الصوابية السياسية أكثر من مجرد مزحة أو تحديث لاستخدام اللغة. إنه نظام من المعتقدات ونمط الأفكار يتخلل العديد من جوانب الحياة الحديثة، ويسيطر على النقاش العام، ويقرر ما يمكن مناقشته وما هي شروط النقاش، وأي سياسات حكومية مقبولة وأيها غير مقبول. وقد زاد نفوذها على مدى العقود القليلة...
مصطلح الصواب السياسي أو المداراة السياسية او اللياقة السياسية، (اللياقة في المعجم الوسيط هي: سلوك الإنسان في حياته مع غيره سلوكا متسما بالأدب) أو الكياسة السياسية، أو اللباقة السياسية، يستخدم لوصف اللغة أو السياسات أو الإجراءات التي تهدف إلى تجنب الإساءة أو الحرمان لأفراد مجموعات معينة في المجتمع..
او هو ذلك النهج الذي يصنف الكلام الى صائب وغير صائب من الناحية السياسية، بمعنى انه لا ينبغي قول هذا الكلام او تداوله لاعتبارات اللياقة السياسية المتعلقة بعناوين مثل التعاطف مع المستضعفين وحمايتهم وخلق بيئة امنة للمختلفين ومنع خطاب العنصرية والكراهية وثم الانطلاق من ذلك التعريف لتحديد ما يجب ان يقال وما يجب ان لا يقال على أساس أخلاقي ثم الدعوة لفرضه بقوة القانون او سلطة الجماهير..
بعبارة أخرى فان الصواب السياسي بشكل أساسي هو اللغة والسياسات والقرارات والسلوكيات التي تصدر من المؤسسات الحكومية والمجموعات والافراد بقصد تجنب تسبيب الشعور بالإساءة او التمييز الظالم ضد أي مجموعة او تهميشهم او التشنيع عليهم، وبالطبع لا يقصد بذلك سائر التمييز، فالتمييز الذي يمارس على الرجال في عدم السماح لهم بدخول الحمامات النسائية هو تمييز عادل ونافع، ومن هنا يبدا الجدل حول تفريق التمييز الظالم من العادل..
عرَّفَ قاموس أوكسفورد مصطلح الصوابية السياسية بأنها: (تجنب أشكال التعبير أو العمل التي يُنظر إليها على أنها تستبعد أو تهمش أو تهين مجموعات من الأشخاص المحرومين اجتماعياً أو الذين يتعرضون للتمييز).
عرّف جلين لوري الاقتصادي والأكاديمي الأمريكي في بحثه المنشور بعنوان (الإقصاء الاجتماعي والمجموعات العرقية: التحدي للاقتصاد) الصوابية السياسية بأنها (اتفاقية اجتماعية ضمنية لضبط النفس على التعبير علنا داخل مجتمع معين).
وفقا لانطوني براون الصحفي البريطاني في كتابه (تراجع المنطق) أن الصوابية السياسية أكثر من مجرد مزحة أو تحديث لاستخدام اللغة. إنه نظام من المعتقدات ونمط الأفكار يتخلل العديد من جوانب الحياة الحديثة، ويسيطر على النقاش العام، ويقرر ما يمكن مناقشته وما هي شروط النقاش، وأي سياسات حكومية مقبولة وأيها غير مقبول. وقد زاد نفوذها على مدى العقود القليلة الماضية لدرجة أنها أصبحت الآن واحدة من السمات الأكثر هيمنة على الخطاب العام وخاصة في دول الغرب.
اما قاموس أمريكان هيريتدج, فيعرف العبارة أنها:
(ترتبط أو تساهم أو تساعد في إحداث تغيير اجتماعي وسياسي وتربوي وذلك من أجل تصحيح الحيف التاريخي الذي لحق بعض الجماعات بسبب انتماءاتها العرقية أو توجهاتها السياسية أو انتمائها الطبقي أو ميولاتها الجنسية وما تعرضت له المرأة من حيف عبر التاريخ).
كما يعطي القاموس تعريفا للمصطلح للإشارة إلى الشخص الذي يبالغ في الالتزام بهذا التغيير ويصب كل طاقاته عليه دون غيره من الأمور الهامة الأخرى.
