عزوف الناخب العراقي عن التصويت وعن إبداء الرأي في الانتخابات البرلمانية الأخيرة، يجعل احتمالية عزوفه مرة أخرى عن هذه الانتخابات المحلية أمرا واردا، مما يجعل نتائجها غير معبرة وغير مستقرأة لطبيعة الحكومة البرلمانية القادمة. كما أن إمكانية عدم مشاركة التيار الصدري في هذه الإنتخابات المحلية يضيف سببا آخر...
هل ستجري الانتخابات المحلية (مجالس المحافظات) في الموعد من المحدد من قبل الحكومة، وما هو تأثيرها في خارطة القوى السياسية؟ وكيف يمكن قراءة التحالفات الانتخابية المعلنة وانعكاسها على طبيعة السلطة والنظام السياسي؟
بدأت منذ حين الإجراءات الأولية لحملة الإنتخابات المحلية لمجالس المحافظات في العراق حيث حدد يوم 18 كانون اول" ديسمبر" لهذا العام موعدا لهذه الانتخابات. تجري هذه الانتخابات بعد قطيعة املتها الظروف السياسية أدت إلى تجميد مجالس المحافظات من قبل البرلمان العراقي عام 2019 عقب أحداث واحتجاجات حركة اكتوبر "تشرين".
للانتخابات المحلية في دول العالم الديمقراطي دلالات ومعاني ومن أهمها هو جس نبض الشارع ومعرفة قناعات الناس ومدى رضاهم عن عمل الحكومة القائمة التي تمارس سلطتها منذ حين. كما أنها تستشرف نتائج الانتخابات التشريعية أو الرئاسية القادمة ونوع وطبيعة الحكومة الجديدة التي أما أن تكون حكومة معارضة او انها تجديد عهد للحكومة القائمة.
لكن من الصعب الاستنتاج والأخذ بهذا الاستقراء في الإنتخابات المحلية في العراق لتحديد هوية الحكومة الجديدة القادمة لأسباب كثيرة أهمها:
عزوف الناخب العراقي عن التصويت وعن إبداء الرأي في الانتخابات البرلمانية الأخيرة، يجعل احتمالية عزوفه مرة أخرى عن هذه الانتخابات المحلية أمرا واردا، مما يجعل نتائجها غير معبرة وغير مستقرأة لطبيعة الحكومة البرلمانية القادمة.
كما أن إمكانية عدم مشاركة التيار الصدري في هذه الإنتخابات المحلية يضيف سببا آخر لضعف دلالتها. لكن لو تبدلت الصورة واتسعت نسبة المشاركة الجماهيرية في هذه الإنتخابات لسبب أو لآخر، لأصبح الاستقراء أكثر وضوحا طبقا للنتائج التي تعبر عن حقيقة الرأي العام للناخبين. مهما يكن من أمر وبغض النظر عن حصول هذه الإنتخابات في وقتها المحدد لها أم لا، فإنه من الواضح وجود تحديات كبيرة وامتحان صعب ينتظرها سواء أكان ذلك في فترة قبل الانتخابات او بعدها مباشرة. أهم هذه التحديات نوجزها بما يلي:
أولا/ أزمة الثقة: تضاءلت ثقة المواطن العراقي في الإنتخابات المحلية والتشريعية بشكل كبير بعد أن تكررت تجارب مريرة لم تحقق له طموحاته وإراداته في حياة مستقرة هانئة تتوفر فيها ملستزمات العيش الضرورية من خدمات عامة وبنية تحتية سليمة واستقرار وأمن وأمان. التاريخ الإداري الرديء في إدارة المدن والتهم الموجهة للمسؤولين بالابتزاز والفساد، وعدم إنجاز المشاريع التنموية الضرورية المخصصة ضمن خطط الموازنة المالية للدولة وغيرها من ارهاصات مزمنة، لم تترك لدى الناخب العراقي زاوية أمل ينظر من خلالها بعدما تعمقت تجاربه السلبية حد الخيبة، فكم تبدلت الوجوه والنهج ثابت!.
أزمة الثقة هذه بين المواطنين والشخصيات السياسية الكلاسيكية لم تتغير بل تطورت وازدادت مع الزمن فشملت كل وجه سياسي قديم او جديد سواء أكان صالحا ام طالحا. هذا التصور شبه الشمولي بشحة وجود سياسي وطني ومصلح حقيقي، خيم على رؤى الكثير من العراقيين الذين عزفوا عن المشاركة في أي انتخابات ومهما كان نوعها أو إسمها، حيث يرونها غير مجدية ولن تحقق فحوى الشعارات المرفوعة!
ثانيا/ تعدد الأحزاب والتحالفات والكتل: في أكبر دول العالم واعرقها ديمقراطيا تكون الأحزاب المتنافسة على السلطة لا تزيد عن عدد الأصابع. في أمريكا على سبيل المثال لا الحصر، يتنافس دائما على السلطة حزبان رئيسيان وهما الحزب الجمهوري والحزب الديمقراطي. وفي بريطانيا يتنافس حزب العمال مع حزب المحافظين على السلطة بشكل عام، فيتناوبون في حكم البلاد ديمقراطيا مما يسهل خيارات المواطن وتوجهه من جهة، ويوضح كنه المنافسة بين الفرقاء السياسيين ويحدد معالمها من جهة أخرى.
