المنتدى نفسه ترصّع سطحه بقبة جميلة منقوشة بخطوط عربية ملونة تبدو للبعيد أنها تضم تحت سقفها ولياً من الصالحين ولكنها في الواقع صالة ثقافية، فالقبة هي إحدى العلامات التي تميز القيروان بل عموم تونس عن غيرها مثلما هي استانبول في تركيا التي توصف بأنها مدينة المآذن لما تضم...
فيما مضى من الأعوام كان المواطن العراقي يتاح له وبشق الأنفس السفر الى دول عربية هي أقل من أصابع اليد الواحدة، وليس له أن يسافر إلا بعد أن يجتاز عتبة دائرة أمن مدينته وينال تزكيتها، وبعد عام 2003م وانهيار نظام صدام حسين، انهارت معها جدران غير قليلة وتفتحت مغاليق الحدود والسدود وصار للمواطن العراقي أن يسافر الى عشرات البلدان عربية وغير عربية إلا بعض البلدان العربية التي مازالت إلى يومك هذا تستصحب وضعية ما قبل سنة 2003م، وبعضها عادت واغلقت بوابة سفر العراقيين واشترطت عليهم الطلبية أو الفيزا وبشروط.
لقد زرت تونس للمرة الثانية في الفترة 14 إلى 21 تشرين الأول اكتوبر سنة 2022م، وفي الأيام 15 إلى 18 منها احتضن فندق بِل آزور (Bel Azur Hotel) الواقع في حي أسعد بن فرات بمدينة الحمامات ثلة من المثقفين والأدباء والشعراء من بلدان عربية مختلفة جمعهم (مهرجان نور تونس للثقافة والإبداع) تحت شعار (بالحب والثقافة تُبنى الأوطان) أشرفت على عقده مؤسسة النور للثقافة والأعلام العراقية ومقرها مدينة مالمو في السويد بريادة الأديب أحمد الصائغ.
كان المهرجان بأيامه القلائل والتنقل بين مدن تونس مثل العاصمة تونس والمنستير والقيروان والمرور عبر مدينة سوسة فرصة طيبة للخروج بحصيلة من المعلومات والحقائق والمحكيات الشعبية التراثية والعودة الى مثوى الإقامة بجملة من الهدايا المعرفية والتوثيقية التي نحب أن نهديها لمن يقرأ هذه الأسطر، كما نقرأ لآخرين بشغف وهم يهدون إلينا من أدب الرحلات ما رأته عدسات عيونهم المبصرة والباصرة.
وفي هذه العجالة أنقل لكم بعضاً مما رأيت وسمعت، لأن فيها إضافة إلى المعرفة تصحيحاً لما هو قابع في الذاكرة على غير مصداقه الأصل.
الخضراء بالقباب
منذ أن درسنا الجغرافية في مدارس الإبتدائية، كان السائد عن تونس وصفها بالخضراء، والخضراء كما هو المتبادر إلى الذهن هو لون المزروعات من نجم وشجر، وهو أمر طبيعي لأن تونس رغم ساحلها البحري الطويل وامتداداتها الصحراوية فإن الله أنعم عليها بمساحات خضراء واسعة، مثلما هي مدينة البصرة الموصوفة بالفيحاء لوسعتها والغناء بكثرة نخيلها، فالوصف هو من سنخ الموصوف.
وصارت الخضراء صفة ملازمة لتونس، ولكن ما أمكن التعرف عليه عن تونس من خلال الإحتكاك مع أهلها أن صفة الخضراء وإن كانت تونس هي خضراء فعلاً، هو وصف يعود إطلاقه إلى أيام الإحتلال الفرنسي لتونس في السنوات (1881- 1956م)، ومن أطلق عليه هم الطيارون الفرنسيون الذي كانوا يجوبون سماء تونس حيث كان شعبها يرزح تحت الإحتلال، فعندما استخدمت فرنسا الطائرات لأول مرة وانطلقت في سماء تونس فإن أول ما لفت أنظار الطيارين هو كثرة القباب المنتشرة في المدن التونسية للمساجد والجوامع ومراكز العبادة وأولياء الله الصالحين، غلب على أكثرها اللون الأزرق لمن يراها عن قرب وتميل الى الخضرة من مسافات بعيدة، وهكذا بدت تونس للطيارين الفرنسيين مدينة خضراء بقبابها الكثيرة فوصفوها بتونس الخضراء، فهي خضراء إذن بقبابها إلى جانب أشجارها.