ويعرف قاموس لوغران روبير هذه العبارة أنها:
(خطاب أو سلوك يمحي الطرف عن التعابير التي من شأنها أن تجني/تظلم/تقلل من شأن أقلية عرقية ما وتعكس في الوقت ذاته أخلاقيات المجتمع العامة وتنشأ عنها مجموعة من العبارات الملطفة والمحرمات).
فمثلا بحسب مبدأ (الصواب السياسي) من المفضل أن نقول (ذوي الاحتياجات الخاصة) وليس (معاقين) أو (قصير القامة) وليس (قزم). ومن أبرز الأمثلة الأميركية في الصواب السياسي القول (أميركي أصلاني) بدلا من (الهنود) أو (أفريقي) عوضا عن (نيجرو). إذا فإن المعنى الرائج لـلصواب السياسي والذي تحول إلى نهج مركزي في السياسة هو أي عمل أو قول يصدران عن شخص يراعي فيهما مسايرة الرأي العام حول قضية من القضايا، وقد تكون تلك المسايرة مقصودةً لذاتها ولأهداف لا علاقة لها في الحقيقة بتلك القضية فترى سياسي علماني يختار كلماته بعناية فائقة عند الحديث في الأمور الدينية تحسبا لمشاعر المتدينين وأهمية الدين في المجتمع كي لا يفقد تعاطفهم.
كما تستخدم في عدم الإشارة إلى جنس المخاطب حتى لا تتسبب في التمييز بين الجنسين، وعدم الإشارة إلى المرأة بلفظة السيدة أو الآنسة مساواة لها بالرجل الذي يشار إليه دائماً بالسيد بغض النظر عن حالته الاجتماعية، و(ذوو الاحتياجات الخاصة) بدل المعاقين و(المكفوفون) بدل العميان. كما تتجنب العبارات التي قد تعتبر مهينة لدى عرق معين سواء كانت شائعة في الحياة العامة أم لا.
ظهر هذا المصطلح في اللغة الإنجليزية للمرة الأولى في القرن الثامن عشر من قبل المحكمة العليا الأمريكية في قضية تشيشولم ضد جورجيا. قالت المحكمة في قسم صغير من حيثيات القرار (تسود تعبيرات مثل هذه في لغتنا اليومية حتى الاحتفالية. فإذا قيل نخب من نحتفل، كانت الإجابة الولايات المتحدة، بدلًا من شعب الولايات المتحدة، وهذا مخالف للصواب السياسي). حينها كان الصواب السياسي مجرد تقليد سياسي تلتزم به النخبة وليس موضوعًا وطنيًا يطرح في المجال العام.
ويذكر بعض الكتاب والمعلقين على الشأن السياسي ان أقدم استعمال للمصطلح جاء في العشرينات او الثلاثينات من القرن العشرين، ويشير انجيلا كودفيلا أستاذ العلاقات الدولية في جامعة بوسطن ان أول ذكر لتعبير الصواب السياسي كان بين الشيوعيين في ثلاثينيات القرن العشرين وكان يراد به التهكم او مايشبه السخرية من الحزب كونه يريد التعامل مع مصالحه وكأنها (حقائق فوق الحقيقة) وكانت شبه السخرية تلك تتمظهر في عبارات مثل العبارة الاتية:
(يارفيق ان ماقلته ليس صائبا واقعيا..
نعم، لكنه صائب سياسيا..)
ويعيد بيل ليند الكاتب الأميركي المحافظ جذور الصواب السياسي للماركسية مؤكدا ان الصواب السياسي ليس الا وجها اخر للماركسية الثقافية والتي هي وجود جديد للماركسية انبثق بعد الفشل الاقتصادي للتجارب الشيوعية ليعيد تقديم الصراع الطبقي الاقتصادي على شكل صراع ثقافي بين مجموعات من الظالمين والمظلومين على أساس التمييز العرقي والاثني والجنسي..
ويفهم من معظم الكتاب اليمينيين ان اليسار هو أبو الصواب السياسي وان الفكر اليساري كان ومازال مهيمنا على الفضاء الثقافي وان الهيمنة الثقافية اليسارية ليست ظاهرة جديدة وان الصواب السياسي هو من أكثر اشكالها وضوحا..
