أمام الإنسان في كلّ لحظة من لحظات حياته خيارات متعددة، وهنالك أسئلة كثيرة تنتصب أمامه في كلّ لحظة، تتناول كلّ جزئيّة من جزئيات حياته. وفي كلّ لحظة يمكن أن يختار السير في الصراط المستقيم، أو يختار السير في السبل المنحرفة، ومن هنا فإنّه يسأل من الله أن يهديه...
المفردات
(اهْدِنَا): أرشدنا.
(الصِّرَاطِ): الطريق.
(الْمُسْتَقِيمَ): المستوى الذي لا اعوجاج له.
كيف يطلب المهتدي الهداية؟
بعد أن أعلن المؤمن انخراطه في سلك (الموحّدين) ـ توحيداً في (العبادة) متمّثلاً في قوله (إِيَّاكَ نَعْبُدُ)، وتوحيداً في (الأفعال) متمثّلاً في قوله: (وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ) ـ بعد ذلك يتّجه إلى الله سبحانه ليطلب منه أن يهديه (الصراط المستقيم)، فإذا كان المؤمن يستمّد العون الإلهي في كلّ شؤون حياته بقوله: (وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ) فإنّ أجدر شيء يتوجّه إلى الله فيه هو أن يعينه على السير في (الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ).
والسؤال هو: كيف يطلب المؤمن في هذه المرحلة الهداية مع أنّه مهديّ بالفعل؟ أليس ذلك تحصيلاً للحاصل؟.
ويمكن أن يجاب عن ذلك بإجابتين:
الإجابة الأُولى
إنّ الهداية صفة قابلة للزوال، لذا فإنّ المؤمن يطلب من الله سبحانه أن يديم له هذه الصفة، ويثبّته بالقول الثابت في الحياة الدنيا وفي الآخرة.
ولتوضيح ذلك نقول: الصفات تتنّوع إلى نوعين:
النوع الأوّل: الصفات التي يستحيل انفكاكها عن موصوفها، فما دام (الموصوف) ثابتاً فـ(الوصف) ثابت أيضاً، نعم يمكن زوال الوصف بزوال موصوفه، ولكنّ ذلك لا ينافي استحالة الإنفكاك؛ إذ إنّما تُفرض الإستحالة في ظرف بقاء الموصوف. ولا يكون ذلك إلاّ في (الأوصاف الذاتية).
وخصيصة الذاتي: عدم افتقاره إلى علّة وراء علّة وجود الذات، فَعِلّة وجود الذات كافية في وجود الوصف الذاتي، بل لا يعقل وجود علّة تفيض الوجود على الذاتي بعد وجود علّة الذات؛ لكون ذلك تحصيلاً للحاصل.
إذ بوجود (الذات) ـ بالذات ـ يوجد (الذاتي) ـ بالتبع ـ فلا معنى لإفاضة الوجود عليه مرة أُخرى.
ويمكن أن يمثَّل لذلك بـ(زوجية الأربعة) فهي وصف ذاتي للأربعة يستحيل انفكاكها عنها ما دامت الأربعة موجودة، كما أنّها لا تفتقر إلى علّة وراء علّة وجود الأربعة.
وهكذا الأمر في «إمكان الممكن» ونحو ذلك من الصفات الذاتيّة.
النوع الثاني: الصفات التي لا يستحيل انفكاكها عن موصوفها، فيمكن زوالها وإن كان الموصوف باقياً.
ولطروّ هذه الصفات علل وراء علل وجود الذات، فهي تحتاج إلى عليّة مستّقلة لكي توجد ـ وإن اتّحد شخص العلّة المفيضة ـ كما لا بد من استمرار العلّة لكي تستمر، فإنّ العلّة الموجودة ليست كافية في بقاء المعلول ما لم تكن هنالك علّة مبقيةٌ أيضاً ـ سواء اتَّحدت مع العلَّة الموجدة أم اختلفت ـ ومتى قطعت العلّة فيضها عن المعلول فإنّه سوف ينعدم فوراً ـ كما تنعدم صورنا الذهنّية بمجرّد سلب التوجُّه عنها ـ.
ويمكن أن نمّثل لذلك بـ (علم) الإنسان و(قدرته) ونحو ذلك من صفاته العَرَضية.
وصفة (الهداية) من النوع الثاني؛ لوجود خواصّه فيها، ولذا فإنّ من الممكن جدّاً أن يكون الإنسان (مهديّاً) في حقبة من حياته، ثمّ تسلب من هذه الصفة ليخرج عن (الصراط المستقيم) إلى طرق الضلال والانحراف.
ومن هنا: كان المؤمن يتوجّه إلى الله سبحانه باستمرار في كلّ يوم عشر مرّات ـ على الأقل ـ في صلواته الخمس المفروضة، ليقول: (اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ). أي: ثبّتنا على الصراط المستقيم.