ومما رأينا في هذه الرحلة الثقافية والرحلة العائلية التي سبقتها في كانون الثاني يناير 2018م، أن بناء القباب وإقامتها ليس منحصراً بأماكن العبادة ومراقد الأولياء، بل انسحبت ثقافة القباب إلى مراكز الثقافة والأدب والمسرح والفن والمنتديات والمدارس والكتاتيب، وهذا ما رأيناه في زيارتنا إلى مدينة القيروان يوم الخميس 20/10/2022م، وهي رحلة استكشافية جمعتني بالأدباء من بني بلدتي الروائي والشاعر الأستاذ علي لفتة سعيد القادم من كربلاء المقدسة، والناقد والتوثيقي الأستاذ حمدي العطار القادم من بغداد، والإعلامي والتوثيقي الأستاذ علي عباس التميمي القادم من النجف الأشرف بمعية الأديبة التونسية الروائية حبيبة المحرزي، وفي هذه المدينة التاريخية التي يعود تمصيرها إلى سنة 50 للهجرة تسلقنا سطح منتدى حنين الثقافي الذي يديره الشاعر معز بن محمد المحظي القيرواني المولد سنة 1979م، والواقع خلف جامع القيروان مباشرة فتراءت لنا قباب المدينة على كثرتها، بل إن المنتدى نفسه ترصّع سطحه بقبة جميلة منقوشة بخطوط عربية ملونة تبدو للبعيد أنها تضم تحت سقفها ولياً من الصالحين ولكنها في الواقع صالة ثقافية، فالقبة هي إحدى العلامات التي تميز القيروان بل عموم تونس عن غيرها مثلما هي استانبول في تركيا التي توصف بأنها مدينة المآذن لما تضم من آلاف المآذن والقبب.
هنا ذو الفقار وذو القرنين
يزخر التراث الشعبي التونسي بحكايا وأساطير هي أقرب للواقع، ولكن سيرة التاريخ لا تسعف الحكاية حتى ترقى إلى مصاف الحقيقة، غير أنها تظل محفوظة في الذاكرة أو في كتب التراث، ربما تبقى عالقة في الذهن ما دارات الأيام وربما تناساها الجيل الجديد وصارت من ماضي التراث المنسي.
جمعتني مائدة طعام العشاء أثناء إنعقاد مهرجان نور تونس في فندق بل آزور الذي نزلنا فيه بالأديب الأستاذ علي لفتة سعيد واستاذة اللغة الإنكليزية الأديبة التونسية سهام مصطفى الشريف، وأثناء تناول الطعام بادرتنا السيد الشريف بالقول: أعرف أنكم من العراق، وبهذه المناسبة سأقص عليكم حكاية شعبية عالقة في ذهني منذ الطفولة وكنهها نسمعها من آبائنا وأجدادنا ولم يعد الجيل الجديد يسمعها أو يعرف عنها شيئاً، حكاية تتعلق بسيدنا علي بن أبي طالب وسيفه البتار "سيف ذو الفقار"، هذه الحكاية على علاقة مباشرة بمنطقة جبل بوقرنين القريب من العاصمة تونس وهو عبارة عن مرتفع جبلي من قمتين على بعد نحو 18 كيلاً جنوب شرق العاصمة تونس وتقع في سفحه مدينة "حمام أنف" التي تضم عيني ماء حار وغابة غناء.
تقول الرواية الشعبية كما هي في ذاكرة الشريف أن الجبل كان مستوياً وأثناء حركة الجيش الإسلامي في نشر الإسلام في أفريقيا وكان يقوده آنذاك سيدنا علي (ع) عمد بسيفه البتار ذو الفقار إلى فلق الجبل فلقتين فتكون الوادي والقمتان مما سهَّل حركة قطعات الجيش الإسلامي نحو عمق شمال القارة الأفريقية.
