العراقي الذي يعيش في الخارج كان يجد صعوبة في اقناع أصدقائه غير العراقيين بحقيقة ما كان يجري في العراق، لانهم يعتبرون ذلك كلام معارضٍ خالٍ من الصدقية، أو أنهم مستفيدون أو مبهورون بالوهج الخارجي لصدام، اللافت أن بعض العراقيين كانوا وما زالوا يحنون لذلك النظام...
فجر الثلاثين من كانون الأول 2006، طوى صفحة دكتاتور أذاق العراقيين الويلات على مدى عقود. تحرر الكثيرون من خوف متوطن من أن يعود صدام إلى الحكم بلعبة دولية وينتقم من الشعب كما فعل بعد انتفاضة العام 1990، ولم يعد بعض المتوجسين يخفض صوته عندما يذكر اسم ذلك الحاكم الذي فاق بقسوته كل جبابرة التاريخ. شاهده الجميع جثة هامدة لم ينفع معها كل المدعين بأن من قتل هو شبيهه.
في ذلك الفجر كنت في قناة الحرّة في واشنطن مديراً لقسم العراق.
تم دمج بث القناتين العامة والعراق، فمثل هذا الحدث لا يهم العراقيين وحدهم بل كل العرب والعالم بين سعيد به وغاضب أو حزين لأسباب تتنوع بين الطائفي والسياسي. كنت أعددت مجموعة أفلام وثائقية تعرض جرائم ذلك النظام لعرضها يوم الإعدام. تابعنا المفاوضات الطويلة بين الأميركان ووفد يمثل رئيس الوزراء السيد المالكي آنذاك.
كنت على تواصل مع أحد أعضاء الوفد الذي يخبرني بما جرى بعد كل جولة مفاوضات وتجاذب، حاول فيه الجانب الأميركي تأجيل التنفيذ، حتى وافقوا على تسليمه قبيل الفجر.
كنت على الهواء مباشرة بانتظار اعلان التنفيذ، الذي علمنا انه حتمي، وكان مكتبنا في بغداد ينتظر الخبر من داخل مكان الإعدام ليبلغه لنا، ووصلنا أخيرا وحرصت على إعلانه بنفسي.
وأنا أقرأ الخبر مرّ أمامي شريط سريع لبعض ما مررنا به، وهو ما ترك – كما يبدو- نبرة فرح في صوتي، ما أزعج زميلتي المذيعة التونسية، التي شكتني إلى المدير العام لاحقا قبل أن تنهار بالبكاء حزناً على صدام.
لم تكن وحدها حزينة، بل بدا الحزن على وجوه الكثير من الزملاء العرب.
المدير الأميركي الذي شكرني في البداية على دقة التغطية وتحقيق السبق في الإعلان، سرعان ما انقلب موقفه وبدا منزعجا بعدما تلقى اتصالات من أصدقاء فلسطينيين واردنيين منذ أن كان يعمل في مكتب سي ان ان هناك سابقا، فأمر بإلغاء كل الوثائقيات المعدّة للعرض ووجّه لي الاتهام الطائفي العربي نفسه (نقلا عن أصدقائه طبعا).
أغلب العرب حزنوا لإعدام صدام الذي كان يغدق على كثير منهم الأموال فيما كان يحرم العراقيين ويقتلهم ويذلّهم. في سنوات الحصار كان العرب يدرسون في الجامعات العراقية مع راتب 200 دولار، فيما كان راتب الموظف العراقي لا يتجاوز الدولارين، والعراقيون يبيعون أبواب بيوتهم وشبابيكها ليطعموا أطفالهم، فكيف لا يحزن العرب على الإطاحة به؟
أغلب الشعوب العربية أنهكت روحها هزائم الحكومات التي أبقت مستوى السذاجة والجهل بمستوى يجعلهم ينظرون لعنتريات صدام وحروبه الاجرامية كبطولات عظيمة، دون أن يفكروا بما آلت اليه حماقاته وحروبه من دمار للعراق.
لا ننسى هنا البعد الطائفي في كثير من الدعم العربي الشعبي لصدام ونظامه الي يستمر كثير منه إلى الآن ممزوجا بحقد على النظام الذي خلفه.
مما فعله صدام مثلا انه تولى بناء مجمعات سكنية جرى توزيعها بين الصحافيين الأردنيين الذين تحولوا جميعا إلى مطبلين له، مستفيدين من موقف نظامهم السياسي الداعم والمستفيد من ذلك النظام.
في فلسطين كانت هناك لجنة تمثله توزع الأموال بين ضحايا الممارسات الإسرائيلية من شهداء وجرحى.
بات الامر آنذاك تجارة رابحة، فيقوم الشاب بجرح نفسه ليستلم من تلك اللجنة مبالغ كبيرة باعتباره جريحا في العمليات العسكرية.
لم يكن أغلب العرب يعرفون حقيقة ذلك النظام، ولم يكن يسمح لإعلام أن ينقل الحقيقة، فالعراقيون كانوا معزولين عن العالم تماما.
العراقي الذي يعيش في الخارج كان يجد صعوبة في اقناع أصدقائه غير العراقيين بحقيقة ما كان يجري في العراق، لانهم يعتبرون ذلك كلام معارضٍ خالٍ من الصدقية، أو أنهم مستفيدون أو مبهورون بالوهج الخارجي لصدام.
اللافت أن بعض العراقيين كانوا وما زالوا يحنون لذلك النظام، رغم انهم يتمتعون بكل وسائل الحياة التي حرمهم منها صدام، ورغم ممارستهم حرية التعبير وحتى السب والشتم مما كان بعضه يودي بهم إلى الإعدام سابقاً... ربما هو إدمان العبودية!.
اضف تعليق