قدّم الشيعة الإمامية من أجل ولائهم لأهل البيت وتمسّكهم بهم أعظم صور الجهاد على مختلف الأصعدة ومن ذلك جهادهم بالأنفس والسنان والأموال. ومن أعظم ما جاهد به الشيعة الموالون عن أهل البيت هو جهادهم بالكلمة والبيان حيث سطّروا خير صور للجهاد عن عقيدتهم في سادتهم ومواليهم. أذكر نبذة...
تضافرت الأخبار عن أهل البيت (عليهم السلام) بنزول البلايا على الشيعة الإمامية لولائهم الخالص لهم، ففي الحديث عن الإمام الصادق (عليه السلام)، قال: من دخل في هذا الأمر- أي الولاء لهم- فليتخذ للبلاء جلبابا، فوالله لهو إلينا وإلى شيعتنا أسرع من السيل إلى قرار الوادي يتبع بعضه بعضا (1).
وقال أميرالمؤمنين (عليه السلام): من أحبنا فليستعد للفقر جلباباً (2).
وقال (عليه السلام): من أحبنا فليعد للبلاء جلبابا (3).
وقد اشتهر هذا المعنى عند الشيعة الإمامية حتى نظم بعضهم في ذلك ومنهم السيد الحميري (رحمه الله) قال:
إن كنت من شيعة الهادي أبي حسن --- حقا فأعدد لريب الدهر تجفافا
إن البلاء مصيب كل شيعته --- فاصبر ولاتك عند الهمّ مقصافا (4).
وقد تحمّل الشيعة الإمامية كل الصعاب والمخاطر وبذلوا الغالي والنفيس مقابل ولائهم لأهل البيت النبي (عليهم السلام) لعلمهم الراسخ أنّ الكون معهم مهما بلغت مخاطره هو خير من مفارقتهم، وكما في الحديث عن حمد بن الحسن بن شمون، قال: كتبت إليه- أي الإمام العسكري (عليه السلام)- أشكو الفقر، ثم قلت في نفسي: أليس قال أبو عبد الله (عليه السلام): الفقر معنا خير من الغنى مع غيرنا، والقتل معنا خير من الحياة مع غيرنا (5).
وفي الحديث عن الإمام الرضا (عليه السلام) لإبراهيم ابن أبي محمود، قال: يا ابن أبي محمود إذا أخذ الناس يميناً وشمالاً فالزم طريقتنا، فإنّ من لزمنا لزمناه ومن فارقنا فارقنا (6).
جهاد الكلمة
وقد قدّم الشيعة الإمامية من أجل ولائهم لأهل البيت (عليهم السلام) وتمسّكهم بهم أعظم صور الجهاد على مختلف الأصعدة ومن ذلك جهادهم بالأنفس والسنان والأموال.
ومن أعظم ما جاهد به الشيعة الموالون عن أهل البيت (عليهم السلام) هو جهادهم بالكلمة والبيان حيث سطّروا خير صور للجهاد عن عقيدتهم في سادتهم ومواليهم.
ومن هنا وجدت من الجدير أن أذكر نبذة من جهاد الشيعة ودفاعهم عن عقيدتهم في أهل البيت (عليهم السلام) في اللسان والبيان، فأقول:
ليس هناك شك أنّ للبيان أهمية خاصة تفوق في بعض الأحيان عن حدة السنان، وكما قال الشاعر:
جراحات السنان لها التئام --- ولا يُلتام ما جرح اللسان
وقال شاعر آخر:
وقد يُرجى لجرح السيف برء --- ولا بُرء لما جرح اللسان
وقال آخر:
وجرح السيف تدمله فيبرا --- وجرح الدهر ما جرح اللسان (7).
ويكفي في بيان تأثير البيان واللسان ما وري عن النبي (صلى الله عليه وآله) قال: وإنّ من البيان لسحرا (8).
وقد أبدع الشيعة الموالون في النصرة اللسانية لسادتهم الأطهار من أهل البيت (عليهم السلام) وجهادهم البياني وسجّلوا على جنبات التأريخ أعظم صور للجهاد بالكلمة ومن ذلك:
شهيد الحق حجر بن عدي
روى المؤرخون أنّ أُمّ الحكم لامت معاوية على عدائه لأميرالمؤمنين (عليه السلام)، فلمّا أصبح قال: اجلسي في قبتك، وارخي عليك سجفك لتسمعي مقالة من يدخل عليّ من وجوه بني أمية، ورؤساء أهل الكوفة، وأخبارهم.
