قد يبدو سؤالا تافها، وهل من عاقل يسأل هذا السؤال، أليس حب الأوطان راسخ في الوجدان؟، كل ما يُقال صحيح، وأزيد في ذلك، اذا أردت معرفة وطنك واختبار حبك له، جرّب الغربة، أرحل عنه، ولكن ضع في بالك انك لن تعود اليه، عند ذاك لن يستغرق صمودك سوى بضعة أسابيع...

قد يبدو سؤالا تافها، وهل من عاقل يسأل هذا السؤال، أليس حب الأوطان راسخ في الوجدان؟، كل ما يُقال صحيح، وأزيد في ذلك، اذا أردت معرفة وطنك واختبار حبك له، جرّب الغربة، أرحل عنه، ولكن ضع في بالك انك لن تعود اليه، عند ذاك لن يستغرق صمودك سوى بضعة أسابيع، وتجد الوطن قبالة عينيك بعد لحظة من استيقاظك. 

وما أن تستذكر أهلك والأصدقاء وحتى الذين لا تودهم ستحس ان نباضات قلبك قد تسارعت، كل الذين غادروا الوطن كرها ببعض جماعاته، او هربا من أزماته، او مطاردا من مسلحين، او احتجاجا على تمييز طائفي، جميعهم ينتظرون اللحظة المناسبة للعودة الى حضنه، فلا حضن أدفأ من حضنه أبدا. 

هذه المعاني والمشاعر هي ما يربطنا بالوطن، ولكن هذه الروابط قد ترخو، والحب قد يضعف، والمشاعر قد تُحيّد، وكأنك في بلد غريب، وربما يتحول حبك الفطري الى كره، يدفعك الى تحيّن الفرص للرحيل غير آسف، فليس بالضرورة كل ما هو في الوجدان باق مدى الزمان، فالمشاعر تتزعزع، والانتماء يخبو، والولاء يذوب، وعند ذاك يخسر الوطن أبنائه، ويخسر الأبناء أهلهم، فالوطن ليس قطعة أرض كما علمونا، بل هو الأهل، لذلك قيل ان الوطنية هي الشعور بحب الأهل، وعليه يجب العمل على تعزيز هذا الحب، والحفاظ عليه ناصعا في الضمائر، بغيابه يتعذر الدفاع عن الوطن، فهل رأيتم شخصا يُدافع عما يكره، او يخلص لمن لا يحب، او يُحافظ على نظافة مكان مشمئزا منه، او حريص على أمن من لا ينتمي لهم؟.  

حب الوطن هو الذي يُشعرنا بالمسؤولية، والاخلاص في أداء الواجبات دون رقيب، وهو الذي يدفع رجل الأمن الى التضحية بنفسه من أجل سلامة المواطنين وغيرها كثير، فلِمَ نلهو عن تنمية هذا الحب بالتافه من العمل ؟، وايهام أنفسنا بشعارات انشائية لا تجد تطبيقا لها على الأرض، وعدم الاعتراف بحقيقة ان الولاء الوطني يتراجع يوما بعد آخر، ومظاهره صارت بادية للعيان.  

من يظن ان الاخلاص في العمل مرهون بما يقابله من أجر فحسب واهم ولا يفقه من الأمر شيئا، بل ذاك متعلق أولا بحب الوطن، فاذا ما أحببناه تكثُر مبادراتنا، وننصب أنفسنا رقباء على سلوكنا، ونحاسب من يسيء او يسعى الى تخريبه. وهنا لابد أن تكون البداية من السؤال: متى نُحب وطننا؟

والجواب: نحبه عندما تكون العدالة سائدة، لا فرق عندها بين هذا او ذاك، لا تمييز على أساس الدين او القومية او المذهب او اللون او الجنس، نعشقه عندما نحصل على جميع حقوقنا من السكن الى التعليم والعمل والصحة والقائمة تطول، نُشغف به عندما يُشعرنا بكرامتنا، عندما يؤمن الموظف ورجل الأمن انه وجد في مكانه لخدمة الناس وليس التسلط عليهم، عندما يقف القانون صارما بوجه من يرى نفسه أعلى من الناس، مسؤولا كان ام متنفذا ام ثريا، نتعلق بالوطن ونبكي عند مغادرته عندما نثق بنظامنا السياسي بأنه يجهد لتحقيق رفاهيتنا، وان القائمين عليه أمناء ولا يسرقون، وانهم مخلصون لبلدهم ولشعبهم حتى الموت، عندما نتلمس لمس اليد انهم صادقون فيما يقولون، ومؤمنون بما يطرحون من رؤى للتطوير، وانهم لا ينسون البلاد والناس بمجرد مغادرة مناصبهم.

نتمسك بالوطن عروة وثقى حينما لا نراه بابا مفتوحا على مصراعيه للجهلاء والمغامرين والمقاولين وغير العارفين لتسنم مناصبه القيادية، بينما يُهمش الأكفاء وأصحاب العلم والمخلصين، بل وتسخيفهم والحط من أقدارهم اذا فكروا بالتقدم لهذه المناصب، واذا لم يبتعدوا فالتهم جاهزة، ومنها ما لا تراه العين بعد الآن. فما يجري كأن اللعب للشيطان لتخريب فكرة الوطن في الأذهان.

اضف تعليق