أمام ما يجري في المنطقة، يكون العراق في أمس الحاجة إلى سياسة عقلانية ومعالجات هادئة لتجنيب البلاد أية تداعيات سلبية، دون إغفال معالجة الواقع الداخلي، الذي يشهد توغل أطراف خارجية للتأثير فيه، ربما للتحضير لصفحة عراقية من المشروع الإقليمي...
انتهى العام 2024 بكل ما حمله من مآسي حروب وتهجير وقتل، فيما العام لا يبدو أفضل من سابقه. ما حدث في المنطقة لا يخص البلدان، التي جرت فيها هذه الاحداث مثل فلسطين المحتلة ولبنان وأخيراً سوريا، التي كان سقوط حكم الاسد مفصلا مصيرياً ستتوالى تبعاته على الدول المجاورة، فضلا عن الداخل السوري. فما يجري ليس احداثاً محلية بل يجري ضمن مشاريع دولية لإعادة رسم خريطة جديدة للمنطقة على أنقاض سايكس- بيكو.
تلك كانت تقسيماً للمنطقة وفق المصالح الأوروبية، وما يراد الان هو خريطة تخدم اللاعب الاميركي تكون الهيمنة فيها لإسرائيل، مع مجال لنفوذ تركي يخدم هذا المشروع ويحقق لأنقرة هدفاً طالما كانت تحلم به، وهو لن يتوقف عند الأراضي السوري، بل ربما يكون محطة تنتظرها محطات أخرى أقربها "ولاية الموصل" بانتظار أن تنضج الظروف لذلك.
من جهتنا، لم يكن نظام الأسد حليفا للعراق، بل كانت معاناتنا كبيرة من دعمه للحركات الإرهابية، التي كانت تفجر السيارات المفخخة في شوارع بغداد ومحافظات الوسط والجنوب. كان الارهابيون يتدربون ويتسلحون ويدخلون العراق بدعم كامل من مخابراته. حتى داعش، كانت بدايات تأسيسها من قبل المخابرات السورية للوقوف بوجه جبهة التنظيمات الأخرى، لكن زمامها انفلت من يد السوريين وباتت عبئا عليهم، فكانوا يطردونهم إلى الأراضي العراقية بالمئات، ولم تنفع طلبات العراق آنذاك بالتعاون معه للتصدي لهم على الحدود. كان هذا قبل عام 2014، الذي تحول فيه تنظيم داعش إلى أداة بيد مخابرات دولية وتحديدا أميركية، في عهد اوباما ووزيرة خارجيته هيلاري كلنتون، وفق اعتراف الرئيس الأميركي العائد دونالد ترامب.
لكن نظام الأسد كان فيما بعد عامل ارتكاز في مشروع التصدي للتوسع الاسرائيلي، الذي انفلت عقاله بعد لإطاحة به وتوغلت القوات الاسرائيلية في الأراضي السورية وفق ما يشتهي وتوقف حيث يمكنه أن يتقدم حتى إلى العاصمة دمشق. الحديث عن هذه الإيجابية لا ينفي عن نظام الأسد بطشه الداخلي وتنكيله بشعبه، ليس بعد العام 2011 واشتعال الانتفاضة الداخلية، التي تحولت إلى حرب سلفية تكفيرية، انما قبل ذلك بعقود، بنهج يقترب مما كان يفعله بعث العراق. لم يعد لدى أحد أي شك في أن تركيا هي الراعي الرسمي لما حدث في سوريا، منذ سنوات طويلة لكنه أثمر اليوم هيمنة كاملة.
التقت مع المخطط الإسرائيلي الذي أفصح عنه الكثير من الصهاينة على رأسهم نتنياهو المجاهر بأنهم وراء كل ما يحدث في غزة ولبنان وسوريا. القوميون الترك أعلنوها صراحة بأن "حلب عادت تركيّة". لكن النفوذ التركي وصل إلى كل الأراضي السورية اليوم. المشروع التركي متعدد الاوجه. توسيع مناطق النفوذ كشكل من أشكال العثمانية الجديدة، والوصول إلى مصادر الطاقة في البحر والبرّ السوريين، فيما إسرائيل تريد تنفيذ مشروع اضعاف وتقسيم دول المنطقة إلى دويلات طائفية وعرقية متقاتلة فيما بينها، وهو مشروع قديم يجري تحديثه كل حين بدأ العمل عليه منذ بداية الثمانينات.
النفوذ التركي في اتساع، فهو في ليبيا الآن يمنع توحيد حكومتها، وفي سوريا مهدد بحرب داخلية مع "قسد" الكردية، وهو في شمال العراق حيث تتمركز قوات تركية في منطقة بعشيقة، فضلا عن أكثر من مئتي نقطة في إقليم كردستان العراق، والقوات التركية تتجول في العديد من القرى والمدن العراقية. في معسكر بعشيقة، هناك ثلاثة آلاف عراقي يتلقون تدريباً عسكرياً بما يشكل ميليشيا مدربة ومجهزة فما سيكون دورها؟. وفي الموصل يتوسع النفوذ وتلعب القنصلية التركية دوراً كبيرا في التأثير على الواقع السياسي والاقتصادي للمحافظة. التصدي لنفوذ حزب العمال الكردستاني التركي، بات المظلة التي تغطي النفوذ التركي المتزايد في شمال العراق. لا أحد من السياسيين والناشطين يتحدث عن نفوذ تركي في العراق باستثناء قلّة قليلة.
أمام ما يجري في المنطقة، يكون العراق في أمس الحاجة إلى سياسة عقلانية ومعالجات هادئة لتجنيب البلاد أية تداعيات سلبية، دون إغفال معالجة الواقع الداخلي، الذي يشهد توغل أطراف خارجية للتأثير فيه، ربما للتحضير لصفحة عراقية من المشروع الإقليمي.
لا ننسى أن العراق هو أحد الدول المستهدفة بالتقسيم في كل المشاريع المعدّة، لإعادة رسم خريطة المنطقة تحت اسم "الشرق الاوسط الجديد".
اضف تعليق