لعبت السياسات الأمريكية الموجهة في العراق دورا بارزا في هذا التشرذم والانقسام سواء أكان بصورة مباشرة أو غير مباشرة، وذلك من خلال تحفيز تضارب الرؤى بين الفرقاء ومحاباة جهة ومعاداة جهة أخرى لا تمضي بنهجها ولا تجري بهواها. سيبقى النزاع السياسي قائما طالما غاب من يرعى ويسعى في...
لماذا تغير الرأي العام العراقي سلبيا تجاه السياسات الامريكية؟
هل سيؤثر هذا التحول على رؤية صانع القرار الامريكي تجاه العراق؟
لم يمتلك المحتل الأمريكي قلوب العراقيين ولا عقولهم كما كان يدعي منذ البدء، بل أبقى على معاناتهم التي ابتلوا بها منذ حين، اي منذ زمن قبل التغيير الديمقراطي في عام 2003م. ربما تباينت بعض المظاهر والصور في طبيعة ارهاصات العراقيين ومتاعبهم بعد التغيير، لكن جوهر الأمور وحالة عدم الرضا وعدم القناعة بقت عناوين لحالتهم المتأزمة المزمنة.
بينت استطلاعات الرأي المحايدة كاستطلاعات مؤسسة "غالوب" العالمية هذا المنح حيث أبدى ما يقارب ثلث المستطلعين العراقيين ألا فرق لديهم في معاناتهم بين السابق والحاضر أي بين فترة ما قبل عام 2003م وما بعدها، في حين صرح الثلث المستطلع الثاني أن الفترة السابقة للتغيير كانت أفضل مما تلاها وما آلت إليه الأحوال في يومنا هذا، بينما كان الرأي المناقض حصة الثلث الأخير من المستطلعين الذين يرون تحسنا في الأوضاع بشكل عام.
الإستنتاج النهائي من هذه الاستطلاعات يشير إلى وجود خيبة أمل محسوسة ومعبرة لدى المواطن العراقي عن حالته التي كان يطمح أن تكون افضل بكثير مما يشهده ويراه اليوم. لم يحصل التغير الجذري الموعود في طبيعة الخدمات ولا في أركان الحياة السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية والصحية والنفسية والأمنية وغيرها.
خيبة الأمل العراقية من السياسات الأمريكية اتجاه العراق مبنية على أسباب وأسس وحقائق تكشفت وتتكشف يوما بعد يوم، نوجز منها ما يلي:
أولا/ إكتشاف كنه وحقيقة السياسات الأمريكية في العراق: بينت التصرفات الأمريكية في العراق ومنذ البداية على "مركزية الايجو" لدى المحتل اي حالة الأنانية والانا والاهتمام بالمصالح الذاتية دون غيرها. لم يعالج الأمريكان مواجع العراقيين ولم يرفعوا عنهم همومهم التي صنعوا أسبابها بأنفسهم. بقت البنى الفوقية والتحتية في العراق على حالها كما هي، لم تتغير إن لم تكن قد ساءت وتدهورت، كما لم تتوقف هواجس العراقيين ومخاوفهم من عدم الإستقرار في الحالة السياسية والأمنية، ولم تجتاز شرائح واسعة من المجتمع أعتاب الجهل والعوز والفاقة. في حين بقت الخدمات مختلة مضطربة غير فعالة وبقي العراقي قلقا متحسبا مرتابا من المستقبل. الشعارات التي حملها الأمريكيون في العراق والمتمثلة بالرفاه والإستقرار والحرية والتقدم والازدهار لم تر النور على أرض الواقع، بل ترجمت إلى اوهام ووعود كاذبة.
ثانيا/ التوجس من مخاطر الديمقراطية: تفهم الشارع العراقي بأن الديمقراطية التي وصفت له على عجل هي فخ قد وقع فيه قد لا يجد منه مخرجا. الديمقراطية كالثوب الذي يجب تفصيله على أساس قياسات الجسد، لا يهدى عشوائيا حيث قد يكون طويلا فيحصل التعثر به والسقوط أو قد يكون قصيرا فتظهر المكامن والعيوب. الديمقراطية الناجعة تستقر في ساحات الوعي والمعرفة والثقافة وفي المجتمعات المستقرة المنسجمة مع بعضها لا المتباينة عرقيا ولغويا وطائفيا وفكريا، ولا المختلفة بولاءاتها وانتماءاتها وارداتها.
الديمقراطية المنظمة هي التي يقودها من ينكر الذات من أجل الوطن، ويخشى غضب الله وسخط الوطن وتأنيب الضمير، الذي يحمل الخبرة والكفاءة والاختصاص والرقي الأخلاقي والإنساني، لا من يلهث وراء مصالحه الشخصية والكسب والإستفادة وخيانة الأمانة والمسؤولية. الديمقراطية القائمة هي التي لا تستثني أحدا من الشعب ولا تنكر حق أحد ولا تصادر خدمات أحد ولا تتعامل بالمحسوبية والمنسوبية، بل تضع الرجل المناسب في مكانه المناسب.
