q
والمجتمع الحديث، هو الذي يكون حديثاً من ناحية الأعمال الجماعية الصادرة عنه. والذي يكون حديثاً يلحظ بنية النظام الاجتماعي الذي يسوده. فالتمايز الحقيقي بين المجتمعات، لا يتم على قاعدة مؤشرات كمية، وانما تتمايز المجتمعات على قاعدة مدى التزام هذه المجتمعات بجذور ومنابع التطور والتقدم الحقيقي...

منذ الصدمة الاولى التي أحدثها الغرب بالعالم العربي والإسلامي، التي دشنها نابليون بغزو مصر عام (1798م) والغرب بمفاهيمه وثقافته وعسكره وسياسته، يحتل موقعاً متميزاً في خريطة العالم العربي والإسلامي.

ومنذ قرنين تقريباً والغرب ككيان حضاري، هو الذي يحتل قطب الرحى في الجدال الفكري والسياسي، الذي يدور في الساحة العربية والإسلامية.

واتخذ الفكر العربي، بكل تعبيراته ومدارسه واتجاهاته الغرب كمحور لتباين وجهات النظر، وتغاير استراتيجيات العمل والحركة.

وفي المقابل كان شرق المتوسط يشكل لدى الغرب الهاجس الملح الذي يسعى إلى ادراكه وهضمه، وامتصاص ثرواته وقدراته.

وفي العقل الغربي يحضر الشرق، بالتناوب وكأنه ملغز ومهدد، مغر ورافض. وهو في نفس الوقت متصخر وزاخر، بربري ومرهف، تارة عنيف وتارة لا مبال، انه فضاء للافتتان وللهرب وللسخط ولكنه حاضر دوماً ومختلف على الدوام على حد تعبير (تيري هانتش). وبفعل المركزية الحضارية التي يتبوأها الغرب اليوم، أضحت العوالم الثقافية والحضارية الاخرى تعيش الصدى وردود الفعل لكل المدارس والتيارات والموضات التي تزخر بها الحياة الغربية.

ولعل من المفردات الجديدة، التي طرحتها السوق الثقافية للتداول، مفردة (مابعد الحداثة) وضرورة دخول العالم هذه المرحلة الجديدة. ويتميز مصطلح (مابعد الحداثة) عن غيره عن المصطلحات. من انه يستدعي الكثير من الأسئلة والاجابات المتعددة المرتبطة بمسيرة هذا المصطلح وواقعه الاجتماعي والحضاري. سواء في فضاء الآخر المعرفي أو في فضائنا المعرفي.

ولعل هذا الاستدعاء الدائم لجملة الأسئلة والاشكاليات والاجابات المختلفة، هو من جراء اختلاف قاعدة انطلاق ومعايير التقويم، إذ ان التكوين المعرفي المختلف، هو الذي يؤدي إلى النظريات المتباينة والعديدة لهذا المصطلح باشكالياته التاريخية والراهنة.

وبهذا تداخلت المفاهيم والمضامين بين مصطلح (مابعد الحداثة)، وغيره من المصطلحات وعلى الخصوص مصطلح (الحداثة).

ويبدو مصطلح (مابعد الحداثة) في هذا الاطار، وكأنه نص مفتوح، على كل مضامين الفعل الإنساني، لذلك من الأهمية بمكان ان ندرك التطور التاريخي لمصطلح الحداثة، حتى نتمكن من التعرف السريع على مصطلح مابعد الحداثة، فلا يمكننا ادراك مفهوم (مابعد الحداثة) معرفياً، إذا لم ندرك التطورات التاريخية وسياق نشوء وتبلور مفهوم الحداثة في الفضاء الاوروبي.

فمن جراء الاستخدام المتعدد لهذا المفهوم (الحداثة)، تردد هذا المفهوم في الكثير من التخصصات والعلوم.