فلما مثلوا، واستقرت بهم مجالسهم قال معاوية للحاجب: أدخل علي حجر بن عدي الكندي الكوفي. فأذن له. فدخل، وسلم. فقال له معاوية: يا بن الأسن، القبيح المنظر، القاطع بنا الأسباب، المُسمّى بالأحزاب، والملتمس بحربنا الثواب، والمساعد علينا أبا تراب.
فقال: يا معاوية، لا تذكر رجلاً كان بالدين برورا، راعي الأمة، وخليفة النبوة، المحامي عن الإسلام أولا وآخرا، خائفا للّه، وبما يرضيه عارفا، عاملا بدين اللّه، طويل الركوع، طاهر الخشوع، قليل الهجوع، قائما بالحدود، متوجها للمعبود، طاهر السريرة، محمود السيرة، نافذ البصيرة. ملك أمرنا فكان كبعضنا، لم يبطل حقا، ولم يظلم خلقا، ولم يخف إلا من اللّه - عزّ و جل - ثم بكى حتى كاد يتلف، ثم رفع رأسه وقال: أما توبيخك إياي، وما كان مني، فاعلم - أيها الإنسان - أني غير معتذر مما جنيت، ولا مكترث ممّا به أتيت؛ فأعلن سرك، وأظهر أمرك!
فقال معاوية: يا غلام، أخرجه عني، فقد بلغ مني. ولو لا ما سبق مني لما فاته طعم السيف. ولعل ذلك يكون بعد هذا (9).
ناطق الحق هاني بن عروة
قال الهيثم بن عدي: وأدخل على معاوية هاني بن عروة، فلما دخل قال معاوية: أنت المائل علينا علي بن أبي طالب، العدو المحارب، الخارج علينا في جماعة المسلمين يوم صفين؟
فقال هاني بن عروة: أما خروجي عليك يابن هند فإنني غير معتذر منك، ولو كنت مبارزي يوم صفين لقد كنت أيتم منك هذا المجلس، وكذلك هؤلاء الجلوس لو أنهم بارزوا لأعولت عليهم نساؤهم في جملة المعولات، وإنما تربصت بنفسك عن أن تلحق الكرام.
فوالله ما أحبنناك منذ عرفناك، ولا قلبنا السيوف التي فيها جالدناك، وإنها لحداد بأيدي أناس شداد، وإن نصر الله لينزل علينا، وإنا لنعرف أيادي الله (10).
المجاهد بالكلمة الأحنف بن قيس
كان الأحنف بن قيس يوماً عند معاوية فدخل رجل من أهل الشام فقام خطيباً، فكان آخر كلامه أن سبّ عليا (عليه السلام) فأطرق الناس، فتكلّم الأحنف، وقال مخاطبا لمعاوية: إنّ هذا القائل ما قال لو يعلم ان رضاك في شتم الأنبياء والمرسلين لما توقّف عن شتمهم، فاتق الله ودع عنك علياً، فقد لقي ربّه بأحسن ما عمل عامل، كان والله المُبرّز في سبقه، الطاهر في خُلقه، الميمون النقيبة، العظيم المصيبة، اعلم العلماء، وأحلم الحلماء، وأفضل الفضلاء، وصي خير الأنبياء.
فقال معاوية: لقد أغضيت العين على القذى وقلت بما لا ترى، وأيم الله لتصعدن المنبر فتلعنه طوعاً أو كرها.
فقال: إن تعفيني فهو خير لك فو الله لا يجري به لساني أبداً، فقال: لا بد أن تركب المنبر وتلعن علياً، فقال: إذن والله لانصفنك وأنصفن عليا.
قال: تفعل ماذا؟
قال: احمد الله وأصلّي واثني على نبيّه وأقول: أيها الناس أنّ معاوية أمرني أن ألعن علياً وأن علياً ومعاوية اقتتلا وأذعن كل منهما أنه كان مبغياً على أحدهما وعلى فئته، فإذا دعوت فأمّنوا على دعائي، ثم أقول: اللهم العن أنت وملائكتك وأنبياؤك ورسلك وجميع خلقك الباغي منهما على الآخر، والعن اللهم الفئة الباغية على الفئة المُبغي عليها آمين رب العالمين، اللهم العنهم لعناً وبيلا وجدّد العذاب عليهم بكرة وأصيلا، قال معاوية: بل أعفيناك يا أبا بحر (11).
شهيد البيان ميثم التمار
روي عن ميثم التمار قال: دعاني أمير المؤمنين (عليه السلام) يوماً، فقال لي: يا ميثم كيف أنت إذا دعاك دعي بني أمية عبيد الله بن زياد إلى البراءة مني؟
قلت: إذاً والله أصبر وذاك في الله قليل.