يعتقد بعض النقاد المحافظين أن الصواب السياسي هو تقويض ماركسي للقيم الغربية. يصف وليام ليند وباتريك بيوكانان الصواب السياسي كتقنية نشأت من مدرسة فرانكفورت، من خلال ما يصفه بيوكانان بأنه (ماركسية ثقافية). يقول بيوكانان، في كتابه (وفاة الغرب): «الصواب السياسي هو ثقافة ماركسية، وهو نظام لمعاقبة المعارضة ولمحاربة البدع الاجتماعية كما حاربت محاكم التفتيش البدع الدينية. وعلامتها هي التعصب).
يربط أستاذ جامعة بنسلفانيا ألان تشارلز كورز والمحامي هارفي سيلفرغيت الصواب السياسي بالفيلسوف الماركسي هربرت ماركوزه. ويزعمون أن الأفكار الليبرالية عن حرية التعبير هي قمعية، بحجة أن هذا (المنطق الماركوزي) هو قاعدة حول رموز الكلام في الجامعات الأمريكية، والتي يراها البعض على أنها نوع من الرقابة. أنشأ كورز وسيلفرغيت لاحقا مؤسسة حقوق الفرد في التعليم، والتي تقود حملات ضد رموز الكلام الصائبة سياسيا.
في ستينات القرن العشرين، في أعقاب الحرب العالمية الثانية وفي خضم الحرب الباردة، شهدت الولايات المتحدة وأوروبا تغييرات اجتماعية كثيفة وتغيرت معها المعاني المحملة في مصطلح الصواب السياسي. تروي المؤرخة روث بيري في مقال لها إنه في تلك الأيام المبكرة لشيوع المصطلح شعر طرفا الصراع الاجتماعي أن الطرف الآخر يقف في وجه التحرر. فسادت بين الليبراليين عبارات مثل الحقوق المدنية وقوة السود والنسوية، في حين مثلت لجنة الأنشطة غير الأمريكية التابعة للكونغرس قلعة المحافظة ومعاداة الشيوعية. شعر كلا الطرفين أن الالتزام بالصواب السياسي مفيد للمجتمع. ولم يحتكر أي من الطرفين استخدام المصطلح الذي حظي بسمعة جيدة.
أداة للقصاص
في التسعينات شهد المصطلح تحولًا جديدًا واستخدم في سياقات جادة وساخرة ونقدية واستفهامية. لم يعد الصواب السياسي إطراءً، بل مصطلحًا محملًا بالتحيزات الحزبية، يحتكره اليسار ويبغضه اليمين. ثم عاد المصطلح إلى واجهة النقاش السياسي مع صعود ترامب للسلطة وهجومه المتواصل على الصواب السياسي ومخالفته لثوابته التي أرساها اليسار الليبرالي خلال العقدين الماضيين.
فقد عاد المصطلح للواجهة بعد ان نشر الان ديفيد بلوم الفيلسوف والاكاديمي الأمريكي كتابه (اغلاق العقل الأمريكي: كيف خذل التعليم العالي الديمقراطية واجدب أرواح الطلبة المعاصرين) والذي انتقد فيه فكرة شيوع الليبرالية (بمعناها الأمريكي) في الجامعات مؤكدا ان الممارسات الاكاديمية تقمع بحجة الصواب السياسي..
خرج المصطلح من الحوارات الحزبية واروقة المؤسسات الاكاديمية للتداول الإعلامي المفرط عندما استعمله جورج بوش الاب لانتقاد اليسار أيام إدارة المحافظين الجدد ومن هنا صار بعض اليساريين يصفون المصطلح بانه افتراء من اليمين لتشويه سمعة اليسار وانه صار يستعمل سبة يعير بها اليساريين، وربما تقدم كلمة بوش التي القاها في جامعة ميشيغان 1991 لمحة عن شكل الحوار في التسعينات حيث يقول فيها(ان فكرة الصواب السياسي قد اشعلت الجدل في البلاد وعلى الرغم من انها حركة انبثقت عن الرغبة المشكورة لإزالة ماتبقى من حطام العنصرية والتحيز الجنسي والكراهية لكنها استبدلت التعصبات القديمة باخرى جديدة فقد أعلنت ان مواضيع معينة محظورة وكذا تعبيرات معينة محظورة وحتى ايماءات معينة اصبحت محظورة وما بدا بوصفه حملة للتحضر قد تدهور ليصبح سببا للصراع بل حتى فرض الرقابة على الناس)..
