هناك الكثير من الوسائل التي تساعد وتُسهم على إتمام هذه المهمة بنجاح، ومنها المنابر الدينية، والإعلامية، والمنتديات الثقافية، ومنظمات المجتمع المدني، وحتى المجالس والدواوين العشائرية والمحافل الاجتماعية، إضافةً إلى استغلال الوازع الديني، والأخلاقي، والعرف الإجتماعي لدى المجتمع، لمنع الأفعال والتصرفات غير الحميدة، وفي المقدمة منها ظاهرة الفساد...

شهدت البلاد بعد عملية التغيير استحداث العديد من هيئات ومؤسسات العدالة الانتقالية، لمعالجة التركة الثقيلة التي خلفها النظام المباد، وفي مقدمة تلك الهيئات كانت الهيئة الوطنية العليا لاجتثاث البعث، والتي سُميت لاحقاً بالمساءلة والعدالة. وكان استحداث هذه الهيئات والمؤسسات من متطلبات العدالة الإنتقالية التي تتطلبها المرحلة الانتقالية، والمتمثلة بالانتقال والتحول من النظام الشمولي القمعي إلى النظام الديمقراطي التعددي، المفترض تحقيقه بعد عملية التغيير.

وما أحوجنا اليوم إلى استحداث مثل هكذا مؤسسات وهيئات وطنية لمعالجة جائحة لا تقل خطورة وقساوة عن كل الجائحات والمُلمات، التي ألمت بهذه الأمة، ونعني بها جائحة الفساد، بعد أن تحول هذا الفساد بجميع أشكاله ومُسمياته إلى وحش متعدد الرؤوس، وقد حفر له خلال سنوات جذوراً عميقة في مؤسسات ودوائر الدولة، إلى الدرجة التي لا يمكن معها كبح جماح هذا الوحش، فضلاً عن اقتلاع جذوره.

وبما أن الأمر بهذه الخطورة، لذا يتطلب البحث عن إجراءات وآليات جديدة ومُستحدثة، بعد ان عجزت كل الأساليب والإجراءات القديمة لمواجهة هذه الظاهرة الخطيرة. ومن تلك الإجراءات التي نراها مناسبة في هذه المرحلة هو استحداث هيئة وطنية عليا لاجتثاث ومحاربة الفساد، تأخذ على عاتقها وضع الأسس الموضوعية، العلمية والعملية منها، لإجتثاث جائحة الفساد، بعد أن أخذت هذه الجائحة ومع مرور الوقت تنشطر أميبياً، لتتحول إلى مفاهيم قيمية، وسلوكيات اجتماعية لدى البعض.

ولهذا يجب أن تكون الإجراءات المُتخذة من قبل هذه الهيأة المُفترضة غير تقليدية وغير مطروقة، فقد تحصنت حيتان الفساد بقلاع حصينة لا يمكن اختراقها بالطرق التقليدية، بدليل أن جميع الإجراءات والخطوات المُتخذة سابقاً لمكافحة ومحاربة الفساد لم تفِ بالغرض، أو تحقق الآمال والأهداف المرجوة، التي كانت تُعول عليها. على أن تُعالج هذه الإجراءات العوامل المُسببة للفساد وليس الأعراض الناتجة عنه.

ونعتقد أن طريق مكافحة الفساد اجتماعياً يبقى الطريق المُختصر، الذي يمكن سلوكه، على اعتبار ان البيئة الأجتماعية هي الوسط المثالي الذي يمكن من خلاله انتقال وتمدد الظواهر الإيجابية والسلبية داخل المجتمع.

ولهذا علينا استهداف وتجريم الفساد اجتماعياً، قبل أن يكون هذا الاستهداف قانونياً، من خلال نبذ هذا السلوك المشين، واعتبار ظاهرة الفساد خللا بنيويا، اجتماعيا وسلوكيا، وعلى الجميع محاربة هذه الظاهرة، وبالمقابل إشاعة المفاهيم، التي تدعو إلى قيم النزاهة، وتحفيز الحس الوطني في النفوس.

وهناك الكثير من الوسائل التي تساعد وتُسهم على إتمام هذه المهمة بنجاح، ومنها المنابر الدينية، والإعلامية، والمنتديات الثقافية، ومنظمات المجتمع المدني، وحتى المجالس والدواوين العشائرية والمحافل الاجتماعية، إضافةً إلى استغلال الوازع الديني، والأخلاقي، والعرف الإجتماعي لدى المجتمع، لمنع الأفعال والتصرفات غير الحميدة، وفي المقدمة منها ظاهرة الفساد. ولعل أخطر ما يمكن خشيته في هذه المرحلة، هو أن يتم التعامل مع هذه المفاهيم الفاسدة كأمر واقع، وأن تتحول إلى بديهيات وأعراف اجتماعية يستوجب التأقلم والتعايش معها، وهذا ما تعمل عليه اليوم وتروج له أكثر من جهة، على اعتبار أن وجودها واستمرار بقائها ارتبطا عضوياً مع وجود وبقاء تلك المفاهيم وما نتج عنها.

لذا فإننا بأمس الحاجة إلى انتفاضة كبرى ضد الفساد والمُفسدين، للتخلص من هذه التركة الثقيلة التي تنوء بها مؤسسات ودوائر الدولة، بعد أن تحول الفساد من ظاهرة إلى ثقافة، والى عقيدة يعتنقها البعض. وتبقى مهمة مكافحة الفساد وإجتثاثه، مسؤولية وطنية تضامنية.

.............................................................................................
* الآراء الواردة في المقال لا تعبر بالضرورة عن رأي شبكة النبأ المعلوماتية.

اضف تعليق