قليلون هم الذين توقعوا النهاية الدراماتيكية لنظام البعث وانتهاء حكم عائلة الأسد في سوريا. كانت سوريا ولا تزال الجائزة الكبرى للصراع الإقليمي والتنافس الدولي في الشرق الأوسط. لم تكن عوامل التدخل الخارجي أكثر تخريبًا من السياسات البائسة للنظام. وقد اجتمعت البلادة والتصلب والعنجهية لتنهي 51 عاما من حكم أسرة الأسد...
قليلون هم الذين توقعوا النهاية الدراماتيكية لنظام البعث وانتهاء حكم عائلة الأسد في سوريا. كانت سوريا ولا تزال الجائزة الكبرى للصراع الإقليمي والتنافس الدولي في الشرق الأوسط. لم تكن عوامل التدخل الخارجي أكثر تخريبًا من السياسات البائسة للنظام. وقد اجتمعت البلادة والتصلب والعنجهية لتنهي 51 عاما من حكم أسرة الأسد.
لكن الخاسرين لم يكونوا علويي سوريا وتركيا وبعض الشيعة، بما فيهم محور المقاومة الذي راهن على دعم النظام حتى الأسبوع الأخير من عمره، وبعض الفئات السورية واللبنانية وعربا آخرين من الذين اعتقدوا أن النظام يمثل آخر بقايا المشروع القومي العربي وتمسكوا به. ولعل القوميين العرب بنسختهم الشامية يدركون الآن أن مشروعهم الآفل قد انتهى إلى غير رجعة، مثلما تجد قوى الإسلام السياسي السني التقليدي نفسها، وقد ورثها أتباع السلفية الجهادية، الذين خلعوا جلباب التطرف وأقبلوا على لبس ثوب الاعتدال في معركة لم تنتهِ فصولها بعد. السوريون بشكل عام ربحوا انفسهم وبلادهم ما لم ينتكسوا إلى مربع الطائفية والتصنيفات القائمة على الكراهية والعداوة اجتماعيا وسياسيا وقانونيا.
أكبر الخاسرين، بطبيعة الحال، محور المقاومة الذي تعرض إلى ضربات صاعقة شطرت نصفه وأبقت الجسد في الشطرين مثخنا بالجراح. يعاني المحور الآن من هول الصدمة التي يشبهها بعضهم بصدمة معركة أُحد في صدر الإسلام. والدرس المستفاد من أُحد أنه لا بد من قراءة الأخطاء والمراجعة والنظر في الأمور بعقل مرن لا يهول الأخطار، فيبالغ في ردود الأفعال، ولا يعيش الأوهام فيندفع بلا حساب للإمكانات والقدرات، ولا يحصي المخاطر حساب الواقعي الحريص. مقارنة معركة سوريا، أو الصراع على سوريا كما يسميها الصحفي البريطاني الراحل باتريك سيل، بمعركة أُحد من هذه الجهة، أو بسقوط البويهيين وتغلب السلاجقة كما قد يقارن آخرون من جهة أخرى، لن تفيد الخاسرين والرابحين.
فالرابح الأول خارجيا هو الكيان الإسرائيلي، الذي احتفل بخسارة المحور المعادي له لدولة خطيرة بوزن سوريا، وراح يدمر ما بقي من إمكانات وقدرات، وابتلع في غضون ساعات ما تبقى لسوريا من هضبة الجولان وجبلها الأهم، جبل الشيخ. الآن صار بإمكان الإسرائيلي أن يراقب دمشق والسهل السوري بالعين المجردة بلا حاجة إلى طائرات التجسس والاستطلاع.
وقد تحقق لنتنياهو ما حلم به في وضع الأحجار الأساسية لشرق أوسط جديد كما يسميه، تكون فيه لتل أبيب الزعامة والهيمنة. الرابح الثاني هو تركيا، التي جعلت سوريا ساحتها الاستراتيجية الأمامية. تركيا التي راوغت روسيا وخدعت إيران كما يقول الإيرانيون، راهنت على تغيير استراتيجي كبير يمنحها مساحة الدور الإقليمي الأكبر بتراجع الدور الإيراني وتوسع عمقها الحيوي إلى الشام، متذرعة بإيقاف التمدد الكردي المسلح في جنوبها، وتزايد ثقلها الإقليمي والدولي.