في عام 1992، نشر اثنان من مؤلفي مطبوعة (هارفارد لامبون) الساخرة، هنري بيرد وكريستوفر سيرف، (القاموس والكتيب الرسمي الصائب سياسياً)، الذي مزج بين المصطلحات الفعلية لمعتقدات الصواب السياسي الشخصي التقليدية والمصطلحات الخيالية بطريقة تجعلك غير متأكد من كون أي منهما حقيقياً أم مزيفاً: الاستيعاب، والمركزية الكربونية، وغير الملائم كيميائياً، والعفيف المغاير جنسياً، والهومين (الإنسان)، والكرسي..
بعد ثلاثين عاماً، وعلى موقع (أمازون)، منح أحد الزبائن تقييماً مقلقاً بنجمة واحدة فقط لذلك الكتاب، مشيراً إلى (أنك ستقع في ورطة أكبر باستخدام هذا الكتاب مما كنت عليه من قبل). لم تعد هذه الحساسيات مادة للضحك، بل هي أداة للقصاص الأخلاقي.
خبر صحافيّ آخر يقول إن الأعمال الروائية الكلاسيكية لأغاثا كريستي، سيُعاد تحرير بعض مقاطعها ومراجعة لغتها حذفاً وصياغةً للكلمات والإحالات التي تشوبها شبهة العنصرية أو الإساءة الجارحة لقرّاء عصرنا هذا. فبعض المونولوجات الداخلية لبعض الشخصيات ستُحذف (مثلاً تلك التي تحتوي على كلمات من نوع (هذا اليهودي)، (هذا الأسود).
مفهومه اليوم بات يختلف اختلافاً بيناً، إذ أصبح يشير إلى: أي عمل أو قول يصدران عن شخص يراعي فيهما مسايرة الرأي العام حول قضية من القضايا، والمقصود بالعبارة في الخطاب العام هو مراعاة جميع شرائح المجتمع، حتى إن تطلب هذا قول ما لا يعتقد به المرء، مثلاً في الترجمات العربية الحالية أصبحت تترجم كلمة (homosexual) كـ (مثلي) بدل كلمة (شاذ) عن الطبيعة.
نددت الفيلسوفة البنيوية جوليا كريستيفا بالصواب السياسي، ولعبت كريستيفا دورا أساسيا في وضع الأساس الفلسفي حول فكرة الصواب السياسي في أمريكا، حيث ذكرت في عام 2001 في صحيفة نيويورك تايمز تنديدها بالصواب السياسي وقالت أن أعمالها تعرضت للتشويه من قبل الأميركيين. ووصفت سياسات الهوية والصواب السياسي بصفة عامة بأنها شمولية.
في كتاب إلغاء بريطانيا، يقول بيتر هيتشينز: (ما يصفه الأميركيون ببساطة صواب سياسي هو نظام فكري أكثر تعصبا يهدف للسيطرة على الجزر البريطانية منذ عهد الإصلاح).
وقد تحولت اقتراحات أوائل التسعينات المثالية أولاً إلى مبادئ توجيهية قضائية، ثم إلى قواعد صارمة تستحق انتهاكاتها فرض العقوبات القاسية. وهذا لا يترك مجالاً كبيراً للعب بالكلمات، سواء لاستثارة ضحكة مكبوتة أو لطرح نقطة أكثر عمقاً.
يبدو في رأي الكثير من المفكّرين المعاصرين أن الصواب السياسي تحوّل من حاضنة إلى مقصلة. من رغبات صادقة في محاربة الإقصاء إلى إقصاء بحدّ ذاته، يحارب كل من لا يتبنّى لغة الصواب المـُفضّلة. فإذا كان من المـُفترض بنا (حسب زعماء الصواب السياسي) أن نتكلّم بلغة معينة، أي أن نفكّر بطريقة معينة، يصبح الصواب السياسي في تمثلاّته الواقعية، قيوداً لغوية فكرية، أصبح يضيق بها الكثيرون.
هذا ما عبّرت عنه في العام 2020 العديد من الأسماء الأدبية والفكرية (حوالى 150 اسماً) في رسالة مفتوحة نُشرت في مجلة (هاربرز) سُمّيت برسالة (حول العدالة والنقاش المفتوح). دعتْ الرسالة التي كان من موقّعيها نعوم تشومسكي، ج.ك.رولينغ، ومارغريت آتوود إلى الحدّ من السلوكيات الإقصائية والمقيّدة لحرية التعبير. وجهّت الرسالة بشكل خاص نقدها صوب ما يُسمّى بـ(ثقافة الإلغاء)، تلك التي تسعى إلى معاقبة ونفي وإسكات الأصوات التي تتفوّه بما يمكن أن تعتبره محاكم الصوابية السياسية كلاماً جدلياً.