بالطبع لم يسجل لنا التاريخ أن الإمام علي (ع) زار تونس أو شطر الجبل فصار جبل بوقرنين، كما تضيف الأديبة الشريف، ولكنها من المحكيات الشعبية التي تبين العلاقة التاريخية بين الشعب التونسي المسلم وخليفة المسلمين الذي نزل به النداء السماوي: (لا فتى إلا ولا سيف إلا ذو الفقار) كما نقل إبن الأثير في كامله: 2/154 وغيره عن مجريات معركة أحد سنة 3 للهجرة، وسجلها بقوافيه الشاعر حسان بن ثابت الأنصاري الخزرجي المتوفى سنة 54 للهجرة:
جِـــبريلُ نَادى مُعــــلِنا *** والنَّقعُ ليسَ بِمَنجَــــلي
والمُسلمُونَ قَدْ أحْدَقُوا *** حَــــولَ النَّبيِّ المُــرسَلِ
لا سَيــفَ إلاّ ذُو الفَقَار *** وَلا فَــــتـــى إلاّ عَــــلِي
وبتعبير السيدة الشريف: إن جداتنا كنا يحكين هذه القصة للصغيرات من أجل التعريف بالإسلام ونشأته والتعريف بنبي الإسلام محمد (ص) وبقادته وبطولات سيدنا علي (ع) وتحبيبها إلى نفوس الأطفال.
وخلال مسيرنا من تونس العاصمة متجهين نحو مدينة القيروان جنوباً رأينا على يسارنا الجبل وقمتيه وعلى سفحه تقع مدينة الزهراء.
وهنا لابد من الإشارة إلى أنَّ "ذو القرنين" هي إحدى كنى الإمام علي (ع) كناه بها رسول محمد (ص) حيث جاء في تذكرة الخواص لإبن الجوزي: 4: (عن سلمة بن الطفيل عن علي (ع) قال: قال لي رسول الله (ص) إنَّ لك في الجنّة قصراً وإنَّك ذو قرنيها، وهذا الحديث أخرجه أحمد بن حنبل في المسند وأخرجه أحمد أيضاً في كتابٍ جمع فيه فضائل أمير المؤمنين رواه النسائي مسنداً)
وإذا كان جبل بوقرنين نُسب إلى سيف ذي الفقار وصاحبه ذو القرنين الكرار غير فرار، ففي مدينة سوسة التي تعتبر ثاني مدينة بعد تونس العاصمة شهرة وجوهرة الساحل التونسي فيها شوارع وأزقة تحمل مسميات مدن العراق المقدسة وأهل البيت (ع)، ففي وسط المدينة هناك زقاق كربلاء أو (نهج كربلاء) المتفرع من الشارع الرئيسي، وفي الدائرة الخامسة من حي الرياض بسوسة هناك شارع الحسين بن علي (ع)، كما وهناك مقهى بغداد، وهي أماكن كنت قد زرتها مع زوجتي يوم الأربعاء 17/1/2018م، ولم يتسن لنا في رحلتنا الثقافية الثانية التجول في المدينة وإنما كانت ممرنا للعودة إلى تونس العاصمة قادمين من مدينة المنستير القريبة منها.
وتلك مساكنهم
قادتنا رحلة العودة من مدينة القيروان التاريخية يوم الخميس 20/10/2022م الى مدينة المنستير التي خرج منها الرئيس التونسي السابق الحبيب بورقيبة، وحيث رحل الحبيب بقيت رقبته مرهونة بقبره الذي بقي شاخصاً إلى جانب قبور أبناء عشيرته من آل بورقيبة.
ويعتبر قبره من معالم المنستير لما فيها من عمارة، والشيء الجميل أن مرقده المحروس بقوة أمنية يفتح للناس في أوقات الدوام الرسمي ويغلق عصراً، فيه مقتنيات مكتبه الرئاسي ومقتنياته الشخصية من ملابس وأقلام وأوراق ونظارة وصور لقاءاته مع القادة والزعماء ورؤساء الدول، وأمثال ذلك، فالزائر لمرقده يعيش أجواء حياة الرئيس وما فعل وأنجز إن كان خيراً في نظر آخرين أو شراً في نظر جماعة آخرين، وهنا تذكرت قوله تعالى في الآية 128 من سورة طه: (أَفَلَمْ يَهْدِ لَهُمْ كَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِنْ الْقُرُونِ يَمْشُونَ فِي مَسَاكِنِهِمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لأُوْلِي النُّهَى) والآية 26 من سورة السجدة: (أَوَلَمْ يَهْدِ لَهُمْ كَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ الْقُرُونِ يَمْشُونَ فِي مَسَاكِنِهِمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ أَفَلا يَسْمَعُونَ).
فليس العبرة أن أحب الرجل أو أكرهه وإن كان ليس من جنسيتي أو بلدي، وإنما العبرة في أن الذي تضمه الأرض صار للأحياء عبرة لأولى النهى ولمن ألقى السمع وهو شهيد.
