“إنّ القيم التي نبشّر بها قيمٌ مخصوصة بنا، لا بغيرنا، قيم تنسحب أفضالُها علينا، لا على غيرنا”، هكذا كتب هانتغتون قبل عقدين. وخلال هذين العقدين وما قبلهما شهدنا الكثير مما يثبت هذه المقولة، لكن الحرب على غزَّة اليوم قدمت المصداق الأحدث والأوضح لها...
“إنّ القيم التي نبشّر بها قيمٌ مخصوصة بنا، لا بغيرنا، قيم تنسحب أفضالُها علينا، لا على غيرنا”، هكذا كتب هانتغتون قبل عقدين. وخلال هذين العقدين وما قبلهما شهدنا الكثير مما يثبت هذه المقولة، لكن الحرب على غزَّة اليوم قدمت المصداق الأحدث والأوضح لها.
فالسياسة الغربية وتوابعها في العالم، بما في ذلك الساحة العربية، تشهد تضافر جهود غير مسبوق بين الماكنة السياسية والإعلامية في تعاطيها مع الجرائم المروعة، التي ترتكبها إسرائيل ضد سكان غزَّة، تبريراً وتعتيماً أسقط ما تبقى من ثقة بشعارات حقوق الانسان والقانون الدولي والمهنية الإعلامية، والاخلاقيات التي قال هانتغتون انها تخص هذه المجتمعات فقط.
فهي – بوضوح- غطاء لمصالحهم ولا قيمة لها في تعاملهم مع شعوب العالم ودوله. لكن السؤال هنا: لماذا ينساق سياسيون ومدّعو ثقافة في دول العالم غير الغربي (ومنه العربي)، وراء سياسات وإدعاءات، تخص مصالح هذا العالم، فيكونون أدوات مساهمة في قتل شعوبهم وتدمير بلدانهم؟.
حرب غزَّة عززت مقولة إن الإعلام في الغرب هو أيضا أداة بيد السياسة، وإن هذا الارتباط لا يخص الدول غير الديمقراطية فقط. ففي الأخيرة أنظمة فردية تصادر البلاد والعباد لمصلحة الحزب الحاكم أو عائلة الرئيس، بينما في الغرب يكون المحرك للإعلام هو جهات عابرة للدول تسيطر على الساحات السياسية والإعلاميَّة والاقتصاديَّة، على رأسها الحركة الصهيونيَّة وواجهاتها المختلفة، التي تمارس الابتزاز مستخدمة سلاح “معاداة السامية” لفرض ارادتها الخاصة بمصلحة إسرائيل.
أما الغرب الذي تورط في ما مضى باضطهاد اليهود وقتلهم، بدءًا من ألمانيا وصولاً إلى بلدان أوروبية عديدة، فقد بات أسير “الاستغفار” العملي عما فعل، ولكن عبر ارتكاب جريمة إبادة جماعية بحق شعب آخر هو الشعب الفلسطيني.
بريطانيا تبرعت ببلد كانت تحتله (فلسطين)، إلى الحركة الصهيونية (التي أسسها مسيحيون) بحجة تجميع اليهود، واختُلِقت الأساطير الدينية، التي تبرر تهجير أهل فلسطين ونهب ممتلكاتهم، بدعم كامل من دول تدعي عراقة ديمقراطيتها وقيمها “الأخلاقية”.
بات الغرب كله يحاول التكفير عما فعله ضد اليهود بدعم كيان اختلقوه قائم على انتهاك كل القيم الإنسانية والقوانين الدولية.
ألمانيا صاحبة المحرقة “تكفّر” عما فعلته، بدعم مفتوح لهذا الكيان، سياسيا وعسكرياً وإعلامياً، لدرجة أن المستشار الألماني، الذي يرى كل هذه المجازر بحق المدنيين في عزة، يعلن وبكل صلف أنه لن يسمح لتظاهرات المسلمين المعادية للسامية، وأنه يفي بوعد قدمته ألمانيا لإسرائيل.
نعم هو يصفها بـ”المعادية للسامية”، لأنها تستنكر قصف المدنيين وقتل الأطفال في المستشفيات، وهي تظاهرات عامة اشترك فيها ألمان مسيحيون وملحدون، وحتى يهود معارضون لإسرائيل إضافة إلى المسلمين.
في الساحة الأميركية، فإن مناصرة إسرائيل وتبرير جرائمها في غزَّة باتت موضوعة سباق بين الحزبين المتنافسين على الرئاسة، بل إن البعض فقد وظيفته بسبب انتقاده جريمة الإبادة والتطهير العرقي في غزَّة. أما الإعلام الأميركي فهو موحد في اتباع منهج التعتيم على حقيقة ما يجري مع تباينات تخص طبيعة المؤسسة الإعلامية وتوجهاتها.
فمثلا تسمح بعض محطات التلفزة بطرح وجهات نظر أخرى، لكنها تبقي الارجحية للموقف الإسرائيلي.
صحافية كبيرة مثل “كرستيان أمانبور”، التي غطّت الكثير من جرائم الإبادة الجماعية في العالم ومنها مجزرة سربنيتشا في البوسنة أوائل تسعينيات القرن الماضي وقفت عاجزة أمام رئيس الكيان الإسرائيلي، وهو يهاجمها ويتهمها بالانحياز، ولم تستطع الرد بأكثر من عبارة “لا أقبل منك هذا”.
الأدهى من موقف الاعلام الغربي هو موقف بعض الاعلام العربي، فمحطة مثل “العربية” لم تكتفِ بإدانات ضمنية للمقاومة الفلسطينيَّة، بل إنها تستضيف “محللًا عسكريًّا” عربياً ليقول إن المستشفيات في غزَّة تحتها على الأغلب أنفاق هي مقرات لقيادات حماس، وكأنه يرشد القوات الإسرائيلية، ويبرر قصفها لهذه المستشفيات.
الغرب، وأنظمة في الشرق كلها تتضافر في دعم الجرائم المروعة التي يتعرض لها أهالي غزَّة.
اضف تعليق