يعتبر استشراف المستقبل خطوة ومرحلة هامة وحساسة تسبق الخطط الاستراتيجية للدولة ومشاريعها المستقبلية. رغم أهمية الاستشراف المستقبلي في إصلاح الخلل وإقرار الصح في التعاملات المختلفة المتعلقة في المشاريع المستقبلية والخطط الستراتيجية للدول، يبقى الإهتمام في هذا الشأن متباينا بين الدول. من الدول من تستثمر الفوائد المنبعثة من هذه...
كيف يؤدي الاستغراق في عالم الأشياء الى الوقوع في متوالية الكوارث؟
وكيف يمكن لعالم الأفكار ان يستشرف المستقبل ويكتشف المخاطر؟
وماهي الآليات الفكرية اللازمة لبناء منظومة استشراف وتنبؤ بالمستقبل؟
استشراف أحداث المستقبل ومتغيراته له أثر كبير في استباق الأحداث من أجل العمل على تصحيح الأخطاء وتجنب الخلل والتمسك بالصلاح. الفهم المبكر للمتغيرات الظرفية والأحداث المستقبلية يعتمد على التحليل العلمي والفكري الرصين لأهل الاختصاص وعلى المعطيات النوعية والكمية الصحيحة المتوفرة وعلى الوسائل والتجارب والمهارات.
استشراف المستقبل هو فعل ضروري وهام على الصعيد الفردي والمؤسساتي للدولة، لأنه بحث واستنباط معتمد على معطيات علمية موثقة يؤدي إلى كشف المتغيرات الظرفية المستقبلية ويحضر الساحة لمواجهتها والتعامل معها. الاستشراف الناجز يسلط الضوء على مجريات الأحداث المستقبلية ضمن المديات المنظورة والبعيدة، ويسهل في كشف العقبات والتعقيدات والغموض ويجد الحلول البديلة الملائمة لها كي يستمر المشروع المستقبلي دون تلكؤ أو مفاجآت غير محسوبة.
استشراف المستقبل لا يعتمد على جانب معين من جوانب الحياة فقط، وانما هو فعل ضروري وحاجة ماسة في كل جانب من جوانب الحياة وخصوصياتها وبكل ركن من اركانها وناصية من نواصيها. هو ضرورة ملحة في كل مؤسسات الدولة وبناها الفوقية والتحتية، كالمؤسسات السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية والتربوية والصحية والبيئية والعسكرية والأمنية، إضافة إلى الأعمار والصناعة والتجارة والزراعة وغيرها.
على هذا الأساس يعتبر استشراف المستقبل خطوة ومرحلة هامة وحساسة تسبق الخطط الاستراتيجية للدولة ومشاريعها المستقبلية. رغم أهمية الاستشراف المستقبلي في إصلاح الخلل وإقرار الصح في التعاملات المختلفة المتعلقة في المشاريع المستقبلية والخطط الستراتيجية للدول، يبقى الإهتمام في هذا الشأن متباينا بين الدول. من الدول من تستثمر الفوائد المنبعثة من هذه الممارسة الهادفة ومنها ما لا تولي أهمية محسوسة بهذا الشأن!
كثير من الأمراض المعدية والأوبئة استشرفها علماء الطب وتجنب العالم الكوارث، وتصدرت بعض البلدان والمدن في العالم حالة الأمن والأمان في مجتمعاتها بسبب الاستشرافات المطبقة والمتبعة في الأمن الوقائي، ومدينة ابو ظبي نموذجا. ليس كل ما ينصح به المستشرفون يؤخذ بنظر الإعتبار من قبل أهل الأمر والنهي والسياسيين، فحتى في أكثر دول العالم المتطورة تكنولوجيا تناقضت آراء السياسيين مع نصائح المستشرفين وضربت استشرافاتهم عرض الحائط!
من أجل أن يكون استشراف المستقبل مائزا وفعالا ومفيدا فلابد أن يتميز بالضوابط والشروط المطلوبة التالية:
أولا/ طبيعة المستشرفين والكفاءة المحورية: المستشرف المناسب هو من يحمل المهارات العلمية والعملية والفكرية والتخصصية إضافة إلى المهارات الحسية من حدس وبصيرة وذكاء وابداع وفطنة وقدرة على التصور. هذه المهارات الفردية تعززها مهارات العاملين في المشاريع المستقبلية مضافا اليها الكفاءات المحورية المتمثلة بالمعطيات النوعية والكمية المتاحة أمام المشروع المستقبلي من معلومات ووسائل وأدوات وقدرات وموجودات خاصة وبيانات وجداول وإحصائيات وذكاء اصطناعي وغيرها. كل هذه الأمور تعزز القدرة على الاستشراف وعلى وضع احتماليات الأحداث المقاربة للواقع المستقبلي للمشروع من جهة، والى وضع الحلول الرائدة للمتغيرات والعوائق في الواقع الجديد من جهة أخرى.