وهذا المعنى هو المرويّ عن الإمام العسكري (عليه السلام)، حيث قال في قوله تعالى: (اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ): أدم لنا توفيقك الذي به أطعناك في ما مضى من أيامنا، حتى نُطيعك كذلك في مستقبل أعمارنا(1)
وعن الإمام الصادق (عليه السلام) أنه قال في الآية: يقول: أرشدنا إلى الصراط المستقيم، أرشدنا للزوم الطريق المؤدّي إلى محبّتك، والمبلغ دينك، والمانع من أن نتّبع أهواءنا فنعطب، أو نأخذ بآرائنا فنهلك(2)
وقد أشارت الأحاديث الكريمة إلى أنّ الإيمان يمكن أن يُسلب من المؤمن.
فعن أبي الحسن الأوّل [الإمام كاظم] (عليه السلام): أنه سُئِلَ عن قول الله (فَمُسْتَقَرٌّ وَمُسْتَوْدَعٌ)؟
قال: المستقر الإيمان الثابت، والمستودع المعار(3)
وعن أبي عبد الله [الإمام الصادق] (عليه السلام) قال: إنّ العبد يصبح مؤمناً ويُمسي كافراً، ويُصبح كافراً ويمسي مؤمناً، وقوم يُعارون الإيمان ثمَّ يُسلَبونه، ويُسمَّون المُعارين، ثمّ قال (عليه السلام): فلان منهم(4)
كما أشارت الروايات إلى بعض العوامل التي تسبب ثبات الإيمان، نذكر منها الرواية التالية:
عن أبي عبد الله[الصادق] (عليه السلام)، قال: إنّ الله جبل(5) النبيين على نبوَّتهم فلا يرتُّدون أبداً، وجبل الأوصياء على وصاياهم فلا يرتّدون أبداً، وجبل بعض المؤمنين على الإيمان فلا يرتّدون أبداً، ومنهم من أعير الإيمان عارية، فإذا هو دعا وألحّ في الدعاء مات على الإيمان(6)
ولعلّ ذلك من أسباب توجُّه المؤمن إلى الله سبحانه كلَّ يوم، ليدعوه قائلاً: (اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ).
نماذج
ونجد في التاريخ الكثير من النماذج التي سُلبت منها نعمة الهداية، فضلُّوا عن الصراط المستقيم، نذكر منهم:
1 ـ الزبير بن العوام(7)
2 ـ الشلمغاني(8)
3 ـ أبو الخطّاب(9)
4 ـ المغيرة بن سعد(10)
5 ـ علي بن أبي حمزة البطائني.
6 ـ زياد بن مروان القندي.
7 ـ عثمان بن عيسى الرواسي(11)
8 ـ عابد برصيصا(12)
إلى غير ذلك من النماذج وهي كثيرة ـ أعاذنا الله من سوء العاقبة، وجعل عواقب أُمورنا خيراً، بمحمَّد وآله الطاهرين صلوات الله عليهم أجمعين.
تنبيه
ولا يخفى أنّ الأنبياء والأئمّة (عليهم السلام) معصومون، ولا يمكن أن تسلب منهم نعمة (الهداية) ـ وإن لم يسلبهم ذلك اختيارهم على ما فُصِّل في محلَه ـ.
فطلبهم من الله الهداية ربما يكون بمعنى: طلب ثبات تلك الدرجة من الهداية التي وهبهم الله إياها.
وتوضيح ذلك: إنّ الحقائق على نوعين:
1 ـ حقائق تشكيكية.
2 ـ وحقائق متواطية.
فالحقائق التشكيكية حقائق ذات مراتب مختلفة من حيث الشدّة والضعف، بينما الحقائق المتواطية حقائق ذات مرتبة واحدة.
فمثلاً: (الماء) عبارة عن السائل المركّب من ذرّة أُوكسيجين وذرّتي هيدروجين، وهذه الحقيقة ذات مصاديق متعدّدة، إلاّ أنّ جميع هذه المصاديق في عرض واحد بلحاظ تلك الطبيعة الكليّة.. فماء البحر وماء النهر وماء المطر وكلّها في رتبة واحدة بلحاظ (المائيّة)، فكلّها مكوّنة من ذرّة أوكسجين وذرّتي هيدروجين، وإذا كان ثمّة اختلاف بينها فإنّما هو اختلاف بأُمور أُخر كالحرارة والبرودة والعذوبة والملوحة وما أشبه، ولا يوجد اختلاف بينها بلحاظ (الحقيقة المائية).
