آراء وافكار - مقالات الكتاب

ليلى بين قطيع من ذئاب البعث

أيام من "الزمن القبيح"

نظر ستار إليها وكان قلبه يصرخ قبل شفتيه: إنها زوجته ليلى وتلك الحياة الصغيرة التي تحتضنها بين ذراعيها هي ثمرة زواجهما الأولى، طفلهما الوحيد. احتبس أنفاسه ولم يتكلم. ابتسم الجلاد بسخرية، وقال بلهجة تقطر وحشية: حان وقت العرض... مسرحية الليلة عنوانها: شرفك في الميزان حاولت ليلى احتضان طفلها...

في زنزانة موحشة تحت الأرض في بناية مديرية الأمن في محافظة البصرة جنوب العراق، مطلع ثمانينيات القرن الماضي، تنبعث رائحة العفن والمكان الضيق بالكاد يتسع للأجساد المنهكة، كانت الأنفاس ثقيلة تمتزج بصدى صرخات لا تهدأ. 

في هذا الجحيم جلس "ستار" جسده متهالك مغطى بكدمات سوداء، ووجهه صار لوحة من النزيف والجروح. لكنه رغم الألم، ظل مرفوع الرأس وعيناه مشتعلة بتحدٍ لا ينطفئ. 

"ستار" رجل ثلاثيني من محافظة البصرة، تحديدًا في منطقة الجمهورية، اعتُقل ذات ليلة مظلمة بتهمة الانتماء إلى حزب الدعوة الإسلامية. 

لم يكن يعلم أن القيود ستُشَد حول معصميه، لكنه كان يعلم يقينًا أنهم لن يتمكنوا من كسر إرادته. واجه الجلادين بصمتٍ يشبه صمت الجبال، تحداهم بألا ينتزعوا منه اعترافًا، مهما بلغت قسوة الأسئلة أو وحشة التعذيب. كان يعرف أنهم يبحثون عن لذة انتصارهم، لكنه أقسم في أعماقه ألا يمنحهم تلك اللذة.

 كان صموده قصيدة كتبها بدمه، وكلماته الأخيرة قبل أن يُلقى به في زنزانة العزلة "لن تنتصروا، لأنني أنا النصر الذي لن تذوقوه أبدًا."

وفي ذات مساء صرَّ صوت الأبواب الحديدية معلنًا دخول أحد طغاة صدام حسين، العقيد مهدي الدليمي - أصبح لاحقا لواء ومديرا لأمن البصرة- بزيه العسكري وابتسامته التي تنذر بالجحيم. خلفه مجموعة من الجلادين يقتادون امرأة تحمل بين ذراعيها طفلًا لم يبلغ من العمر عامًا.

 كانت ملامحها شاحبة. لكن عينيها تشعان قوةً تنبض بالأمومة رغم الرعب الذي يحيط بها. توقف الطاغية أمام السجين "ستار" نظر إليه نظرة جمعت بين الاحتقار والوعيد وقال بصوت خبيث:

- "أتعرف هذه المرأة؟"

نظر "ستار" إليها وكان قلبه يصرخ قبل شفتيه: إنها زوجته "ليلى" وتلك الحياة الصغيرة التي تحتضنها بين ذراعيها هي ثمرة زواجهما الأولى، طفلهما الوحيد. احتبس أنفاسه ولم يتكلم.

ابتسم الجلاد بسخرية، وقال بلهجة تقطر وحشية:

"حان وقت العرض... مسرحية الليلة عنوانها: شرفك في الميزان"

حاولت "ليلى" احتضان طفلها بقوة وكأنها تستطيع أن تصد عنه المصير الذي يقترب، لكن اثنين من الجلادين انتزعا الطفل من بين ذراعيها بعنف. 

صرخت صرخة مزقت جدران الزنزانة ووصلت كالسيف إلى قلب "ستار" لكنه ظل صامتًا، كانت عيناه فقط تنطق بكل عذاب الدنيا.

وضع أحدهم الطفل الصغير على الأرض أمام والدته، ثم قال لها ببرود قاتل:

"اخلعي ثيابك."

شهقت ليلى بذهول، وهتفت بصوت يعكس كل معاني الشرف.

"لا... اقتلوني، لكن لا تمسّوني!"

ضحك الجلاد بصوت كريه وقال:

"نحن لا نقتل أولًا... نحن نعبث بالأعراض. ولكن سنرى ان كان زوجك حريص على شرفك."

اندفعوا نحوها، مزقوا عباءتها وخلعوا عنها كل ما يسترها، ووقفت أمامهم عارية، ترتجف من الخوف ومن الانكسار والضعف، لكنها رغم كل شيء رفعت يديها تحاول تغطية ما تبقى من كرامتها، ثم التفتت نحو الجلادين قائلة بصوت مبحوح مبلل بالدموع:

"لا تنظروا... بالله عليكم لا تنظروا!"