ففي علم الاقتصاد السياسي نجد ثنائية (القطاع الحديث ـ القطاع التقليدي) لتمييز العلاقات الرأسمالية (الحديثة) عن العلاقات ما قبل الرأسمالية في ميدان الانتاج والتداول المادي.

وفي ميدان الفكر الاجتماعي تتخذ ثنائية الحديث ـ التقليدي، ثنائيات عديدة، اللاهوت مقابل الفلسفة أو العلم. المرجعية الدينية مقابل مرجعية العقل.

وفي حقل الأدب والشعر، هناك الشعر القديم والشعر الحديث، وفي حقل العلاقات السياسية ونظرياتها، ثمة الدولة الثيوقراطية، قبل الدولة العثمانية، الحكم بـ (الحق الالهي) مقابل الحكم بالعقد الاجتماعي. وتمتد الثنائيات لتشمل المعايير والقيم وأنماط السلوك واللباس وطراز السكن أي كل مناحي الحياة في آخر المطاف.

وعليه نجد من يمد مفهوم الحداثة عالمياً إلى تخوم العصور الكلاسيكية.

أدونيس في بحثه مفهوم الحداثة في اطار الاتباع والابداع، انطلاقاً من ازدواجية، القديم ـ الحديث، ثنائية شاملة تبرز في كل عصر وحين.

وهناك من يعد المفهوم (اوروبيا) من بدايات القرن السادس عشر (1513م) تاريخ ظهور البروتستانتية حتى يومنا الحاضر، وبذلك يشمل المفهوم بين دفتيه ثورة الكنائس ضد الكنائس، اللاهوت المعقلن ضد اللاهوت غير المعقلن، ثورة العلوم الطبيعية في عصر النهضة (كوبر نيوكس ـ غاليلو ـ نيوتن) والثورات الفلسفية (هوبز ـ بيكون ـ ديكارت ـ سبينوزا ـ كانط) والثورات الصناعية، الثورات السياسية، راجع هنري لوفيفر: ما الحداثة.

فالحداثة وفق هذا المفهوم بنية مركبة استمولوجية ـ انطلوجية.

ولهذا فإن الحداثة في النموذج الغربي، ادغام عناصر تقليدية في مقدمة انطلاق الحداثة، ويجد هذا الادغام نفسه في مظاهر شتى على حد تعبير (فالح عبدالجبار)، انطلاقة تحطيم اللاهوت من اللاهوت نفسه، انطلاقة الفلسفة من أسر اللاهوت، والاعتراف بثنائية العقل الالهي والعقل البشري، وبالتالي ثنائية الحقيقة (الرشدية في صورتها الاوروبية) وانفساح المجال لانطلاقة العلوم الطبيعية والإنسانية، الغاء التوسط بين الحق الطبيعي (البشري) والحق الإلهي، تصارع أو تصالح الفلسفة والدين المسيحي (توفيقية ديكارت)، نزعات التصالح بين الدين المسيحي عند كانط، توحيد الدين والفلسفة، في صورة الفكرة المطلقة التي تتطور ذاتياً بفعل تناقضها الداخلي كما عند هيغل.

اننا نجد هذا الاندغام والحركات المتناقضة الملتوية، على امتداد فسحة واسعة من التاريخ الاوروبي وعلى ضوء هذه المنطلقات والسياق التاريخي لمفهوم الحداثة في العالم الاوروبي، من الضروري ان نتساءل عن المقصود الجوهري إلى مفهوم (مابعد الحداثة)، إذ ولحد الساعة لا يشكل مفهوم (مابعد الحداثة) مفهوماً واسعاً أو مبلورة عناصره أو آفاقه المعرفية والاجتماعية.

