تصاعدت حدة الخلافات داخل "أوبك" مع دخول موجة الهبوط السعري للنفط الخام عامها الثاني، وانزلاق سعر البرميل الى دون 50 دولاراً. وقد دفع مسار الاسعار منظمة البلدان المصدرة للنفط "أوبك" إلى خفض توقعاتها للأسعار هذا العام مبدية استعدادها لتحمل انخفاض أسعار النفط لفترة أطول من أجل حماية حصتها في السوق وكبح إنتاج منافسيها.
وتقف المملكة العربية السعودية، وعدد من بلدان الخليج (الامارات وقطر والكويت تحديدا) وراء التحول في استراتيجية "أوبك" صوب الدفاع عن الحصص السوقية، بدلا من خفض الإنتاج لدعم الأسعار. وتتجاهل الاستراتيجية الجارية الانحدار الحاد في اسعار النفط بحجة إمكانية انعكاس انخفاض الأسعار على معدلات الإنتاج العالمية من النفط الخام غير التقليدي، بخاصة في الدول ذات كلف الإنتاج الباهظة، على اعتبار أن كلفة إنتاج النفوط غير التقليدية أكثر حساسية للأسعار من إنتاج النفوط التقليدية، وبالتالي ستزيح الاسعار المتدنية للنفط جزء كبير من المنتجين، خصوصا منتجي النفط الصخري. وتراهن اوبك ايضا على امكانية ان يأخذ انخفاض اسعار النفط مفعوله في زيادة الاستهلاك وتحسن مستويات الطلب على النفط بفعل تعافي الاقتصاد العالمي.
مع ذلك، يلاحظ المراقبون وخبراء النفط إن عدم تطوير حقول جديدة لن يؤثر في ميزان العرض والطلب العالمي الحالي، لأنه لا يحجب نفطاً متوافراً حالياً، إذ لن تشعر الأسواق بالخلل في ميزان العرض والطلب إلا بعد سنوات، عندما تتبين نتائج تأخير الاستثمارات الحالية في النفط الصخري على مستويات الانتاج. وقد افصحت معظم التقارير والدراسات الحديثة بان متوسط سعر 50 دولار للبرميل ملائم لاستمرار معظم الانتاج في ابار النفط الصخري خصوصا مع تدني تكاليف الانتاج واستخدام تقنيات حديثة ومتطورة في انتاج هذا النوع من النفط، وان تدني الاسعار لن يفلح في اخراج منتجين فعليين للنفط الصخري وانما سيحد من الاستثمارات الجديدة في هذا النوع من النفط نظرا لانعدام الجدوى الاقتصادية له.
وقد أظهر تقرير داخلي لأوبك، نشرته وكالة رويترز مطلع نوفمبر الجاري، تنامي الخلافات داخل المنظمة وسط الجدل الدائر بين الدول الأعضاء على الحاجة إلى دعم سعر عادل للنفط وتعزيز الإيرادات تحت وطأة تراجع أسعار الخام. وتضمنت مسودة التقرير استراتيجية أوبك في الأجل الطويل وملاحظات ومقترحات من إيران والجزائر والعراق بخصوص إجراءات لدعم الأسعار مثل تحديد مستوى سعري مستهدف أو حد أدنى للسعر والعودة إلى نظام حصص الإنتاج.
وتشير الوثيقة ايضا إلى أن الخلافات بشأن السياسة قصيرة الأجل تؤثر على تحديث المنظمة للاستراتيجية طويلة الأجل وقد تنذر بتباين المواقف خلال اجتماع الرابع من ديسمبر القادم عندما يلتقي وزراء نفط أوبك لمراجعة سياسة الإنتاج.
