من أين جاءت هذه الفكرة إلى المجال العربي؟ وما هي السياقات والأرضيات التاريخية والفكرية، الذاتية والموضوعية، الداخلية والخارجية التي ولدت هذه الفكرة؟ أو التي عرفت بها في المجال العربي؟ وإلى أين وصلت وكيف تطورت؟ وما هي المسارات والأطوار التي مرت بها؟ وهل استوت على سوقها...

طرحت في المجال العربي المعاصر فكرة المشروع الحضاري، وجرى الحديث عنها، والإشارة إليها في العديد من الكتابات والمؤلفات، إلى جانب العديد من الندوات والمؤتمرات الممتدة ما بين مشرق العالم العربي ومغربه.

وما زال الحديث يتجدد ويتراكم حول هذه الفكرة، وسيظل على ما يبدو مستمراً، ولن ينقطع أو يتوقف سواء تغير العالم العربي أم لم يتغير، تقدم أم لم يتقدم.

وعند النظر في هذه الفكرة، لا بد من التوقف عند بعض التساؤلات المهمة التي لم تطرح، وينبغي طرحها، وذلك لتعميق المعرفة بهذه الفكرة من جهة، ولرفع ما يحيط بها من غموض والتباس من جهة ثانية، ومن جهة ثالثة لتوسعة النقاش وبسطه حول هذه الفكرة.

من هذه التساؤلات: من أين جاءت هذه الفكرة إلى المجال العربي؟ وما هي السياقات والأرضيات التاريخية والفكرية، الذاتية والموضوعية، الداخلية والخارجية التي ولدت هذه الفكرة؟ أو التي عرفت بها في المجال العربي؟ وإلى أين وصلت وكيف تطورت؟ وما هي المسارات والأطوار التي مرت بها؟ وهل استوت على سوقها وصكت؟ وتحددت ملامحها ومعالمها، عناصرها ومكوناتها، مقاصدها وغايتها؟

والمنطلق المعرفي لهذه التساؤلات، يتحدد في أن هذه الفكرة بهذا الوزن الثقيل، وبهذا الأفق البعيد، لا يمكن أن تأتي من فراغ، أو بصورة عابرة وعفوية تكون خارجة عن نطاق الوعي، كما لا يمكن لهذه الفكرة أن تأتي من دون مقدمات، أو بلا سياقات وأرضيات نظرية أو عملية.

وهذا يعني أن هذه الفكرة لا بد لها عاجلا أم آجلا، من أن يكون لها ما يمكن أن نسميه بالسيرة الفكرية، التي تكشف عن المراحل والأطوار التي مرت بها، والملامح والسمات التي ارتسمت فيها، والعناصر والمكونات التي حصلت عليها.

وذلك لأن الأفكار بصورة عامة، لا تبقى جامدة وساكنة على حالة واحدة، من دون تغير أو تبدل أو تطور، وإنما هي تتأثر وتتفاعل مع كل المؤثرات المحيطة بها.

ليس هذا فحسب، بل إن الفكرة الواحدة تتغير صورتها من جهة الظهور والنمو والتطور بحسب طبيعة البيئات والمجتمعات، وبحسب المراحل والأزمان، فالفكرة التي تظهر مثلا في المجتمع المصري، حالها سيختلف عن الفكرة نفسها إذا ظهرت في المجتمع اليمني أو السوداني، والفكرة التي مر عليها عقد من الزمن حالها سيختلف كذلك، عن الفكرة التي لم تبلغ عقدا من الزمن، وهكذا.

هذا النمط من الاهتمام في التعامل مع الأفكار، ليس مألوفاً كثيراً في الكتابات العربية، وهذا ما يصدق أيضاً على طريقة التعامل مع فكرة المشروع الحضاري في هذه الكتابات العربية، فالقدر الذي وصلت إليه من هذه الكتابات، لم أجد فيها أنها تساءلت من أين جاءت هذه الفكرة، وما هي سيرتها الفكرية في المجال العربي؟ وإلى أين وصلت وكيف تطورت؟ ولم تكن هذه الكتابات معنية أساساً بهذه التساؤلات.

علماً أن هذه الطريقة من التعامل مع الأفكار، تتصل بحقل معرفي شديد الأهمية، هو حقل تاريخ تطور الأفكار، الحقل الذي لم يشهد تطوراً وتقدماً يذكر في المجال العربي، ويكفي للدلالة على ذلك، قلة بل ندرة الكتابات والمؤلفات التي تعنى بهذا الحقل شرحاً وتعريفاً وتحليلاً، وقلة بل ندرة الكتابات أيضاً التي استندت على هذا الحقل تجريباً وتطبيقاً وممارسة.

ومن أوضح الأمثلة على ذلك، ما جاء في كتاب (الأسس الفلسفية للعولمة)، الصادر سنة 2009م، للباحث المصري الدكتور عصام عبدالله، الفصل الأول من هذا الكتاب جاء بعنوان: (علم تاريخ الأفكار)، تتبع فيه المؤلف نشأة هذا العلم وتطوره وخصائصه، وقد طالعت هذا الفصل فاحصاً ومتتبعاً فيما إذا كانت هناك مشاركات أو كتابات عربية لها علاقة بهذا الحقل، ومع كثرة الأسماء الغربية التي وردت لمفكرين وفلاسفة ومؤرخين، فرنسيين وألمان وإنجليز وأمريكيين، لم يذكر المؤلف اسماً عربياً واحداً، ولم يشر إلى مصدر عربي واحد على صورة مقالة أو دراسة أو كتاب، ما عدا كتاب من تأليفه هو، بعنوان: (علم تاريخ الأفكار) صدر سنة 2002م.

وما نخلص إليه أننا بحاجة إلى خبرة هذا الحقل المعرفي، لكي نجيب على تلك التساؤلات المطروحة حول فكرة المشروع الحضاري في المجال العربي.

* الأستاذ زكي الميلاد، باحث في الفكر الإسلامي والإسلاميات المعاصرة-رئيس تحرير مجلة الكلمة

http://www.almilad.org


اضف تعليق