ويبدو ان عدم اكتمال عناصر المفهوم، وعدم قبوله من البعض، يرجع إلى ان تجليات مابعد الحداثة ذات طابع تدميري على حد تعبير (فريدريك جيمسون) إذ يقول: ان السمة الثانية لقائمة مابعد الحداثات هذه فتكمن في طمس بعض الحدود أو التخوم الفاصلة المفتاحية، وخصوصاً في محو الخط المميز بين الثقافة الرفيعة والثقافة الجماهيرية أو الشعبية المزعومة.. ويضيف: غير ان العديد من مابعد الحداثات الأجدر انبهرت تحديداً بكل ذلك المشهد من الدعاية الاعلاناتية والموتيلات من شريط لاس فيغاس العاري. من العروض الأخيرة وأفلام هوليوود من الدرجة الثانية. من ذلك الذي عرف باسم ما يشبه الأدب من الاعمال الغوطبة وقصص الحب المنشورة بأغلفة ورقية والمباعة في المطارات، من السيرة الذاتية الشعبية، من القصص الاجرامية المثيرة، ومن روايات الخيال العلمي.

ما نريد بيانه في هذه الوقفة، هو اننا بحاجة لان نتعامل مع مفردات التقدم والتطور باعتبارها مسائل داخلية، ينبغي بذرها في تربتنا الاجتماعية والثقافية.

فالحداثة أو مابعدها ليست وحدة من وحدات الخطاب الايدلوجي، هي قبل كل شيء حركة تاريخية معينة، نتجت عن مسار فكري متصاعد باستمرار، هذا المسار يحدث انساقاً جديدة من التصورات على الصعيد العلمي والابداعي.

فتترتب على ذلك انبثاق نمط جديد في كيفيات التفكير والممارسة، واننا بحاجة إلى منهج جديد نقرأ من خلاله دورات الفكر وخطاباته المتعددة، قراءة لا تسعى بالدرجة الاولى إلى تفنيد اخطاء الآخرين من زاوية النفي والاقصاء.. قراءة تهتم بتاريخية الأفكار، من زاوية تفسيرها في لحظة انتاج الخطاب وظروفه ومرسله ومتلقيه ووظيفته، وصولاً إلى ابراز المجامع المشتركة لكل الدورات الفكرية.

فلا شك ان ثمة بينة داخلية لهذه الحركة، فيمكننا اخضاعها للدرس وان اختلفت مرجعياتها الاصطلاحية في الزمان والمكان.

والحداثة ليست حداثة في الامكانات ووسائل الترفيه والعيش، وانما هي خصوصية عقلية وسلوكية بالنسبة إلى الإنسان الفرد والجماعة، ولكي نحصل على حداثة وفق هذا المنظور، نحن بحاجة إلى الإنسان الحديث الذي يتجاوز معوقات الفعالية ويوفر أسباب المشاركة الايجابية، ويمتلك المؤهلات والقدرات النفسية والعقلية والفنية للمشاركة الفعالة في التحكم في مستقبله ومصيره.

فكلما كان الإنسان أكثر فهماً ونضجاً (على المستويين النفسي والعقلي) كان أكثر حداثة وعقلانية.

فالإنسان الحديث، ليس هو ذلك المرء الذي يتفلت من القيم والاخلاق ولا يتقيد بضوابطهما ومتطلباتهما. وإنما هو ذلك الإنسان الذي يمتلك مؤهلات المشاركة وأسباب الإبداع وعوامل التميز والتفوق.

فالحداثة مقرونة دائماً بالإبداع، والإنسان الحديث يسعى دائماً إلى اكتشاف امكاناته الجديدة في العلم (في ضوء واقعه) ومن ثم الاستفادة من امكاناته بأحسن وجه، وعدم الاكتفاء بالنهج المألوف، فهو شجاع مجازف يختار التجارب الجديدة.

والمجتمع الحديث، هو الذي يكون حديثاً من ناحية الأعمال الجماعية الصادرة عنه. والذي يكون حديثاً يلحظ بنية النظام الاجتماعي الذي يسوده.

فالتمايز الحقيقي بين المجتمعات، لا يتم على قاعدة مؤشرات كمية، وانما تتمايز المجتمعات على قاعدة مدى التزام هذه المجتمعات بجذور ومنابع التطور والتقدم الحقيقي.

اضف تعليق