قال: يا ميثم إذا تكون معي في درجتي.
وكان ميثم يمرّ بعريف قومه، فيقول: يا فلان كأني بك قد دعاك دعي بني أمية وابن دعيّها فيطلبني منك، فتقول: هو بمكة، فيقول: لا أدري ما تقول ولا بد لك أن تأتي به، فتخرج إلى القادسية فتقيم بها أياماً فإذا قدمت عليك ذهبت بي إليه حتى يقتلني على باب دار عمرو بن حريث، فإذا كان اليوم الثالث ابتدر من منخري دم عبيط.
قال: وكان ميثم يمرّ في السبخة بنخلة فيضرب بيده عليها ويقول: يا نخلة ما غذيت إلا لي، وكان يقول لعمرو بن حريث: إذا جاورتك فأحسن جواري، فكان عمرو يرى أنه يشتري عنده داراً أو ضيعة له بجنب ضيعته، فكان عمرو يقول: سأفعل، فأرسل عبيد الله بن زياد إلى عريف ميثم يطلبه منه فأخبره أنه بمكة، فقال له: إن لم تأتني به لأقتلنك، فأجّله أجلاً وخرج العريف إلى القادسية ينتظر ميثماً، فلما قدم ميثم أخذ بيده فأتى به عبيد الله بن زياد، فلما أدخله عليه، قال له: ميثم؟
قال: نعم.
قال: ابرأ من أبي تراب.
قال: لا أعرف أبا تراب.
قال: ابرأ من علي بن أبي طالب.
قال: فإن لم أفعل؟
قال: إذا والله أقتلك.
قال: أما أنه قد كان يقال لي إنك ستقتلني وتصلبني على باب عمرو بن حريث فإذا كان اليوم الثالث ابتدر من منخري دم عبيط.
قال: فأمر بصلبه على باب عمرو بن حريث، فقال للناس: سلوني سلوني وهو مصلوب قبل أن أموت، فو الله لأحدّثنكم ببعض ما يكون من الفتن، فلما سأله الناس وحدّثهم أتاه رسول من ابن زياد فألجمه بلجام من شريط، فهو أول من ألجم بلجام وهو مصلوب، ثم أنفذ إليه من وجأ جوفه حتى مات فكانت هذه من دلائل أمير المؤمنين (عليه السلام) (12).
ابن السكيت شهيد كلمة الحق
هناك مصداق آخر يجسّد براعة الشيعة في جهاد الكلمة وهو موقف الأديب الكبير ابن السكيت يعقوب بن إسحاق الذي كان وجهاً من وجوه الأدب صاحب كتاب إصلاح المنطق، وكتاب الألفاظ، وكتاب الأضداد وغيرها من الكتب القيمة.
كان ابن السكيت متقدماً عند الإمامين أبي جعفر الثاني وأبي الحسن (عليهما السلام)، وهو من أكبر الوجوه في اللغة العربية.
وقد بلغ ابن السكيت من المقام والمكانة أن يشهد له المخالفون بالوثاقة والمكانة الرفيعة، ومن ذلك كلام للخطيب البغدادي فيه، قال: كان من أهل الفضل والدين، موثوقاً بروايته (13).
وقال ياقوت الحموي: وكان عالماً بالقرآن ونحو الكوفيين، ومن أعلم الناس باللغة والشعر، راوية ثقة ولم يكن بعد ابن الأعرابي مثله (14).
وقال الذهبي: ابن السكيت شيخ العربية...ديّن خيّر، حجة في العربية...وكتبه صحيحة نافعة...وقيل: إليه المنتهى في اللغة (15).
ومن براعة ابن السكيت في جهاد الكلمة ما نقله الذهبي، قال: ويروى أنّ المتوكل نظر إلى ابنيه المعتز والمؤيد، فقال لابن السكيت: من أحب إليك: هما، أو الحسن والحسين؟
فقال: بل قنبر، فأمر الأتراك، فداسوا بطنه، فمات بعد يوم (16).
وقال ابن تغري: كان علاّمة الوجود، قتله المتوكل بسبب محبّته لعلي بن أبي طالب رضي الله عنه، قال له يوماً إيما أحب إليك: أنا وولداي المؤيد والمعتز، أم عليّ والحسن والحسين؟
فقال: والله إنّ شعرة من قنبر خادم عليّ خير منك ومن ولديك، فأمر المتوكل الأتراك فداسوا بطنه فحمل إلى بيته ومات (17).
اضف تعليق