بينما (النور) حقيقة ذات مراتب مختلفة، فالنور المتراقص في أطراف عود الكبريت ـ وهو يلفظ أنفاسه الأخيرة ـ نور، ونور الشمس أيضاً نور، وتجمع هذين المصداقين طبيعة النور، وتفرّق بينهما أيضاً طبيعة النور، فـ(نورية) هذا الفرد أكثر من (نورّية) الفرد الآخر، فما به الإجتماع عين ما به الافتراق.
و(الهداية) تقع ضمن دائرة (الحقائق التشكيكية) فلها مراتب مختلفة، ربّما لا تدخل تحت العدّ والإحصاء.
قال الله سبحانه: (تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ مِنْهُمْ مَنْ كَلَّمَ اللَّهُ وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجَاتٍ)(13) وقال تعالى: (وَلَقَدْ فَضَّلْنَا بَعْضَ النَّبِيِّينَ عَلَى بَعَضٍ)(14)
وعندما يطلب الأنبياء (عليهم السلام) الثبات على الهداية فإنّهم يطلبون بقاء تلك المنزلة الرفيعة التي منَّ الله بها عليهم، لكي لا تزول تلك المرتبة بسبب ترك الأُولى أو ما أشبه ذلك.
وقد روي عن الإمام الصادق (عليه السلام) أنه قال: "كان رسول الله (صلى الله عليه وآله) في بيت أُمّ سلَمة في ليلتها، ففقدته من الفراش، فقامت تطلبه في جوانب البيت، حتّى انتهت إليه وهو في جانب من البيت قائم رافع يديه يبكي وهو يقول: اللهّم لا تنزع منّي صالح ما أعطيتني أبداً، اللهمَّ لا تشمت بي عدوّاً ولا حاسداً أبداً، اللهّم ولا تردني في سوء استنقذتني منه أبداً، اللهَّم ولا تكلني إلى نفسي طرفة عين أبداً.
قال: فانصرفت أُمّ سلمة تبكي، حتّى انصرف رسول الله (صلى الله عليه وآله) لبكائها فقال لها: ما يبكيك يا أُمّ سلمة؟
فقالت: بأبي أنت وأُمّي يا رسول الله، ولم لا أبكي، وأنت بالمكان الذي أنت به من الله، وقد غفر الله لك ما تقدّم من ذنبك وما تأخّر، تسأله أن لا يشمت بك عدوّاً أبداً، وأن لا يرَّدك في سوء استنقذك منه أبداً، وأن لا ينزع منك صالحاً أعطاك أبداً، وأن لا يكلك إلى نفسك طرفة عين أبداً؟
فقال: يا أُمّ سلمة، وما يؤمنني؟ وإنّما وكل الله يونس بن متّى إلى نفسه طرفة عين وكان ما كان"(15)
الإجابة الثانية
إنّ (الصراط المستقيم) مفهوم عام (16) يشمل ما لا يُعدّ ولا يحصى من المصاديق الخارجية.
فلكلّ شيء صراط مستقيم، وله أيضاً سبل منحرفة كثيرة تتناثر على جانبيه.
فكلّ عقيدة تؤمن بها. وكلّ فكرة تنبض في ذهنك. وكلّ عمل تقوم به. وكلّ موقف تتخذه.. و.. و.. كلُّها يمكن أن تقع ضمن الصراط المستقيم، كما يمكن أن تقع ضمن (السبل المنحرفة).
إنّ أمام الإنسان ـ في كلّ لحظة من لحظات حياته ـ خيارات متعددة، والإنسان يجب أن ينتخب إحدى هذه الخيارات.. وهنالك أسئلة كثيرة تنتصب أمامه في كلّ لحظة، تتناول كلّ جزئيّة من جزئيات حياته.. وفي كلّ لحظة يمكن أن يختار السير في الصراط المستقيم، أو يختار السير في السبل المنحرفة، ومن هنا: فإنّه يسأل من الله سبحانه أن يهديه الصراط المستقيم في كلّ فكرة وعقيدة، وعمل وموقف.
وحيث أنه لم يقيّد (الصراط المستقيم) في الآية الكريمة بقيد خاص، فإنّه يفيد الشمول لكلّ شيء، فإنّ حذف المتعلَّق يفيد العموم ـ كما ذكره علماء البلاغة ـ.
وقد ورد في الحديث الشريف عن الإمام الرضا (عليه السلام) أنه قال: (اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ) استرشاد لدينه، واعتصام بحبله، واستزادة في المعرفة لرِّبه عزَّ وجل ولعظمته وكبريائه(17)
وعن الإمام العسكري (عليه السلام): ـ في حديث ـ: «فأمّا الطريق المستقيم في الدنيا فهو ما قصر عن الغلو، وارتفع عن التقصير، واستقام فلم يعدل إلى شيء من الباطل»(18)
اضف تعليق