ينتظم صف الرابحين طويلاً، عربيا ودوليا. ابتداء من اللبنانيين إلى العمق السني، فجميع الذين اشتكوا من النفوذ الروسي الإيراني في سوريا على المستوى الدولي، وجميع الذين خشوا على سوريا لاعتبارات مذهبية وطائفية، وجدوا في سقوط حكم نظام الأسد مكسبا يمكن تعظيمه لاحقا لإعادة بناء خرائط المنطقة السياسية والمذهبية لصالح محاور واتجاهات تعادي أو تخشى من التمدد الإيراني وحلفائه المحليين. إشارة رئيس البرلمان الإيراني قاليباف إلى أن سقوط النظام في سوريا أحدث خللا في بنية معسكر القوى المرتبطة بالجمهورية الإسلامية، كانت مؤشرا مهما على عمق الخطر الذي تشعر به إيران.
فقد انتهى الاستثمار الكبير، الذي امتد لعشرات السنين إلى خسارة فادحة تلحقها مضاعفات وارتدادات غير متوقعة ولا محسوبة قد تطول شيعة المنطقة، سواء من وافق منهم على استراتيجية الدفاع المتقدم الإيرانية أو من اختلف معها وأبعد نفسه عنها. فقد ساد قلق، ولا يزال، من احتمال تعرض الشيعة ومقاماتهم ومقدساتهم إلى التهديد بما ينذر باندلاع معارك طائفية ومذهبية تحركها عصبيات الفورة والشعارات والتحريض، الذي استعر طيلة 13 عاما من عمر الصراع في سوريا بين النظام وداعميه وخصومه وداعميهم. الخشية الأكبر كانت على شيعة لبنان الذين أًختُزلوا بحزب الله الذي قاتل ضد مسلحي المعارضة السورية، ثم على العراق الذي تضرر من سوريا بوجود نظام بشاره وبانكساره.
ما حصل في لبنان في الأشهر الأخيرة من عدوان إسرائيلي جمد هذا الخطر، أما في العراق فقد كان لذكاء أحمد الشرع (أبو محمد الجولاني) واشتغال العقل السياسي العراقي الرسمي بحنكة وخارج منطق الانفعال، ربما أبعد الارتدادات المباشرة لشظايا الحدث السوري ومتغيراته وتحولاته. لكننا ما زلنا في أول الطريق. وما شهده العراق بعيد سقوط نسخة البعث من إرهاب وعنف وتدخلات دولية وصراع متعدد الأطراف، يخشى من استنساخه في سوريا لتنطلق عفاريت التطرف والحرب الأهلية ودعوات التقسيم والمشاريع الطائفية. وكل هذه المخاطر ستظل كامنة، حتى تتجاوز سوريا عنق الزجاجة. وسيكون للدور العراقي أهمية كبرى في إبعاد خطر هذه الاحتمالات. فسياسة العراق إزاء سوريا ينبغي أن تحسب ألف حساب للسلم الأهلي السوري، لأن سلم العراق الداخلي مرتبط بسلم سوريا واستقرارها وشعور طوائفها وأقلياتها بالأمن والحضور في بنية السلطة والمشاركة في صنع السياسات.
الحدث السوري المزلزل سيكون اختبارا للساسة والناشطين في العراق، ليجسدوا مصلحة العراق من خلال إدارة لعبة التوازنات مع كل من إيران وتركيا والمحيط العربي والولايات المتحدة الأمريكية والاتحاد الأوروبي، مع حسن إدارة التنوع المذهبي والعرقي والإثني، ولجم دعوات التطرف ورغبات الحروب الدينية المغلفة بشعار الولاء والبراء.
اضف تعليق