الشيء الملفت للنظر أن هذه الأمول المخصصة للإيفادات الخارجية، وحسب بعض التصريحات، والتقارير الصادرة عن جهات حكومية عدة، باتت ترهق خزينة الدولة، ولا تأتي بالنتائج المرجوة. إن حجم مشكلة الإيفادات يتفاقم ويزداد كل يوم، فما زال الغموض وغياب الشفافية، وكل ما يدور حول هذا الموضوع مستمر، ودون أن توضع له محددات أو ضوابط...

في عصر العولمة والانفتاح بات الاحتكاك بالعالم الخارجي من المسلمات التي لا تقبل الجدل، بغض النظرعن طبيعة هذا الاحتكاك ونتائجه السلبية أو الإيجابية. ولعل من بين أوجه وسائل الاتصال الإيجابي بالأمم المتقدمة، هو أن تقوم الدولة، لا سيما الدول التي هي في طور النمو، والتي تعاني من نقص الخبرات بإرسال البعثات والإيفادات المتعددة المهام لأغراض الدراسة والتدريب واكتساب المهارة والمشاركة في دورت تأهيلية في مجالات علمية متخصصة.

وهذا الإجراء هو بطبيعة الحال عمل رسمي، على اعتبار أن الدولة هي التي تقوم بتكليف هذا الموظف، وإرساله إلى خارج البلاد، وهي من يتحمل النفقات المالية المترتبة على هذا الإيفاد. 

وفي الحالة العراقية لا يختلف اثنان عن حاجة هذا البلد لمختلف الخبرات، وفي المجالات كافة، بعد أن خرج من ركام الحروب والأزمات والحصارات، وكل ما يوحي إلى التخلف والدمار، وأن أقصر طريق للتخلص من هذه التركة الثقيلة هو الاحتكاك بدول العالم المتقدم، والتي سبقتنا في مجالات عدة، ونقل خبرات ومعارف هذه الدول إلى هذا البلد الجريح بأسرع وقت، وبأقل التكاليف، وبأقصر الطرق، لغرض تطوير العمل الإداري والفني في دوائر الدولة المختلفة.

إلا أن ما موجود على أرض الواقع لا يوحي بذلك، بعد أن تحول الإيفاد من عمل رسمي لكسب الخبرات والمهارات إلى شيء أشبه بالسفرات السياحية والترفيهية لبعض كبار موظفي الدولة، وهؤلاء يتم اختيارهم لا على أساس أختصاصهم الفنية والعلمية التي تحتاجها دوائرهم، وأنما عن طريق المحابات والعلاقات الشحصية والمصلحية.

وكان من المفترض ان يقدم الموظف المُوفد دراسة مفصلة عن مهمته الرسمية يذكر فيها الخبرات والمهارات، التي تم الحصول عليها من خلال هذا الإيفاد، وكذلك نقل كل ما أكتسبه من مهارات إلى المؤسسة أو الدائرة التي ينتمي اليها، ناهيك عن فتح دورات تأهيلية لبقية العاملين في هذه المؤسسة لتعميم هذه الخبرات المكتسبة على الجميع.

غير ان أغلب الموظفين الذين تم إيفادهم، وبعد عودتهم إلى البلاد لا يتحدثون إلا عن زيارات شخصية، ومجوعة صور التقطت في عدة أماكن سياحية، وعن جلب كل ما خف وزنه وغلا ثمنه، وهذا يعني أن صرف الأموال المخصصة لهذه المهمة الوطنية كانت في غير محلها، وفتحت بابا آخر من أبواب الفساد الإداري والمالي.

والشيء الملفت للنظر أن هذه الأمول المخصصة للإيفادات الخارجية، وحسب بعض التصريحات، والتقارير الصادرة عن جهات حكومية عدة، باتت ترهق خزينة الدولة، ولا تأتي بالنتائج المرجوة.

إن حجم مشكلة الإيفادات يتفاقم ويزداد كل يوم، فما زال الغموض وغياب الشفافية، وكل ما يدور حول هذا الموضوع مستمر، ودون أن توضع له محددات أو ضوابط.

وعلى الرغم من كل ما يقال عن حجم المال المهدور في قضية الإيفادات، إلا أن ثمة من يؤكد وجود خلل في موضوع الإيفادات، وسفر العديد من المسؤولين ومرافقيهم المقربين في واجبات رسمية على نفقة الدولة، بعد أن تم توظيف الإيفاد كفرصة للتسلية والترويح عن النفوس.

ومع كل ما يحصل من خروقات وتجاوزات إدارية ومالية في قضية الإيفادات، إلا أن هذا يجب أن لا يحول دون مواصلة إرسال الكفاءات التخصصية والجهات المعنية بالأمر إلى الدول التي سبقتنا في العلوم المختلفة والتقنية الحديثة، ولكن بعد أن يتم وضع الآليات والمعالجات الموضوعية لقضية الإيفادات.

ونعتقد ان أقصر الطرق للوصول إلى ذلك يكمن في الانفتاح على العالم والإطلاع على تجارب الشعوب الناجحة، من أجل تكييفها والاستفادة منها، لا سيما في المجالات التنموية، وبالإمكان التعرف على تجارب عالمية تشير إلى أن هناك دولاً وشعوبا مرت بحروب وأزمات طارئة، إلا أنها تمكنت من عبور تلك الأزمات والوصول نحو شاطئ الأمان وبأوقات قياسية، بعد اعتمدها النهج السليم في معالجة وإدارة الأزمات، ووضع الخطط الستراتيجية الشاملة للنهوض مجدداً. 

وبين أيدينا العديد من التجارب الناجحة التي يمكن ان يشار لها بالبنان، ولعل التجربة اليابانية في مجال البعثات والإيفادات من أهم التجارب العالمية الناجحة، ففي الوقت الذي خسرت فيه جميع مقدراتها المادية والمعنوية في الحرب الكونية الثانية، بحيث لم يبق لها ما تتكئ عليه من جديد، إلا أنها استطاعت أن تعيد ما دُمر في سنوات قليلة، وهذا يعتبر انجازاً لم يشهد له التاريخ نظيراً، بل أكثر من هذا أنها جعلت من نفسها مثلا يحتذى به في مسالك النجاح. 

وكان للبعثات التعلمية أثر واضح في النهضة، التي شهدتها اليابان في مجال التقدم العلمي والتكنولوجي، حيث تم إرسال الكثير من هذه البعثات لكل أنحاء العالم المتقدم، للتعرف على الجديد في المعرفة والعلم، ونقل خبرات هذه الأمم إلى اليابان، وهذا ما يفسر سرعة لحاق اليابان بغيرها من الأمم المتقدمة.

ما نود التأكيد عليه هو إننا بحاجة إلى إنضاج ومواكبة للتطورات التي شهدها ويشهدها العالم من حولنا اليوم، على اعتبار أن هذه البلاد قد شهدت انقطاعاً تاماً عن العالم الخارجي قبل عملية التغيير، ما ولد فجوة كبيرة بيننا وبين هذا العالم المتغير، وهذا الحال يتطلب منا العمل بجدية ونكران ذات لردم هذه الفجوة.

اضف تعليق