وتواصل السعودية وعدد من دول الخليج في منظمة اوبك التمسك بسياستها المتمثلة في الدفاع عن حصتها في السوق عن طريق الحفاظ على رفع الانتاج مما كان له تأثير سلبي على توقعات اسعار النفط. في حين ترغب كل من إيران والجزائر والعراق، وهي من أشد دول أوبك تضررا من هبوط أسعار النفط، بوضع صيغ مختلفة بخصوص حاجة المنظمة لتعظيم الإيرادات في مقدمة أهداف الأجل الطويل.
وتتهم إيران بعض بلدان اوبك في الاصرار على اغراق السوق النفطية لأجل الحفاظ على سعر نفط منخفض والاضرار بالمصالح الاقتصادية لبعض البلدان المنتجة للنفط، وترى كذلك بان سياسة المملكة خفض الاسعار لتعزيز القدرة التنافسية للنفط التقليدي مقابل النفط الصخري لم تنجح في كبح معدلات نمو الاخير ولا في تعافي اسعار النفط للعام الثاني على التوالي، وان الشركات النفطية الكبرى ماضية في تطوير وتحديث ادوات الصناعة النفطية لأجل التكيف مع سعر 50 دولار للبرميل. وتضغط إيران، التي تستعد أيضا لزيادة الصادرات واستعادة حصتها من السوق بمجرد رفع العقوبات عنها، الى إعادة العمل بنظام الحصص في منظمة اوبك والذي توقف عام 2011.
ويلقى مقترح إيران دعما من الجزائر التي اكدت اهمية العودة الى نظام الحصص الانتاجية حتى تكون إدارة الإنتاج واقعية وعادلة بقدر الإمكان، وان تكون مهمة أوبك في الاجتماع القادم العمل على تبني سياسات لتعظيم الإيرادات النفطية في الأجل الطويل للدول الأعضاء وحماية مصالحها الفردية والجماعية مع تعزيز دور النفط في تلبية احتياجات الطلب على الطاقة في المستقبل. في حين أفصح العراق، الذي يشهد زيادة ملحوظة في انتاجه النفطي، عن ضرورة أن تحدد الدول الأعضاء في أوبك سياساتها الخاصة فيما يتعلق بالاستراتيجية طويلة الأجل بخلق نموذج لتعظيم الإيرادات من خلال الموازنة بين الحصة السوقية والأسعار.
ان الانهيار المستمر لأسعار النفط يتطلب نهجاً جديداً من جانب البلدان المصدرة للنفط "اوبك" خصوصا مع تسلل اثار الصدمة النفطية الى كافات القطاعات الاقتصادية والمالية في بلدان اوبك. وتفصح التقديرات الدولية عن خسارة الدول الأعضاء في المنظمة أكثر من 500 مليار دولار من إيراداتها بسبب تهاوي أسعار النفط في الأسواق العالمية، منذ شهر يونيو/حزيران 2014 وحتى الآن، وإن هناك دولاً اقتربت من حالة الإفلاس، أو على الأقل تعاني من أزمات اقتصادية عنيفة بسبب تراجع إيراداتها من النفط. ولم تفلح البرامج التقشفية في ايجاد حلول ناجعة للخروج من الركود الاقتصادي الذي خلفه انهيار اسعار النفط.
لذا يتوجب على المنظمة ان تتعامل مع الحقائق الاقتصادية والسياسية المؤثرة في اسعار النفط من خلال سياسة موحدة تهدف لخدمة مصالح بلدانها بدلا من تشكيل محاور داخل منظمة اوبك تقوض امكانية حدوث تعافي قريب لأسعار النفط. اذ ان سياسة المحاور كفيلة بإحداث انقسامات عميقة في المنظمة بعد سنوات من العمل المشترك والناجح على رغم اختلاف سياسات الدول الأعضاء عموماً. كما ان التراجع المستمر لأسعار النفط وزيادة مستويات الانتاج تشكل خسارة مزدوجة لبلدان اوبك نظرا لتراجع الايراد النفطي من جهة وفقدان مورد ناضب بأسعار بخسة من جهة اخرى.
اضف تعليق