تــُعد كتابة التاريخ واحدة من أبرز الأنشطة الثقافية المتعددة، وهذا العمل الكبير يتطلب وعيا منهجيا وحسيا، وتجردا عن الذات بما يفضي إلى الطرح الموضوعي في معالجة الحدث التاريخي. كما ينبغي على دارسه أن يتحرى الإفادة منه، وان يتلقى تعليمه على منهاج سليم، يعتمد النقد والتحليل بعيداً عن السرد التاريخي التقليدي...

تــُعد كتابة التاريخ واحدة من أبرز الأنشطة الثقافية المتعددة، وهذا العمل الكبير يتطلب وعيا منهجيا وحسيا، وتجردا عن الذات بما يفضي إلى الطرح الموضوعي في معالجة الحدث التاريخي. كما ينبغي على دارسه أن يتحرى الإفادة منه، وان يتلقى تعليمه على منهاج سليم، يعتمد النقد والتحليل بعيداً عن السرد التاريخي التقليدي. 

وقد ازدادت أهمية التاريخ في العصر الحديث واستخدامه كأداة لتوجيه الشعوب والأمم إلا أن البعض ممن يفتقد إلى هذه المحددات المنهجية والعلمية، ولديه أحكام ونوايا مسبقة في الحكم على الأحداث التاريخية، يحاول اليوم جر التاريخ إلى حلبة الصراع القومي والديني والطائفي لتحقيق مآرب آنية ومستقبلية، ولتلافي الأخطاء التي من المتوقع أن يقع فيها من يتصدى لكتابة التاريخ، فقد وضع العديد من المفكرين في مجال البحث التاريخي منهجاً علمياً في البحث ليبينوا ما يحتاج إليه والوقوع في المحظور. 

ومن تلك القواعد الأساسية والمهمة التي ينبغي للمؤرخ الالتزام بها هي توخي الموضوعية، والتي تعني الالتزام بالحياد التام في التحليل، وفي استقراء الحوادث التاريخية، من خلال ربط الأسباب بالمُسببات دون تدخل للخلفيات التي ينطلق منها الباحث، ولهذا يرى البعض أن المؤرخ أشبه بالقاضي الذي يصدر حكما، فلا ينحاز ولا يتعصب ولا يتحامل أو يتحايل في أحكامه، على الرغم من صعوبة هذه الأمر الذي لا يخلو من المثالية، على اعتبار أن الذاتية والخلفية العرقية، والدينية، والأيديولوجية، التي ينطلق منها الباحث سيكون لها أثر واضح بالمحصلة النهائية على نتائج البحث، مهما حاول الأبتعاد عن هذه الخلفيات والمنابع التي ينطلق منها. 

كذلك من بين أهم متطلبات المنهج العلمي في البحث التاريخي، والتي تعتبر كثوابت لا بد من توفرها إذا أريد لهذا المنهج الأصالة والرصانة، هي الاطلاع والتعرف على الآثار الفكرية، التي خلفها كبار المؤرخين القدامى، والإحاطة بشتى الجوانب المعرفية والتعمق بها، إضافة إلى التشكيك في الأخبار والروايات الواردة في المصادر التاريخية، إذ إن على المؤرخ الباحث ألا يثق بما يُلقى إليه من أخبار، بل تأمل تلك الأخبار وتمحيصها، فالمؤرخ في كل الأحوال يحتاج إلى حُسن نظر وبصيرة عند استقراء الأحداث والإلمام بها وتأمل حيثياتها، ومن ثم يجري الحكم عليها بكل تجرد وموضوعية. 

ومن المعروف أن طرائق البحث التاريخي المتوفرة للمؤرخ كثيرة ومتعددة، تتراوح بين الطريقة التحليلية المتميزة في صلاحياتها للعمل الكتابي، وبين الطريقة الوصفية التي تعتمد المسح الوصفي للحادثة التاريخية، وكذلك على طرائق البحث القائمة على الإحصاء، من هنا فإن هذه الطرائق تمتاز بتنوعها وخصوصيتها مجتمعةً. 

ولكن السؤال المطروح، ما هو النموذج الأمثل من هذه الطرائق لعمل المؤرخ؟، الحقيقة أنه لا يوجد بين طرائق البحث نموذج مشترك يصلح للتطبيق على جميع حقول التاريخ، فما يصلح للتراجم وسير الأنبياء على سبيل المثال لا يصلح للحوادث والحوليات، وما يطبق على الأُسر والبيوتات الحاكمة، لا يصلح لدراسة مجتمعاتها، وهكذا في دراسة الفكر والإدارة. 

ومع ذلك فأنه لا يوجد بين طرائق البحث المتوفرة لدى المؤرخ أفضل من الطريقة التحليلية، فهي تتجاوز كل الطرق التقليدية التي تبحث في الحوادث التاريخية. 

وتلك هي العلامة الفارقة والنقطة الحدية بين التاريخ وفلسفة التاريخ، بين الأبحاث والدراسات التي تتعلق بالتفاصيل وترتبط بالجزئيات وتنحصر بحدود الماضي، والأبحاث التي تتعلق بالمبادئ والجذور والأصول وترتبط بالكليات وتنطلق من حدود الماضي وأغواره إلى آفاق الحاضر وأبعاده، وبوادر المستقبل واحتمالاته.

وخلاصة القول، توجد علاقة وثيقة بين الباحث وموضوع البحث، ومن الممكن أن يأخُذ كلٌ منا ضآلة من التاريخ بما يتفق والرؤى التي ينطلق منها، وقد تلعب الانتماءات السياسية أو الأيديولوجية أو الاجتماعية للباحث دورا مهماً في تحديد مسار البحث، حيث تؤثر هذه الانتماءات ربما دون قصد على الباحث، لذلك يرى بعض المفكرين أن الحياد في التاريخ ضربٌ من الخرافة، فالتاريخ كما يرى الكثيرون صناعة من يكتبه، هو يصنع التاريخ ويريد من الآخرين أن يقتنعوا بوجهة نظره، وهنا تأتي مهمة ومهنية المؤرخ الحقيقي، في استجلاء الموقف، وغربلة المواقف، من خلال سبر أغوار الحوادث التاريخية بالاستناد إلى منهج علمي سليم، وطريقة موضوعية منصفة. 

وهذا ما يجب توفره عند إعادة قراءة وكتابة التاريخ، ولا سيما تاريخ العراق الحديث والمعاصر، إذ يعتبر من أكثر التواريخ تشويهاً واضطرابا، كما ينبغي إعادة النظر في هذا التاريخ ضمن منهج عالي المستوى، وضمن رؤية محايدة وفهم علمي بعيداً عن أي تحريف أو تضليل، وينبغي أيضاً غربلة كل ما كُتب حتى الآن ضمن منهج نقدي تفكيكي، وخلق جيل جديد من المؤرخين، الذين يعتمدون الوثيقة والأرشيف والمنهج أساساً في كتابة التاريخ، وهو ما نطمح إليه في قراءة تاريخ عراقي يعيد النظر بكل الأحداث والشخصيات والأحكام بموضوعية وتجرد، وبعيداً عن الانفعالات والميول والعواطف، العرقية، والدينية، والمذهبية، والهواجس الشخصية.

اضف تعليق