لا يجب الاهتمام بمقولات النسيان والتطلع إلى المستقبل، فهي سلاح يستخدمه أنصار مرتكبي المجازر لطمس الحقائق. فتخليد ذكرى المجازر هو للاعتبار ومنع تكرارها، فضلا عن انصاف الضحايا وهذا ما تتبعه كل الشعوب العريقة والدول الحرّة، رحم الله شهداء الانتفاضة، الذين ما زال الآلاف منهم في مقابر جماعية لم تكتشف...
تمرّ ذكرى الانتفاضة الشعبانية عام 1991 هذا العام، كما كل عام، دون استذكار يليق بذلك الانفجار الشعبي العفوي. باستثناء جهود فردية محدودة. في متحف الشيخ الوائلي رحمه الله، كانت جلسة استذكار لجوانب من تلك الانتفاضة. تحدث الفريق الركن نجيب الصالحي، الذي كان في الجيش آنذاك عن بعض تفاصيل تلك الانتفاضة، وكيف تم قمعها والتنكيل بالمدنيين بعدها في مجازر تستعصي على الوصف. بجانبي كانت سيدة من مواليد الثمانينيات كانت شبه مصدومة. التفتت اليّ وتساءلت: كل هذا حدث بينما لم نسمع عن ذلك سوى ما كانوا يعلموننا في المدرسة من أنها حركة إيرانية لاحتلال العراق عبر عناصر عملية لها، وكانوا يسمونها بـ"الغوغاء" و"صفحة الغدر والخيانة"؟
تخيلوا معي: سيدة مثقفة لم تطلع على هذه التفاصيل وحقيقة الانتفاضة وهويتها رغم مرور اثنين وعشرين عاماً على سقوط النظام. نعم سمعت بالمقابر الجماعية لكنها لم تسمع عن علاقتها المباشرة بالانتفاضة. هذا يدل بوضوح على حجم المظلومية الذي تعرضت له هذه الانتفاضة الشعبية، التي كانت عبارة عن انفجار شعبي نتج عن نفاد القدرة على الصبر والتحمّل، بعد أكثر من عقد على الموت بسبب حماقات النظام وزجّه العراقيين في محرقة الحروب العبثية.
يدل على حجم التقصير الذي صدر عن الأوساط المعنية بعد سقوط النظام المباد. ظلامة الانتفاضة وضحايا القمع الوحشي لها، كانت من جانب العدو والصديق، بل بعض من أبناء بيئة الضحايا أنفسهم. يمكن أن نفهم سبب الظلامة في العهد السابق، نظام دكتاتوري متوحش وطائفي للنخاع، انتفض بوجهه شعب عانى منه كثيرا وقدم ابناءه – مجبرين- وقودا في حروب عبثية، من أجل عصابة عائلية تحكم، ولا علاقة للوطن والدفاع عنه بذلك من قريب أو بعيد.
لم تتوقف تلك الظلامة عند حدود القمع الوحشي والقتل بالجملة ومئات المقابر الجماعية، التي تضم النساء والأطفال والشيوخ، بل تعدتها إلى وصمهم بالغادرين والخونة، ونشأ جيل كامل يتبنى هذا الوصف ويصدقه.
بعد 2003، كانت الظلامة الأشد مرارة.. ظلم ذوي القربي من المنتمين إلى تيار المعارضة السابقة، ومن أبناء بيئة الانتفاضة ومنهم من ذوي الضحايا الأبرياء انفسهم. رأى الناس مقابر جماعية، لكن الجيل الجديد لم يسمع من أحد لماذا هذه المقابر وماذا كان ذنبهم؟
بل أن الجيل الذي تربى على تضليل اعلامي شوّه سمعة الانتفاضة وضحاياها، بات أداة مناسبة لجهات مهتمة بتلميع صورة النظام السابق، والإساءة لضحاياه. بات الضحايا مدانين، محل تندر واستهزاء واتهام. بات "الرفحاوي" سبّة وتهمة، لأن الجريمة يجري طمسها، ولم يوضح أحد للجيل الجديد حقيقة أهل رفحاء، وما هي قصتهم ومعاناتهم، وأنهم الناجون من البطش والمقابر الجماعية ليبقوا في مخيم صحراوي لسنوات طويلة. وكذلك باقي عناوين التضحية المعارضة للنظام المباد.
التقصير يقع على المعنيين الذي انشغلوا بالمواقع والخلافات ونسوا الظلامات والضحايا. ربما قدم بعضهم خدمات تعويضية مادية لكنها ـ ودون حملة للتذكير بالجرائم – باتت موضوع اتهام لهم وجعلهم هدفاً لمعارضي نظام ما بعد ٢٠٠٣، وبينهم أيتام المرحلة السابقة، والأدوات هم جيل جديد من بيئة الضحايا. ما يجري من تقصير بحق الانتفاضة وضحاياها، ينسحب أيضا على باقي المجازر والجرائم حتى القريبة ومنياً. أي أصبحت مجزرة سبايكر وضحاياها وحقوقهم المعنوية قبل المادية.
حتى موقع الجريمة سيجري طمسه، ولم تنفع كل المناشدات التي طالبت بنقل ذلك الرصيف اللعين، وجعله في متحف في بغداد يعرض تفاصيل تلك الجريمة، وتنظيم زيارات له للطلاب والوفود الخارجية، كي تبقى الجريمة حيّة في الضمائر. تعلموا من اليهود كيف استثمروا المحرقة في ابتزاز العالم بأجمعه، وكيف جعلوا المحرقة حاضرة في ذهن كل العالم، بغض النظر عن الاعتراف بها أو الرفض. لا يجب الاهتمام بمقولات النسيان والتطلع إلى المستقبل، فهي سلاح يستخدمه أنصار مرتكبي المجازر لطمس الحقائق. فتخليد ذكرى المجازر هو للاعتبار ومنع تكرارها، فضلا عن انصاف الضحايا وهذا ما تتبعه كل الشعوب العريقة والدول الحرّة.
رحم الله شهداء الانتفاضة، الذين ما زال الآلاف منهم في مقابر جماعية لم تكتشف.
اضف تعليق