كان زوجها "ستار" قد أطرق رأسه، وعيناه تسبحان بالدموع، لكنه لم يسمح لها بالسقوط. لقد فهم استغاثتها، وفهمت عيون السجناء أيضًا، فأطرقوا رؤوسهم جميعًا احترامًا لصراخها الصامت.

لكن الوحشية لم تنتهِ عند هذا الحد... كان طفلها يصرخ على الأرض، يبكي جوعًا وذعرًا، لكن صرخته لم تجد رحمة بين تلك الجدران. التقط كبير الجلادين الطفل من قدميه كما يلتقط قطعة قماش، ونظر إلى أمه بابتسامة جافة ثم قال:

"أما زلتِ ترفضين الحديث؟"

صرخت "ليلى" بجنون:

"اتركه... أرجوك... إنه رضيع... إنه بلا ذنب!"

لكن الوحش ألقى بالطفل بكل قسوة نحو الجدار الحجري. دوى صوت الارتطام، وسكتت الصرخة الصغيرة إلى الأبد. تهشمت تلك الحياة الغضة قبل أن تبدأ.

تجمد الزمن للحظة... كانت "ليلى" قد انهارت بجسدها النازف فوق جسد طفلها، تحتضنه كأنها تحاول إعادته للحياة، تناديه بكلمات مكسورة لا يسمعها سوى الله.

أما "ستار"، فقد تخلّع شيء من روحه تلك اللحظة. نظر إلى جثة طفله، وإلى زوجته التي تنزف بجواره، ثم رفع عينيه إلى السماء، كأنما يستغيث بعدل يأتي من حيث لا يدري.

لكن الجحيم لم ينتهِ...

اقترب الجلاد من "ستار" وقال بصوت كالجليد:

"أتعرف؟ لا تزال لديك فرصة لتنجو... قل لنا ما نريد، ولن تموت مثلهم."

كان "ستار" جامدًا، صلبًا، كأنه صار تمثالًا من حجر، لكنه نطق بصوت هادئ، كأنه يأتي من تحت الرماد:

"قتلتم طفلي... وذبحتم روحي... وحشيتكم الطائفية هذه لم تبق لي شيئا أخاف عليه؟"

أغاظهم صموده، فأشار مهدي الدليمي إلى رجاله:

"ارفعوه إلى الكنّارة."

كانت "الكنّارة" إحدى أدوات التعذيب الجحيمية: يُعلق السجين من يديه المكبلتين إلى السقف، حتى يكاد جسده يتمزق من وزنه. 

علقوه، وبدأت الهراوات تنهال على جسده المتورم، لكن من بين الضربات، لم يسمعوا سوى صوت واحد منه، صوت أطلقه بوجع السماوات:

"ليلى... سامحيني..."

بقي معلقًا، حتى خارت قواه، وغطى الدم جسده بالكامل. ثم، من بين ألمه، لمح كبير الجلادين يتوجه إلى زوجته التي كانت تحتضر بجوار طفلها، وهراوة الموت مرفوعة. حاول "ستار" الصراخ، لكن صوته خرج مختنقًا، مكتومًا بالألم.

ضربة واحدة... وسقطت "ليلى" لتلحق بطفلها.

حينها فقط، تهدجت أنفاس "ستار" وغامت عيناه بالدموع التي حبسها طويلًا. خارت كل قواه، لكنه شعر أن المعركة التي خاضها كانت أعظم من كل انتقام.

رفع كبير الجلادين هراوته متوجهًا نحو "ستار" ليجهز عليه، وقال ساخرًا:

"انظر، خسرت كل شيء... أكان الأمر يستحق؟"

ورغم الألم الذي كان يلتهمه رفع "ستار" رأسه بآخر ما تبقى فيه من روح وقال:

"لم أخسر شيئًا... أنتم الخاسرون... فقدتم إنسانيتكم، أما أنا... فقد فزت بحريتي... لن تملكوا روحي أبدا."

ضربة أخيرة، وخرّ "ستار" صامتًا إلى الأبد، لكنه لم يمت... بل انتصر!

 انتصر لأنه مات واقفًا، متمسكًا بكرامته، وحمل معه صرخة زوجته، وبراءة طفله، وشهادة للتاريخ لن تموت.

في تلك الليلة، خرج الجلادون منتصرين بأجسادهم، لكنهم تركوا أرواحهم في زنزانة امتلأت بالدم، وبالكرامة التي لم تنكسر.

أما قصة "ستار وليلى"... فقد عاشت.

لقد صارت صوتًا لا يُخرس، تهمس لكل الأجيال:

قد تموت الأجساد... لكن لا يموت الحق.

(*- بتصرف عن قصة السجين السياسي، الاستاذ جميل الفارس.)

اضف تعليق