لا يُقاس حب الوطن والولاء له بالكلام، حب الوطن سلوك، وبعض من السلوك يمكن تأويله على انه حب للوطن، ولكنك ان جردته من المصالح، والشخصية منها على وجه التحديد تكتشف النقيض تماما، كما ان غرس هذا الحب لا يتحقق بالدعاء والدعوات، بل يُراد له...

لا يُقاس حب الوطن والولاء له بالكلام، حب الوطن سلوك، وبعض من السلوك يمكن تأويله على انه حب للوطن، ولكنك ان جردته من المصالح، والشخصية منها على وجه التحديد تكتشف النقيض تماما، كما ان غرس هذا الحب لا يتحقق بالدعاء والدعوات، بل يُراد له عمل مظنٍ ومخطط له بعناية وينفذ باحترافية، وقبل كل هذا وذاك لابد من توافر الايمان في قلوب منفذيه، فالإيمان بمضمون العمل كفيل باستحضار قيمة الاخلاص في أدائه. 

لذلك كثيرا ما نكرر: ان كل هدف لابد له من عقيدة، فالدفاع عن الأوطان يفشل ان كان بلا عقيدة، وان حشدت له الملايين، وجهّزته بأحدث العُدد، تبقى العقيدة هي الركيزة الأساس، والا فستُهزم جيوشك، وتفر من المعركة مذعورة ان لم تكن القلوب مشبعة بالعقيدة، فالدعاء والدعوات في خطابات المعركة ليست سوى تعزيز للعقيدة التي رسمناها بأيدينا، ولوحدها لن تنتج شيئا، منذ قرون يملأ الدعاء فضاءنا، لكننا لم ننتصر على من يُبيد أطفالنا ونساءنا وشيوخنا، ومنذ عقود ونحن ندعو لترشيد استهلاك الكهرباء، لكن شيئا من ذلك لم يحدث، دعاء بلا عمل، لن يبارك الله به وهو القائل (وقل اعملوا)، والعمل عبادة كما جاء في موروثنا. وحب الوطن عقيدة، مرهونة به كل النجاحات، وبغيره لن نحصد سوى الخراب والهزائم.

هذه حقائق وكنا نحسبها من الانشاء اللغوي، ولم نعر لها بالا، كثيرا ما يشغلنا المادي من الأشياء ونهمل المعنوي برغم ان الثانية أعظم تأثيرا من الأولى في النفوس، حتى وان أدركنا أهمية المعنوي الذي يقع حب الوطن من ضمنه، لكننا لا نحسن الكيفية التي نغرس فيها هذا الحب لدى الأبناء، وأقصد الآليات المناسبة، وطبيعة الأنشطة ومضمونها، وفي النهاية كيف يمكننا قياس حدود نجاحنا في هذا الغرس.

مظاهر سلبية كثيرة نرصدها في سلوك الأفراد، لا نجد لها تفسيرا الا بالقول: ان الشعور بالولاء الوطني قد تراجع، وحب الوطن قد تضاءل، وقبلهما ان هؤلاء الأفراد الذين باتوا يشكلون ظاهرة واسعة في المجتمع لم يدركوا بعد معنى الوطن وأهميته، ومع ان ادراك هذا المعنى لا يعني حب الوطن، لكنه مقدمة لهذا الحب، الأمر الذي يستدعي منا العمل على تشكيل الوعي بالوطن، ويقع هذا العمل في الجزء الأول من العنوان الذي وضعه الأولون (التربية والتعليم)، اذ قدموا التربية على التعليم، بينما واقع عمل مؤسساتنا يشير الى تقديم التعليم على التربية، مع ان لا قيمة لتعليم بلا تربية.

هذه الأفكار وغيرها تبادرت الى ذهني، وأنا أتأمل بحسرة سفرة نظمتها مدرسة أرمنية لتلاميذها للنصب الذي يطلقون عليه (الابادة الجماعية) في العاصمة يريفان، وبالرغم من ان سفرتهم جرت صباحا حيث المكان فارغ نسبيا في العادة، ذلك ان غالبية الأهالي يزورون النصب عصرا والاستمتاع بحدائقه الغناء، الا ان التلاميذ كانوا يمشون الواحد تلو الآخر (بالدور) وبمسافة محسوبة، وليس بطريقتنا حيث يلتف التلاميذ حول المعلمين بشكل عشوائي، حاملين وردة حمراء يضعونها قرب النصب ويخرجون، وظلوا على هذه الحال حتى ركوبهم بالعجلات التي تقلهم، ما رأيته في أرمينيا شاهدت ما يماثله في طهران، حيث نظمت أحدى رياض الأطفال سفرة الى (برج الميلاد) المتسم بفخامته وجماله، أظنكم تشاركوني الرأي بأن هذه الأنشطة منظمة، والقائمون عليها يدركون أهميتها لما تضيفه للتلاميذ من معلومات وأفكار ومعرفة بالوطن.

كنت أتحدث عن ذلك لصديقي مدرس التاريخ الذي بلغ عمره الخمسين، وسألته ان كان زار المدرسة المستنصرية التي انشأت عام (1233) في بغداد، فأجابني مبتسما: لا والله، صدقوني ان أول الاعتزاز بالوطن أن نرى تاريخه بالعين، وليس بما يرد في كتبنا الممزقة.

اضف تعليق