الديمقراطية المؤثرة هي التي لا تتأثر بسياسات من يحيط بها من بلدان ولا تعكس نقاط اختلافات تلك البلدان على وضعها الذاتي الداخلي، ولا تسخر نفسها كساحة صراع ونزاع بين المتصارعين والمتنازعين حولها. لم تسر السياسات الأمريكية في العراق بالاتجاه المطلوب والنهج الصحيح، حيث لم تشجع ولم تحفز على ما ينبغي أن يحصل ويكون، بل تماماً كان العكس، فقد حفزت على خلق الفرقة والكراهية والانقسام في رؤى المجتمع الواحد من خلال وضع نظم المحاصصة السياسية وفقا للفوارق الطائفية والعرقية واللغوية، فتعمقت الهوة وتوسع الشق!
ثالثا/ المستقبل الغامض في العراق: بدأ العراقيون يدركون بأن الأمريكيين قد وضعوا بلدهم في نفق مظلم لا بصيص فيه من نور، صار العراقي يخشى فيه على مستقبله ومستقبل أبنائه. لا المحتل بنفسه الذي قاد عملية التغيير ولا الذي اصطفاه ممن صار بيده الامر والنهي وتربع على أركان السلطة وعلى إدارة شؤون البلاد، أبدى ويبدي اهتماماته على مستقبل البلد وعلى حالته في قابل السنين والايام. لا توجد مشاريع ستراتيحية تستشرف حاجات البلد المستقبلية بما يتماشى مع المعطيات الجديدة وضروريات المرحلة القادمة. العراق يعيش ليومه فقط دون أن ينظر إلى غده والى أفق المستقبل.
فهو لا يجيب على اي سؤال حساس ومصيري بما يخص المستقبل: ما هو البديل المادي للبترول يوم نضوبه!؟ يوم تخف الحاجة للبترول في ظل الإجراءات الحثيثة التي يجريها العالم الباحث عن الطاقة النظيفة والمستغني عن المحروقات وملوثات البيئة، ماذا سيصنع العراق لتعويض النقص في مردودات بيع البترول المالية!؟ ما إجراءات الحكومات المتعاقبة بعد التغيير، وتحت إشراف ذو الشأن من الأمريكيين، التي اتخذوها لمقارعة التصحر وشحة المياه، شؤون الصناعات المحلية والزراعية والثروة الحيوانية، مستلزمات السكن، مشكلة البطالة، الكهرباء، الماء الصالح للشرب، الصحة ومشتقاتها، هذه الأمور وغيرها من الشؤون الخدمية الحساسة بقت في حكم الغيب لا نطق ولا حراك فيها!. كل هذا يصعد في درجات القلق والتوجس والخوف من مستقبل غامض محفوف بالمخاطر والمحن.
رابعاً/ الوضع السياسي الداخلي المتأزم في العراق: لابد للباحث في الوضع السياسي الداخلي للعراق أن يستشف حالة الغليان الداخلي في نفوس العراقيين بما يشبه القنبلة الموقوتة التي لا يدري المرء متى ستنفجر. هذا الوضع هو انعكاس لحالة التشنج السياسي بين الفرقاء السياسيين في ظل انقسام الرؤى وتعدد الارادات وتباين الولاءات. لا يقتصر وجود التباين السياسي المبني على الطائفة والعرق فحسب، إنما يتعدى ذلك بانقسام ذاتي داخل الطائفة الواحدة والعرق الواحد أيضا! هذا ينذر بعواقب وخيمة لا تحمد عقباها ومهما تأخرت في وقت حدوثها ستبقى واردة وقائمة.
لعبت السياسات الأمريكية الموجهة في العراق دورا بارزا في هذا التشرذم والانقسام سواء أكان بصورة مباشرة أو غير مباشرة، وذلك من خلال تحفيز تضارب الرؤى بين الفرقاء ومحاباة جهة ومعاداة جهة أخرى لا تمضي بنهجها ولا تجري بهواها. سيبقى النزاع السياسي قائما طالما غاب من يرعى ويسعى في تحقيق الوئام ويقرب بين وجهات النظر المتباينة ويشجع على مبدأ الوسطية وتفهم واحترام الآخر. لا يوجد في تاريخ السياسة الأمريكية نهج المصالحة بين الأطراف المتنازعة وخلق السلام بينها، إنما الحالة تشير الى العكس! فلو تصرفت امريكا في سياساتها إزاء أزمات العالم ونزاعاتها كما تصرفت الصين حينما احتوت كل من إيران والمملكة العربية السعودية في مجموعة دول الـ "بريكس" الاقتصادية وصالحت بينهما، لساد السلام داخل بلدان العالم وفيما بينها، ولما حصلت حروب الخليج المتعددة ولا الحرب الروسية الجورجية ولا حرب أرمينيا واذربيجان بل ولا حتى الحرب الروسية الأوكرانية!
كل هذه الأدوار السلبية وغيرها التي مارستها السياسة الأمريكية في العراق منذ أن تدخلت بشكل مباشر في شؤونه السياسية وتحت يافطة الديمقراطية الارتجالية والانفعالية، أدت كلها إلى ما وصل العراق اليه والى اليأس الذي رسا في نفوس أكثر العراقيين، بل والى زعزعة الثقة في الاعماق والى انقلاب رؤى العراقيين إزاء النوايا الحقيقية للسياسات الأمريكية في العراق بشكل خاص وفي المنطقة بشكل عام، حيث أن المجرب لا يجرب!
اضف تعليق