في السياق العربي ظهر الصواب السياسي في المجال العام من بوابة مواقع التواصل الاجتماعي، فبعد انزواء موجة الربيع العربي وأفول زمن القضايا السياسية الكبرى وانشغال النشطاء بالقضايا الحقوقية والاجتماعية الجزئية، ظهرت محاولات لفرض لغة معيارية جديدة تضبط الحديث عن الطبقات العاملة أو المرأة وكثر الحديث عن التنمر والعنصرية والتمييز الجنسي وغيرها من القضايا التي ارتبط تاريخيًا باليسار الليبرالي ومنظمات المجتمع المدني.
محاولة ناشطين عرب لاتباع الصواب السياسي، بوصفه آخر منجزات الليبرالية، ليس فقط غير فعّال في الشرط العربي، بل يدلّ على عدم إدراك للمشاكل البنيوية للمنظومة العالمية، في كل مستوياتها الاقتصادية والسياسية والأيديولوجية. فالنموذج الليبرالي الجاهز، والمنتصر عالمياً، الذي ظن كثيرون، في بدايات الربيع العربي، أنهم سيصلون إليه تدريجياً، بعد إزاحة الحكام المستبدين، لم يعد موجوداً بكل بساطة، كما أن العالم العربي لا يقبع في موقع بدائي في خط التطور التاريخي الحتمي، بل هو معاصر جداً، بكل مشاكله وأزماته، ولن يجد في دول متقدمة دليلاً لحلها.
الجدل الذي يثيره هذا المصطلح دائمًا يتمحور حول مدى قدرة اللغة المستخدمة في الخطاب على التأثير في المعتقدات ووجهات النظر العامة وإحداث تغيير في الواقع.
لغويًا، يبدو أن ممارسة ما يسمى بالـ (الصواب السياسي) نابعة من الرغبة في محاربة إقصاء المجموعات الهوياتية المختلفة عبر استخدامات اللغة. وفقًا لفرضية سابير-وورف، فإن منظورنا للحقيقة تحدده عمليات التفكير لدينا والتي بدورها تتأثر بطرق استخدامنا للغة. وبهذه الطريقة تشكل اللغة الواقع وتملي علينا كيفية التفكير في الواقع والتصرف حياله. تكشف اللغة كذلك عن تحيزاتنا وتعززها. ولهذا وفقًا لهذه الأطروحة، فإن استخدام لغة قائمة على التمييز الجنسي تعزز الإقصاء الجنسي واستخدام لغة عنصرية تجذر العنصرية.
يرى مناصرو الصواب السياسي أن منظورنا للأشخاص والفئات المختلفة يتأثر تأثيرًا كبيرًا باللغة التي نسمعها ونستخدمها عنهم. وبهذا تستطيع اللغة قاصدة أو ساهية أن تكشف عن تحيزات المرء ضد الهويات المختلفة أو تعززها. ولهذا تمنع اللغة التي تنضبط بضوابط الصواب السياسي إقصاء هذه المجموعات وتهميشها.
في حين يرى مناوئو الصواب السياسي نوعًا من الحظر والرقابة على استخدام اللغة ومقيدًا لحرية التعبير يفرض حدودًا ثقيلة على النقاشات في المجال العام. ويرون أن مثل هذه القيود اللغوية تؤدي في النهاية لرقابة ذاتية وقيود على السلوك. ويرون أن الصواب السياسي يفترض وجود لغة عدائية في مواطئ لا توجد فيها هذه اللغة في الأساس. في حين يعتقد آخرون أن الصواب السياسي استخدم كفزاعة لإيقاف المحاولات المشروعة لدحض خطاب الكراهية وتقليل ممارسات الإقصاء اللغوي.
