اللّه تعالى غير متناهٍ، أمّا الإنسان فهو متناهٍ، ويمكننا أن ندرك ونعرف أن اللّه تعالى موجود وأن له صفات الكمال وأنه مبرّأ من صفات النقص، لكننا لا يمكن أن نستوعب حقيقة وكنه ذات اللّه تعالى؛ لأنه غير محدود، وعادة ما نعرف الشيء من مثله، وإذا لم يكن له مثل فلا نتعرف عليه...
قال اللّه تعالى في كتابه الكريم: {لَيۡسَ كَمِثۡلِهِۦ شَيۡءٞۖ وَهُوَ ٱلسَّمِيعُ ٱلۡبَصِيرُ}(1).
إن قدرة العقل البشري في معرفة اللّه تعالى وخصوصياته محدودة، فالعقل لا يدرك كثيراً من الأمور ولا يحيط بها، ولكنه قد يصل إلى أمور يمكن أن يدركها. فالعقل يدرك أن اللّه عزّ وجلّ خالق الكون وأنه عالم وقادر وحيّ، أمّا التفاصيل والخصوصيات فبعضها يجب أن تؤخذ من اللّه عزّ وجلّ، أي: من القرآن الكريم، أو ممن عيّنه اللّه تعالى، وهو الرسول (صلى الله عليه وآله)، والأئمة (عليهم السلام)، وهناك بعض الأمور لا يمكن أن يصل لها الإنسان أبداً مثل كنه اللّه وذاته، لأنه تعالى غير محدود، أمّا العقل فهو محدود، فلا يتمكن من الإحاطة بغير المحدود، فإذا كان المدى محدوداً فإن ما زاد عنه لا يمكن أن يُستوعب، فلا يُعقل أن يدرك الطفل الرضيع المسائل العلمية الدقيقة مهما حاول ذلك؛ لأن سعة أفقه محدودة، وإذا شرحنا له ذلك فلا يفهمه، وكذا الحال مع الحيوان؛ لأن ماهية استيعابه لها حدود خاصة؛ لذا قيل: (إن النملة إذا توهمت ربها توهمت أن له قرنين كقرنيها)، لأن مستواها بهذا المقدار ليس أكثر.
والأمر ذاته ينطبق على الإنسان؛ لأن اللّه تعالى غير متناهٍ، أمّا الإنسان فهو متناهٍ، ويمكننا أن ندرك ونعرف أن اللّه تعالى موجود وأن له صفات الكمال وأنه مبرّأ من صفات النقص، لكننا لا يمكن أن نستوعب حقيقة وكنه ذات اللّه تعالى؛ لأنه غير محدود، وعادة ما نعرف الشيء من مثله، وإذا لم يكن له مثل فلا نتعرف عليه في الغالب، مثلاً: يُقال: إن زيداً موجود في القارة الفلانية، فنتصور أن له رأساً وعينين؛ لأننا نعرف زيداً من أشباهه بين الناس، فإذا لم يكن للشيء شبيه فكيف يمكن أن نعرفه؟
يقول اللّه تعالى: {أَنزَلَ مِنَ ٱلسَّمَآءِ مَآءٗ فَسَالَتۡ أَوۡدِيَةُۢ بِقَدَرِهَا}(2)، والوادي: هو منخفض من الأرض بين جبلين يستوعب ماءً بقدره، وحسب عمقه، فإذا كان عميقاً فيستوعب ماءً كثيراً، وإذا كان أقل عمقاً فسوف لا يستوعب كثيراً من الماء، وهكذا الأمر بالنسبة لمعرفة الإنسان باللّه تعالى، فنحن نعرف أنه تعالى موجود، لكن حقيقة الذات المقدسة لا يعلمها إلّا اللّه عزّ وجلّ، وقد نهينا عن التفكر في ذات اللّه عزّ وجلّ، فقد ورد في الحديث الشريف عن الإمام الباقر (عليه السلام) قال: «إياكم والتفكر في اللّه، ولكن إذا أردتم أن تنظروا إلى عظمته فانظروا إلى عظيم خلقه»(3)؛ لأن الإنسان لا يمكن أن يصل إلى ذات اللّه، فإذا فكر في ذلك فربما يتوهم أشياء معينة، ويظن أنها هي اللّه أو صفاته سبحانه وتعالى؛ لذا جاء في الحديث الشريف: «إن اللّه خلو من خلقه، وخلقه خلو منه، وكلما وقع عليه اسم شيء فهو مخلوق ما خلا اللّه»(4)، وفي حديث آخر: «الحمد للّه الذي لا يحس، ولا يجس، ولا يمس لا يدرك بالحواس الخمس، ولا يقع عليه الوهم، ولا تصفه الألسن، فكل شيء حسته الحواس أو جسته الجواس أو لمسته الأيدي فهو مخلوق»(5)، فأي شيء نتصوره فهو مخلوق مثلنا؛ لأننا أوجدناه بفكرنا، ولا يمكن أن يكون اللّه عزّ وجلّ ذلك الشيء؛ لهذا نهينا عن التفكر بحقيقة ذات اللّه تعالى، وأمرنا بالتفكر في دقة نظمه ومخلوقاته.
