصر الروسي بوتين بعد اسقاط الطائرة الحربية الروسية.
وقد زادت الأمور تعقيدا بتحول المنطق التركي المحاصر في سوريا نحو شمال العراق واستخدامه كورقة يمكن ان تلعب بها دورا سياسيا في الحدث السوري الأهم بالنسبة اليها...
تركيا بمساعدة بعض الدول الخليجية وبارزاني (رئيس إقليم كوردستان) ومحافظ الموصل السابق، يحاولون التأسيس لموطئ قدم عسكري وأمني يمارسون من خلاله العملية السياسية والتأثير في صناعة القرار المستقبلي سواء اكان الامر يشمل سوريا او العراق.... لكنها (تركيا) ستخسر حصان الرهان بعد مغامراتها الفاشلة في السابق، والتي ستلحق بها تجاربها الأخيرة، خصوصا في العراق، الذي ما زال يتعامل مع الانتهاكات العسكرية التركية الأخيرة بتعقل واشراك الجهات الأممية في المطالبة بحقوقه ومنع الاعتداءات التي تطال ارضه وسيادته.
اضف تعليق