اللغة والرموز والمصطلحات وغالبية وسائل التواصل اليومي تعد جزءا رئيسا في الاجتماع المعرفي والأيديولوجي لأي مجتمع، إذ هي بحسب بندكت أندرسن إحدى مراحل تحوّل الجماعات المُتخيلة إلى جماعات مادية لها فاعليتها التاريخية الواعية بذاتها، إلا أنها بالكيفية نفسها مساحات صراع وتنافس بين الفاعلين الأيديولوجيين داخل الجماعة والمجتمع نفسه، فاللغة -والرموز والمصطلحات المستخدمة داخلها- كما هي وسيلة للتواصل هي أيضا وسيلة أساسية في الهيمنة والضبط الاجتماعي وتشكيل الخيال الاجتماعي.
ومع هيمنة الأيديولوجيا الليبرالية الفردانية عالميا منذ نهاية الحرب الباردة ومع انتشار عقيدة الحرب على الإرهاب تم استيعاب الخطاب السياسي العالمي داخل القاموس الأيديولوجي لليبرالية، ومع استمرار تصاعد النزعة الليبرالية والفردانية عبر العالم تم احتواء العديد من الأيديولوجيات المنافسة بالفعل داخل الليبرالية، فظهر ما تم تسميته باليسار الليبرالي والإسلام الليبرالي كدليل واضح على الهيمنة الليبرالية على العالم اليوم.
سطوة أيديولوجية
في هذا السياق التاريخي، تأتي ظاهرة الصوابية السياسية كإحدى المراحل المُتقدمة للهيمنة الليبرالية، حيث تمارس العديد من التيارات الليبرالية من اليسار واليمين المراقبة الأيديولوجية نفسها على اللغة السياسية وحتى اليومية والقيام بعملية عزل للكلمات والمصطلحات التي ترى تلك التيارات أنها تخالف قاموسها الخاص بالكلمات الصحيحة حسب الرؤية الليبرالية الفردانية للعالم.
فالصوابية السياسية، بحسب تحليلات، هي حزمة من المقولات المعيارية، تُشكّل الرؤية العامة للحياة المؤسساتية وحتى الاجتماعية واليومية باعتبارها تعبيرا عن الثقافة الأسمى أو نمط الحياة الأكثر رُقيا، وهي مقولات ذات سطوة أيديولوجية وجاذبية صالحة للاستخدام في كل نقاش سياسي أو اجتماعي أو حقوقي، ومن يخالفها أو يتحفظ عليها يكون عرضة للاتهام بكونه رجعيا أو ذكوريا أو عنصريا أو يعاني من (رهاب المثلية) مثلا أو خلاف ذلك من وسائل التكفير العلماني الليبرالي.
بحسب الباحث السوري سامي الكيال تعد المنظمات غير الحكومية وحشودها من النشطاء الحقوقيين الليبراليين أحد الأجهزة الأيديولوجية التي تعمل على فرض قاموس الصوابية السياسية في العديد من دول العالم، إلا أنها على الرغم من أنها غير حكومية وتطرح خطابا أخلاقيا وغير سياسي فإنها تقوم بدور سُلطوي بالغ الخطورة، فهي (لا تطرح نفسها بوصفها جمعيات سياسية أو أيديولوجية، رغم الدور السياسي الكبير الذي تمارسه، بل تقدم ذاتها من خلال مفاهيم حقوقية وإنسانية وخيرية بحتة، بريئة من الهوى الأيديولوجي، تطرح فيها قاموسها الحقوقي الليبرالي الفرداني بشكل تقني غير قابل للنقاش السياسي، ما ينفي إمكانية وجود رأي آخر من الأساس، فالاعتراض على هذه المفاهيم يعني الجهل الحقوقي، وانعدام الكفاءة الفكرية والاجتماعية).
هكذا تلعب هذه المنظمات دورا تربويا، يعمل على إعادة تأهيل البشر، وتوعيتهم بقيم جاهزة وصحيحة تعريفا، وبما أنه لا يوجد نقاش، بل اكتساب للأفكار والمفاهيم، فلا داعي لاستفتاء قبول هذه الأفكار لدى المواطنين بالطرق الديمقراطية الاعتيادية، مثل التصويت العام، والانتخابات الحزبية والنقابية. وبحسب الفيلسوف النمساوي روبرت بافلر فإن الصوابية السياسية تحوّل المواطنين إلى أطفال عن طريق (سحب الأهلية منهم، واعتبارهم غير مُؤهلين لمواجهة ظروف الحياة ولا يستطيعون التعبير عن أنفسهم، ولا بد دوما من حمايتهم وفرض الوصاية عليهم عن طريق مراقبة اللغة وحتى الفنون المختلفة وأساليب السلوك).