وكما لا نعرف كنه ذات اللّه تعالى، كذلك لا نعرف كنه حقيقة المخلوقات أيضاً، فنحن نرى الماء وآثاره، وأمّا حقيقته فإن العلم يقف حائراً أمامها، وأكثر ما توصل إليه العلم حول الماء: هو أنه مركب من الأوكسجين والهيدروجين، وإن آثاره كذا وكذا، وهو يروي العطشان، فالعلم يجزّئ الأشياء ويبيّن آثارها، وأمّا حقيقة وكنه ذات الشيء فتبقى مجهولة؛ مثلاً الوجود يقال عنه:
مفهومه من أعرف الأشياء
وكنهه في غاية الخفاء(6)
فالوجود معروف لدينا كلنا، وهو من أعرف الأشياء، فحتى الطفل الصغير إذا أريته شيئاً وذهبت به إلى مكان آخر فسيقول هذا الشيء موجود أو غير موجود الآن، ولكن كنهه في غاية الخفاء، ولو طرحنا هذا السؤال: ما هي حقيقة الوجود؟ فلا أحد يعرف الجواب. فلو ذهبنا إلى أكبر علماء الفيزياء ومجال الطبيعة وسألناه عن حقائق الأشياء، فسيقول: لا أدري، وإنّما أنا أعرف أنها مركبة من هذه الأجزاء، ولها الخواص الفلانية، وقد يتطور العلم ويكتشف خواص أكثر. فالدواء مثلاً: مركب من كذا وكذا، وإذا مرض إنسان بمرض ما، فإن علاجه يتم بهذا الدواء، ولكن ما هي حقيقة هذا الدواء؟ فهذا غير معلوم لنا.
إذن، نحن لسنا نجهل كنه وجود ذات اللّه فقط، بل نجهل كنه ذات كل شيء، حتى المخلوقات.
ولا يعني كلامنا هذا أن كل شيء لا ندركه بعقولنا يجب أن نؤمن به.
إننا حينما نناقش بعض النصارى حول كيفية أن يكون الإله واحداً، وفي الوقت نفسه ثلاثة، يقولون: إن هذا فوق عقلنا.
وهذا كلامهم باطل، وكلامنا ليس شبيهاً بكلامهم؛ لأن هناك شيئين: شيء فوق العقل وشيء خلاف العقل.
فمرّة يكتشف العقل أن هذا الشيء باطل، وأن الواحد لا يمكن أن يكون ثلاثة؛ لذا فمثل هذا الكلام يكون خلاف العقل.
وهناك شيء آخر فوق العقل، لا يقول أحدهم إنه مستحيل أو باطل، بل يقول: إنني لا أتمكن من استيعابه، كما هو الحال بالنسبة لنا، حيث نجهل أدق مسائل الفيزياء والفلك، فنقول: إنها أمور فوق عقولنا، لكننا لا ننكرها ولا نحكم ببطلانها، بل نحن لا ندركها لأننا لم نتخصص بها.
فعندما نقول: إن عقلنا لا يتمكن أن يدرك كنه ذات اللّه فهذا لا يعني أنه يكون خلاف العقل، بل العقل يذعن بوجود اللّه تعالى ثم يقرّ بأنه لا يتمكن من معرفة كنهه.
