تعتمد آلية التعيين من قبل مجلس الخدمة الاتحادي حالياً على ما تفصحه كل وزارة من حاجتها للموظفين، ويقتصر دور المجلس على مراجعة الطلبات، والتأكد من توفر الشروط ثم يبادر إلى إتمام معاملة التعيين بعد تخصيص وزارة المالية للدرجات الوظيفية وتخصيصاتها المالية. هنا نكون أمام استمرار الوضع السابق ولكن بتنظيم شكلي للتوظيف العشوائي...

سنوات مرّت على تشكيل مجلس الخدمة الاتحادي، وهناك الكثير من التساؤلات حول ما إذا استطاع تنظيم عملية التوظيف في القطاع العام، أم لا؟ وما هي معوقات عمله؟ جمعنا لقاء مع رئيس المجلس محمود التميمي نظمه مركز رواق بغداد للسياسات العامة. كان مناسبة للسيد التميمي لبث همومه ومعاناته في عمله، وكشف معرقلات العمل التي تحول دون أداء المجلس مهامه بالشكل المطلوب.

بداية، كان تأسيس هذا المجلس محل استبشار الكثيرين للخروج من حالة فوضى التعيينات، التي سادت خلال السنوات العشرين الماضية، والتي كانت بمثابة أداة بيد الأحزاب والشخصيات لكسب أنصار وتكوين جمهور تابع، النتيجة كانت انتفاخ القطاع العام بشكل غير معقول، بلغ درجة مرتفعة من البطالة المقنعة، التي تستنزف موازنة البلاد دون عائد إنتاجي. 

تحولت الدولة إلى مؤسسة كبيرة للرعاية لاجتماعية، هدفها تأمين الموارد من أجل سد رواتب المشمولين، وهم الموظفون الرسميون. عام 2003 كان عدد موظفي القطاع العام 750 ألف موظف، فيما عدد سكان العراق كان 22 مليون نسمة. بدأ العدد بالتزايد لأسباب عدة منها زيادة الإقبال على الوظيفة بعد ارتفاع مستوى الرواتب، والأهم من ذلك هي الثقافة الخاطئة السائدة، والتي تقوم على أن الوظيفة توفر الراتب الثابت وتعدُ ضمانا للتقاعد حتى لو كان الراتب يوفر حد الكفاف والتقاعد يقلّ عنه بكثير. هي ثقافة تسود الدول التي تحكمها أنظمة مركزية في كل شيء، فالأنظمة تحتكر سوق العمل وهي التي توفر الوظائف وتقدم الخدمات وتحدد للناس ما يأخذون وما يأكلون وما يعملون. 

باختصار فإن المواطنين في ظل هكذا أنظمة كلهم موظفون أو تابعون لتقريرات الحكومة التي تجعلهم يعيشون في مستوى منخفض اقتصادياً. أي أن من لم يكن موظفاً مباشراً في وزارة أو مؤسسة وكان صاحب محل تجاري فهو لا يخرج من نطاق التحكم الرسمي. 

خلال السبعينيات، تأسست شركات حكومية لاستيراد وتوزيع الأجهزة والسلع والمعدات. 

للمثال، كانت هناك «الشركة الأفريقية العراقية»، تستورد الأجهزة المنزليَّة الكهربائيَّة والالكترونيَّة، وقد سمح للقطاع الخاص أن يعمل كوكيل لهذه الشركة في البيع المباشر، لكن كل وكيل كان مقيدا بعدد محدود من كل جهاز كل شهر كحصة له، ونسبة ربحه محددة، وبالتالي كان يحصل على مبلغ محدد كل شهر شأنه في ذلك شأن أي موظف. 

هكذا أنظمة، تنتج عادة شعوباً خاملة تنتظر كل شيء من الحكومة والمواطن فيها لا يجد غير الحكومة ملاذاً. 

في 2003 تغيّر شكل النظام السياسي، وجرى الحديث عن اقتصاد حرّ، لكن الحقيقة هي أن هذا الاقتصاد لم يكن بالحرّ، ولم يبق حكومياً كما في السابق. الاقتصاد الحرّ يعني وجود قطاع خاص، يوفر فرص العمل، والأخير لا يقوم إلّا بتوفّر ظروف عمل آمن، وهذا يحتاج إلى قوانين ضامنة، خصوصا للاستثمارات الكبيرة، وإجراءات مختصرة تتجاوز الروتين والفساد والكوابح، وهذا ما لم يتم إلّا في حالات خاصة لم تخلو من الفساد أيضاً.

ما زاد من تضخم القطاع العام هو قيام الأحزاب والشخصيات السياسية بالتوظيف العشوائي كسباً للأنصار أو للأموال عبر بيع التعيينات، حتى اتخموا القطاع الحكومي بما يزيد على 4 ملايين موظف، وكلما زاد حجم القطاع العام قلّت إنتاجيته، كما هو معروف.

هل أوقف تأسيس مجلس الخدمة الاتحادي هذا الأمر؟.

تعتمد آلية التعيين من قبل مجلس الخدمة الاتحادي حالياً على ما تفصحه كل وزارة من حاجتها للموظفين، ويقتصر دور المجلس على مراجعة الطلبات، والتأكد من توفر الشروط ثم يبادر إلى إتمام معاملة التعيين بعد تخصيص وزارة المالية للدرجات الوظيفية وتخصيصاتها المالية. هنا نكون أمام استمرار الوضع السابق ولكن بتنظيم شكلي للتوظيف العشوائي. فما دامت كل وزارة تخضع لتحكم حزب أو كتلة، فإن إفصاح الوزارة عن حاجتها وقيامها باستقبال الطلبات سيكون وفق هوى الوزير والحزب الذي جاء به، ولن تخرج عن ذلك آليات تخصيص وزارة المالية للدرجات والتخصيصات المالية، وبالتالي سنبقى ندور في نفس الحلقة المغلقة: مواطنون يبحثون عن وظيفة حكومية، وأحزاب توظّف وتزيد من العبء على الخزينة.

هنا يبدو مفهوما لماذا تعرقل جهات عدة أي تعديل لقانون مجلس الخدمة الاتحادي، كي يمارس دوره في ضبط الترهّل في الجهاز الوظيفي العام.

اضف تعليق