وفي استشراف ثاقب، تخيل الأناركي الروسي ميخائيل باكونين قبل ما يزيد على قرنين مصير المجتمعات في الديمقراطيات الليبرالية بخضوعها تحت رحمة التقنيين والخبراء الذين يحكمون باسم العلم والعقل والتسامح الإنساني، وهو مجتمع تنتفي فيه الحريات الاجتماعية والسياسية بالضرورة، (فقضايا المجتمع والسياسة ليست مسائل علمية ورياضية بسيطة، وما يُطرح بوصفه الحل التكنوقراطي أو الحل العلمي أو حتى الحل الأخلاقي غالبا ما يكون نتيجة لتحيزات أيديولوجية ما، تدفعها مصالح اجتماعية وطبقية محددة) كما يؤكد الفيلسوف الألماني يورغن هابرماس، فالمجال العام ليس حكرا على فئة شبه كهنوتية من الخبراء، وهذا يعني اعتبار المواطنين ذواتا حرة وعقلانية، وليسوا مجموعة من القُصّر الذين يجب إعادة تأهيلهم ليرتقوا إلى مستوى الأيديولوجيا السائدة.
تغيير اللغة لا يغير النتائج
يحاول عالم النفس جوناثان هايدت تفسير ظهور هذا الجيل الجديد من الصوابيين الحسّاسين. يعزو الأمر إلى بداية التسعينات، عندما بدأت وسائل التربية تتجه صوب حماية وصائية أكبر للأطفال، وازداد منسوب العزلة بسبب انتشار الانترنت ووسائل التواصل الاجتماعي. ما سبق ساهم في خلق جيل جديد أكثر هشاشة. جيل يستحبّ العيش في فقاعة خالية من مطبّات الحياة وإساءاتها، بما في ذلك اللغوية. يدعو هايدت وسواه إلى تغيير ذلك المنحى الطفولي في التعاطي مع الواقع.
أخيراً، يضيف المعارضون للصوابية أن إخبار الناس أنّه من الخاطئ التعبير اجتماعياً عن آراء ومعتقدات غير مقبولة، لن يساهم بذهاب هذه الآراء والمعتقدات في الأصل؛ بمعنى أنه عندما يُطلق لقب (لا يمتلك منزلاً مؤقتاً) بدلا مِن لقب (مشرد) لن يساهم في حل مشكلة الفقر وإيجاد فرص عمل ومسكن له، أي أن اللغة هنا لم تساعد بتغيير النتائج.
بمعنى أنه قد تنجح الصوابية في جعل بعض الناس يبلعون كلماتهم غير المنمقة بناءً على استجابات اجتماعية، لكن ذلك لن ينهي الدوافع والمعتقدات التي يملكونها والتي حثتهم على نطق ذلك، ولربما سيختزنون هذه المصطلحات في داخلهم حتى تختمر أكثر وتصبح أكثر سماً وفتكاً و(لا صوابيةً سياسيةً).
وجد الباحثون في جامعة كاليفورنيا أن استبدال كلمة مُنمقة صائبة سياسياً مع كلمة أخرى قاسية غير صائبة، على سبيل المثال كلمة اللاجئين (غير الشرعيين) واللاجئين (غير الموثوقين) يجعل من الناس يرون في المتحدث شخصاً أكثر صدقاً وأقل عرضة لأن يتطفل على الآخرين.
إذ تقول الأستاذة الباحثة (جوليانا شرويدير) أنّ تكلفة استخدام مصطلحات غير مُنمقة سياسياً يجعل من المتكلم يبدو أقل دفئاً وتخطيطاً لكنه يكسب كونه حقيقياً صادقاً، وذلك بعد إجراء ما يقرب من 9 تجارب على 5000 متطوع، نشرت نتائجها في المجلة الشخصية للعلوم الاجتماعية وأضافت بالقول أنّ الناس عندها قد يترددون في تأييد القادة الأكثر صواباً سياسياً لأنهم يرون فيهم أكثر التصاقاً بالتوجهات التي يملكونها، والتي قد تظهرهم في بعض الأحيان غير حقيقين أو مُدّعين.