لذا يقول أمير المؤمنين (عليه السلام) في نهج البلاغة: «التوحيد أن لا تتوهمه، والعدل أن لا تتهمه»(7)، بمعنى أن تثبت أن اللّه واحد، وتثبت الصفات التي أثبتها لنفسه، مثل كونه سميعاً بصيراً، وتنفي عنه الصفات التي نفاها عن نفسه، لكن كل شكل خاص تخيّله ذهن الإنسان فهو مخلوق له، ولا يمكن أن يكون هو اللّه عزّ وجلّ.
ثم بعد إذعاننا بوجود اللّه وبأنّه أرسل محمّداً (صلى الله عليه وآله) وعيّن أوصياء له، لا بدّ لنا من الإذعان بكل ما جاؤوا به في مسائل العقيدة وغيرها، فإننا نعلم بصدقهم مع عدم مخالفة كلامهم لأحكام العقل، فالعقل يحكم بوجوب قبول ما جاؤوا به.
إن من صفات اللّه عزّ وجلّ القديم، ومعنى ذلك أنه تعالى ليس له أوّل؛ لأن كل شيء محدث ومخلوق له أوّل فلم يكن قبل ذلك الأوّل، ثم إن هذا الأمر ينطبق على كل شيء باستثناء اللّه عزّ وجلّ.
إن قوله تعالى: {هُوَ ٱلۡأَوَّلُ وَٱلۡأٓخِرُ}(8) تعبر عن كونه تعالى الأوّل، بمعنى القديم الأزلي، فقد كان وليس لوجوده بداية.
لقد سأل نافع مولى الإمام الباقر (عليه السلام) قائلاً: «... فأخبرني متى كان اللّه؟ قال: ويلك أخبرني متى لم يكن حتى أخبرك متى كان؟! سبحان من لم يزل ولا يزال، فرداً صمداً لم يتخذ صاحبة ولا ولداً»(9).
وفي رواية أخرى: عن الإمام الصادق (عليه السلام)، قال: «إن اللّه تبارك وتعالى لا يوصف بزمان، ولا مكان، ولا حركة، ولا انتقال، ولا سكون، بل هو خالق الزمان والمكان والحركة والسكون والانتقال، تعالى عما يقول الظالمون علواً كبيراً»(10).
فالزمان والمكان مخلوقان للّه، فهو تعالى فوق المكان والزمان، ولا يعقل أن يحتويه مخلوق، فهو ليس بمسبوق بالعدم، فاللّه تعالى لم يكن قبله شيء منذ الأزل؛ لأن كل شيء محدث يحتاج إلى خالق لأنه كان عدماً، فإذا كان اللّه تعالى مسبوقاً فهذا يعني أنه لم يكن، ثم كان، وكل شيء كان عدماً ثم كان يحتاج إلى سبب لإيجاده بضرورة العقل، وتعالى اللّه عن ذلك علواً كبيراً، {سُبۡحَٰنَهُۥ وَتَعَٰلَىٰ عَمَّا يَقُولُونَ عُلُوّٗا كَبِيرٗا}(11).
يزعم البعض: إن القرآن ليس بمخلوق، وهذا يعني أن القديم صار اثنين: اللّه عزّ وجلّ، والقرآن الكريم، وهو بديهي البطلان مضافاً إلى دلالة الأدلة العقلية والنقلية على أن القرآن مخلوق، فالقرآن يدل أن اللّه تعالى خالق كل شيء وأن القرآن محدث فقال: {ٱللَّهُ خَٰلِقُ كُلِّ شَيۡءٖۖ}(12) وقال: {مَا يَأۡتِيهِم مِّن ذِكۡرٖ مِّن رَّبِّهِم مُّحۡدَثٍ إِلَّا ٱسۡتَمَعُوهُ وَهُمۡ يَلۡعَبُونَ}(13)، أي: إن القرآن ذكر محدث من ربهم، بمعنى أنه لم يكن موجوداً ثم وُجِد، وهذا يدل على أن القرآن مخلوق للّه عزّ وجلّ.
كذلك هناك آراء تذهب إلى أن بعض الأشياء قديمة، وكلها آراء باطلة؛ لأن القديم هو اللّه عزّ وجلّ فقط، القدم صفة خاصة به تعالى.
اضف تعليق