من الظواهر التي يمكن تشخيصها في المشهد العراقي بعد التغيير، هي ظاهرة التطاول على هيبة الدولة، كمؤسسات وكمفهوم، بكل ما يعنيه هذا المفهوم من حُرمة وقداسة. والدولة هنا لا تعني الحكومة، فهنالك خلط بين المفهومين من قبل الكثير، بما فيهم المُشتغلون في الحقل السياسي...
من الظواهر التي يمكن تشخيصها في المشهد العراقي بعد التغيير، هي ظاهرة التطاول على هيبة الدولة، كمؤسسات وكمفهوم، بكل ما يعنيه هذا المفهوم من حُرمة وقداسة. والدولة هنا لا تعني الحكومة، فهنالك خلط بين المفهومين من قبل الكثير، بما فيهم المُشتغلون في الحقل السياسي.
وبالرغم من التعريفات المُتعددة لمفهوم الدولة إلا أنها بالمحصلة، هي كيان سياسي واجتماعي، يتمتع بالسيادة والاستقلال، ويمتلك سلطة قانونية وإدارية على أراضيه وسكانه، في حين تمثل الحكومة النظام السياسي، الذي يتم من خلاله إدارة الدولة والمجتمع، فالحكومة هي جزء من الدولة، وليست الدولة بذاتها، وهي الذراع التنفيذي الذي يحكم مؤسسات الدولة.
ومع إدراك الكثير لحُرمة الدولة بكل ما تمثله من مفاهيم وطنية، ومع وجود كل هذه الأهمية، فلا يزال التطاول على هيبة الدولة مستمراً، بأساليب وطرق متعددة، ومن قبل أفراد أو جماعات مـُختلفةِ الأهدف والمشارب، إلا أنها تلتقي في نهاية المطاف عند نقطة واحدة، وهي قصر النظر إلى مفهوم الدولة، وعدم الفرز بين الدولة التي تمثل سيادة البلد والقانون، وبين من يتاجر بمؤسسات ودوائر هذه الدولة لأغراض نفعية.
وهذا الأمر أدى إلى الخلط في الرؤى والمفاهيم، ومنها المفاهيم الوطنية، والتي يجب ان تكون بمنأى عن كل التناقضات السياسية التي تشهدها الساحة العراقية، إلا أن ما حَصل ويحصل لا ينسجم مع هذه الرؤية الوطنية، بحيث أضحت ظاهرة التجاوز على الدولة ككيان نوعا من الشطارة، وإظهاراً للقوة التي تتمتع بها تلك الجهات والأطراف.
ومفهوم الاعتداء هنا واسع ومتشعب، فقد يكون مباشراً من قبل أشخاص وجهات على أفراد ومؤسسات تمثل الدولة، وتحتمي تحت علم هذه الدولة، كما نلاحظه اليوم في الاعتداءات المتكررة، التي يتعرض لها رجال المرور في الشوارع والساحات، أو التجاوزات المتكررة أيضاً على الكوادر التعليمية والمؤسسات الصحية. وقد يكون هذا الاعتداء والتجاوز من خلال الفساد الإداري والمالي، والتقاعس في إداء الواجب، أو تسخير هذه المؤسسات لأغراض لا علاقة لها بخدمة المواطن من قريب أو بعيد.
ويبدو إننا لا نزال بعيدين كل البُعد عن مفهوم (أبوية الدولة) بكل ماتعنيه هذه الأبوة من حنو وعطف ورعاية للرعية، شريطة ان يُــترجم هذا الحنو والعطف، من خلال إجراءات عملية ملموسة يمكن ان يستشعر بها المواطن عن قرب، وبالمقابل على الرعية احترام تلك المنزلية الأبوية وتقديرها، ومحاولة الفرز بين تلك المكانة الرفيعة والتصرفات الفردية، التي تصدر من هذه المؤسسة أو تلك باسم الدولة، وهذا لن يتم إلا من خلال إشاعة ثقافة (دولة المؤسسات) وحيادية هذه المؤسسات، وان يكون انتماؤها إلى هيكلية الدولة بكل ما تعنيه من شمولية.
وهنا علينا ان نشخص حالة التنافر التي كانت سائدة خلال حكم النظام المباد، بين المواطن ومؤسسات الدولة، وذلك بسبب ما يرتكب ضد هذا المواطن من انتهاكات ومآسٍ خطيرة باسم الدولة ومؤسساتها مما ولد حالة من القطيعة والجفاء إن لم نقل العداء بين الطرفين، وهذا ما كشفت عنه الأحداث التي أعقبت سقوط النظام، عندما تعامل البعض بشكل انتقامي مع هذه المؤسسات لشعوره بأنها كانت لا تمثله ولا تنتمي إليه، بل كانت السبب في بؤسه واضطهادة، فقد كان عليه ان يــَهلك ويتعرى ويتضور جوعاً في سبيل (الوطن) بالمفهوم الدكتاتوري، بدلاً من العيش والحياة والعمل من أجل هذا الوطن. لذا نحن بحاجة إلى ثورة ثقافية وطنية لتغيير المفاهيم، ولا سيما مفهوم العلاقة بين المواطن والدولة، وكذلك الفرز بين الدولة والحكومة، والذي يجب أن ترتكز على أسس جديدة وواضحة، من خلال شعور المواطن بأنه جزءٌ من هذه الدولة، وهذا لن يحدث إلا عندما تـُـقدم الدولة من خلال مؤسساتها الاثباتات العملية الملموسة، لانتماء هذا المواطن لتلك الدولة. ونعتقد ان مفهوم المواطنة بكل ما يعنيه من شعور غريزي، ومن إطار سميك ومُحكم يوفر لنا هذه الأجواء الرحبة، ولهذا علينا الترويج لإشاعة ثقافة المواطنة.
اضف تعليق