وعلى الرغم من أن الدفاع عن هذا المفهوم مرتبط بالليبراليين وأن نقده مرتبط بالمحافظين، فقد وجدت الباحثة أنه لا ارتباط بين حقيقية المفهوم وبين التوجه، وأن كلا الطرفين متساويين في مستوى الإهانة باللغة غير المنمقة. فهناك مرادفات غير صائبة تستخدم لإهانات المحافظين أيضاً من نمط (أنجيلي) أو (أبيض معتوه).
ويضيف (بيركلي هاس) أحد الباحثين المساهمين في الدراسة أنّ (عدم الصوابية السياسية) يمارس مع الجماعات التي يشعر تجاهها الليبراليون بالشفقة، كالميولات الجنسية المختلفة، والمهاجرين، فينظرون إلى تلك التعاملات بسلبية، بينما المحافظين يرونها بصدق كما هي.
ويقول أيضاً أنهم قد وجدوا أنّ العكس صحيح أيضاً، فعندما تُمارس لغة مسيئة ضد جماعات يرى المحافظون تعاطفاً معها، يكون الليبراليون هنا هم الصادقون الحقيقيون.
سأل الباحثون المشاركون مِن مختلف التوجهات العقائدية للحديث عن مفهومهم وكيف يعرّفون الصوابية السياسية، التعريف الذي ظهر كان أنها استخدام لغة أو سلوك يكون حساساً لمشاعر الآخرين. خصوصاً الآخرين الذين قد يكونون أدنى في شيء ما. ومن أجل دراسة الظاهرة على مختلف الطيف السياسي، تم التركيز على عناوين معينة، مثلاً المهاجرين غير الشرعيين، ولافتات من نمط المهاجرين يدمرون أمريكا وما إلى هنالك.
الأمر الذي سمح بقياس ردة فعل المشاركين عند تغير كلمات معينة أو عبارة لها علاقة بتحديد الهوية وما شابه، وقد وجدوا أن معظم الناس سواءً كانوا ليبراليين أو محافظين، يرون البيانات والأوصاف غير الأنيقة سياسياً على أنها أكثر دقة ومصداقية. وقيل أنّه بالإمكان أيضاً توقّع بقية آراء ومعتقدات القادة غير المنمقين سياسياً.
ومن خلال التجربة في نفس البحث، وجد الباحثون أن استخدام لغة لينة سياسياً يُعطي وهماً بأن المتكلم يمكن أن يتم خداعه وأن يتأثر بسهولة. إذ تم سؤال 500 زوج من الناس قبل التجربة عن بعض المواضيع والمناظرات التي خاضوها أونلاين واختلفوا بشأنها: كتمويل بناء الكنائس للناس الأفارقة (تم اختيار هذا الموضوع تحديداً لأنه له نسبة 50 / 50 من المؤيدين والمعارضين، فالانقسام فيه حاد. كما أنه لا يوجد اختلافات كبرى لدى كل من معارضيه ومؤيديه، ولكونه قد شاركت فيه أقليات من عدة أديان ومعتقدات). وقبل بداية المناظرات في هذه الموضوع، تم توجيه كل فرد من الأزواج الـ 500 لاستخدام لغة صائبة أو غير صائبة سياسية في إيضاح وجهة نظره للآخر.
بعد هذا، اعتقد الناس أنهم قاموا بإقناع أكثر دقة وأفضل للأفراد الذين كانوا يستخدمون لغة منمقة سياسياً في حين غير الصائبين كانوا أصعب للإقناع والتأثر. بينما المشاركين أنفسهم كانوا يرون أن فرصة الإقناع كانت متساوية في كلا الطرفين، سواء بصوابية أو بدونها. وقال أحد الباحثين أن هناك تصورا مسبقا في أن من يتكلمون بصوابية هم أكثر قدرة على الإقناع، لكن النتيجة لم تكن بصالح ذلك.
خلاصة الأمر، أن القادة العنيفين في كلامهم يجعلهم ذلك أكثر شعبيةً في بعض المواقف، خصوصاً فيما يتعلق بموضوع الصراحة والأصالة. كما وجدت الدراسة أن اللغة غير المنمقة سياسياً تعطي انطباعاً بارداً عن صاحبها، وأنه غير متحمس للحوار أو الجدل أو تغيير قناعات أحد، مما يعطيه مظهر المقتنع بأفكاره، عكس ما يفعل المتحمسون للطرف الآخر.
اضف تعليق