في العراق المنقسم على نفسه والمحكوم بأقاليمه الثلاثة، يبلغ عدد الأحزاب والكيانات السياسية فيه الى ما يشارف الـ "281" حزبا وكيانا. كما يصل عدد التحالفات السياسية القائمة فيه الى "53" تحالف، والأرقام في تمدد واتساع مستمر بتمدد الزمن واتساعه!. أمام هذا الكم الهائل من الأحزاب والتوجهات يضيع الناخب العراقي ويغرق، فكيف له أن يلملم أفكاره ورؤاه في خضم هذا السيل الجارف الذي اختلط فيه الحابل بالنابل والصالح بالطالح!؟.
هذا التشعب الهائل في الخيارات يخلق حالة من الفوضى والتشتت في الاتجاهات والأفكار والارادات، ويجعل مهمة التوافق السياسي بين الفرقاء أمرا صعبا مما يحجم السلاسة في الحكم ويعقد الحالة السياسية ويجعل مردوداتها سلبية على المواطنين ومصالحهم بشكل عام.
ثالثا/ الإرباك وعدم الإستقرار السياسي: التحالفات بين السياسيين ثم الانقضاض عليها، والانقسامات في الأحزاب والتصدعات التي تحصل في الكيانات المتآلفة، أصبحت سمة من سمات الوضع السياسي في العراق. ففي كل تجربة سياسية جديدة وانتخابات يبرز التصدع في التحالفات السياسية.
حالما أعلنت مفوضية الانتخابات موعد الانتخابات المحلية وفتحت ابواب الترشح، بدأت الكيانات المتالفة سياسياً دخول حلبة السباق الانتخابي فرادا! فقد أعلن رئيس "ائتلاف دولة القانون" السيد نوري المالكي خوض انتخابات مجالس المحافظات بقائمة منفردة مبتعدا عن باقي مكونات "تحالف الإطار التنسيقي"، مما يوحي ذلك بتغليب كفة الذات والانقضاض على الفريسة بانفراد! بنفس السياق يرجح أن يخوض رئيس تحالف "تقدم" السيد محمد الحلبوسي بمفرده هذه الانتخابات المحلية. كذلك الحال لدى رئيس تحالف "السيادة" السيد خميس الخنجر واخرين مثل السيد جمال الضاري رئيس "المشروع العربي" وتحالف الأنبار وغيرهم من السياسيين العرب والاكراد، في دخول هذه الانتخابات فرادا والهدف واضح الا وهو الاستحواذ على القدح المعلى "كرسي المحافظ" او مساعديه على أقل تقدير، اي انه سباق بين الشركاء والحلفاء من أجل المركز المتقدم.
هذا من جهة ومن جهة أخرى يبقى الغموض مخيما على موقف السيد مقتدى الصدر بشأن المشاركة أو عدمها في هذه الانتخابات المحلية. عزوف السيد الصدر ومؤيديه عن المشاركة بهذه الانتخابات يعتبر بحد ذاته خلل انتخابي واضح لان ذلك يعني تحجيم عدد هائل من الناخبين عن حقهم باختيار مرشحيهم في مجالس المحافظات. هذا يعني بأن من توكل له مهام إدارة المحافظات لا يملك الحق في تحمل مسؤولية تحقيق ارادات الثقل الجماهيري المناطة به.
رابعاً/ غياب المشروع الوطني: المنافسات الإنتخابية محلية كانت أو تشريعية لا تحمل مشروعا وطنيا واضحا، ولا تعتمد على ايديولوجيات وأفكار محددة ولا على أهداف ومشاريع مشتركة بإقامة ثورة إصلاحية على واقع مزري. إنما جوهر التنافس يكمن في جمع الأصوات والفوز الإنتخابي دون العمق الاستراتيجي والفكري والعملي الذي يهدف إلى البناء والتغيير.
يلعب السياسيون في ساحات المال والسلطة والتضليل بدلا من ساحات الصدق والكفاح والوطنية. يرفعون شعارات باهرة ويرتكبون أخطاء كافرة! وهذا ما يفسر حقيقة التحالفات والتآلفات السياسية التي تقوم على أسس تقاسم الفائدة وليس تقاسم الجهد والفضيلة والعطاء، حيث ترى سرعة انهيارها واندثارها حينما تنتفي الحاجة وينتهي الدور.
دون مشاركة جماهيرية ناجزة تمثل جميع أطياف الشعب العراقي في الإنتخابات المحلية القادمة أو أي انتخابات تشريعية على المدى المنظور والبعيد، سيظهر الخلل ويدوم الارتباك وتبقى الديمقراطية جسدا بلا روح وتبقى المعاناة قائمة ويتطور الضجر حد الانفجار!
اضف تعليق