ثانياً/ استشراف السيناريوهات المستقبلية المتباينة: لابد للاستشراف المستقبلي أن يبني استنتاجاته على معطيات نوعية قائمة قابلة للتغيير وعلى سيناريوهات متعددة ومتباينة ممكنة الوقوع. فقد تبقى حالة المشروع الجديد ثابتة بلا تغيير يذكر عما كانت عليه الحالة سابقا، وهذا ما يسمى ب "السيناريو المستمر" اي أن حالة المشروع الجديدة تتشابه مع سابقتها. أو قد تسوء الظروف وتنتكس الحالة في بنية المشروع الجديد وهذا ما يطلق عليه " السيناريو المتشائم". أو أن الظروف تتجه نحو الأمام وتتحسن الحالة وتكون افضل من واقعها الحالي وهذا هو "سيناريو التفاؤل"، وفي حالات استثنائية ونادرة قد تحصل ظروف فوق العادة سواء أكان بالايجاب أو السلب فيحصل "سيناريو التألق أو سيناريو الكارثة". الاستشراف الناجع هو الاستشراف الذي يضع الخطط البديلة التي تتماشى مع جميع هذه السيناريوهات المتباينة طبقا للضرورة.
ثالثا/ تحديد الهدف: ماهو هدف الاستشراف المستقبلي ولماذا؟. سؤال يجب على المستشرف أن يجيب عنه وإن يوضح تفاصيل المهمة التي يسعى إليها، إذ عليه أن يعطي تعريفا للهدف ويبين السبل والوسائل الموصلة اليه. الاستفاضة في البحث عن سبل الوصول إلى الهدف مهمة رائدة وضرورية فمن خلالها نستطيع أن ندرك الصعوبات المستقبلية التي تواجهنا قبل تحقيق الهدف من جهة، والى محاولة معالجة الإشكالات المستقبلية المحتملة والتحضير لها من جهة أخرى.
رابعاً/ تبادل الرؤى والأفكار: استجماع الرؤى المتقاربة والمتضاددة المنبثقة لاستشراف أمر معين هو فعل ضروري من أجل الوقوف على الإشكاليات والعيوب المحتملة لمشروع المستقبل. اليقظة والحذر والتعمق في الدراسة والفهم وإيجاد الحلول البديلة أمام أحداث غير متوقعة هو واجب وشرط من شروط الاستشرافات الناجزة. المستشرف المسؤول يجب ألا يتعنت لرأيه الخاص بل يستأنس بآراء الخبراء الآخرين ورؤاهم المخالفة، كما عليه الاستئناس بالخبرات الأجنبية من خلال حضور المؤتمرات العالمية وما يستجد من معلومات في مجال اختصاصه كي لا يكون بعيدا عما يدور حوله من متغيرات ومستجدات في حقل اختصاصه وموضوع استشرافه. كما ينبغي على المستشرف الحاذق دراسة تاريخ الوقائع من أجل تجنب الأخطاء السابقة وعدم تكرارها مستقبلاً.
خامساً/ الحيادية: الاستشراف يجب أن يكون حياديا في التحليل والاستنتاج والا تتأثر قراراته لأسباب شخصية أو نوازع سياسية أو عرقية أو عقائدية أو غيرها، كي تكون محصلة الاستشراف نقية من التحيز والميول العاطفية وتبقى بناءة وموجهة ومفيدة.
سادساً/ الشمولية: الاستشراف المستقبلي الناجع هو الذي يتدارس جميع الجوانب المحيطة بالمشروع المستقبلي على اختلاف أنواعها سواء أكانت سياسية أو مالية أو اجتماعية أو غيرها. فأي متغيرات في الجوانب المحيطة بالهدف قد تؤثر مستقبلاً على سيرة المشروع وحيثياته ومستقبله. وضع الخطط البديلة للمتغيرات الجانبية يعتبر مهمة رائدة من مهام الاستشراف الرشيد.
بعد كل ما ورد من مستلزمات ضرورية لاستشرافات ناجزة قد يطرح السؤال نفسه! هل الدولة العراقية واعية على أهمية استشراف المستقبل في مؤسساتها؟ وهل استشرفت مستقبل خططها الستراتيجية قبل تنفيذها؟ وإن استشرفت فبمن استعانت!؟ ام أن المستشرف هو نفسه الذي يقرر وينفذ كي يختصر!؟.
اضف تعليق