ومثلما وقفت عند مرقد الحبيب بورقيبة أقرأ سورة الفاتحة على أمواتي الذين رحلوا وأنا أتابع مقتنيات الرجل في لحده، وددت أن أستذكر المساكن والمشي فيها وأنا أتجول في قصور الرئيس الأسبق صدام حسين التي صارت نهباً للناس وصارت جدرانها مكباً لنفايات الخط الردئ، فهذا يستذكر عشيقته فيكتب اسمها على جدران قصر صدام في الحلة أو في غيرها من المدن العراقية التي تعج بالقصور الرئاسية وذاك يسجل حضوره بعربيته الركيكة، وهذا يشتم فلانا وذاك يسب علاناً، وهي جدران تعكس بالواقع ثقافة الزائر الخاوية على عروشها وعدم حرص الوزارة المسؤولة عن القصور ومقتنيات الحكومات البائدة.
تداخل الداخل بالخارج
ولعلّ واحدة من أفضال السفر، أنَّ المثقف والأديب العراقي الذي كان محكوماً خلال اربعة عقود بشرنقة الشبكة العنكبوتية الأمنية للسلطة، صار بإمكانه أن يعرض على الآخر من خارج أسوار البلد ما في دفتره من حروف وكلمات دون رقابة حزبية وأمنية ودون خوف أو وجل، وصار بإمكان الآخر أن يطلع على ما في جعبة المثقف العراقي وبالعكس وبشكل يحقق تلاقح الأفكار وتماهيها.
وبشكل عام فإن السفر بخاصة إذا كان في مهمة ثقافية يفتح عين المسافر وباصرته من نافذة البصيرة على مشاهد لا يراها إلا هو، وإن رآها غيره فليس له أن يستكنه ما في دائرتها كمن يراه بعين المثقف اللبيب والأديب الأريب، ولعلّ من محاسن السفر في العراق بعد عام 2003م أنه فتح الأبواب ووسع من مديات الآفاق لكي يتعرف ويتعارف المثقفون والعلماء الأدباء أصحاب البلد الواحد الذين تشتتوا في المهاجر والبلدان، فيطلع المهاجرون والمغتربون على أعلام الداخل ونتاجاتهم ويتعرف أعلام الداخل على ما أنتجه أقرانهم في الخارج، وهذه لعمري واحدة مفاتيح القوة والفلاح في زيادة الوعي والصلاح.
ومن آثار التلاقح الفكري حضورنا في بيت الرواية بمدينة الثقافة الواقعة في شارع محمد الخامس في تونس العاصمة عصر الأربعاء 19/10/2022 للإحتفاء بالروائي العراقي الأستاذ علي لفتة سعيد الذي فازت روايته المعنونة (حب عتيق) بجائزة توفيق بكار للرواية العربية في تونس، وفي هذه الإحتفالية التقت أسماء وأقلام عراقية جاءت من بلدان مختلفة، كان فيهم الدكتور باقر الشيخ محمد جعفر الكرباسي القادم من النجف الأشرف، والأديب أحمد الصائغ القادم من السويد، والمخرج والممثل باسم صباح الباسم القادم من السويد، والناقد والصحفي حمدي العطار القادم من بغداد، والناقد الدكتور خضير درويش القادم من كربلاء المقدسة، والناقد الدكتور هاشم المياحي القادم من الحلة (بابل)، والأديب الشاعر يحيى السماوي القادم من السماوة (والمقيم بين استراليا والعراق)، والأديب الشاعر ناظم فتيخان العبيدي القادم من هيت، إلى جانب أدباء ورواة وقصاصين من تونس وغيرها.
ومن آثار التلاقح الفكري والثقافي استعراضي في مهرجان نور تونس يوم 17/10/2022م لكتابي الصادر عام 2021م الموسوم (الإسلام والديمقراطية.. معالم المدرستين في التعددية السياسية)، وقراءة ما فيه بشكل مختصر ومن ثم التوقيع عليه وعلى كتابي الآخر (التعددية والحرية في المنظور الإسلامي.. دراسة مقارنة) وإهداؤها لثلة الأدباء والشعراء والناقدين والباحثين، فكانت الرحلة والمهرجان فرصة طيبة لكي يلتقي أعلام العراق على مائدة ثقافية واحدة وتتداخل الأفكار وتذوب الحواجز بين أبناء البلد الواحد.
في الواقع هناك الكثير من الصور والمشاهد التي يمكن عرضها، وبالتأكيد فإن كل مسافر ورحالة له أن ينظر إلى الصورة أو المشهد من منظاره، وهذه بعض صور سجلتها عدسة باصرتي، أرجو أن تكون ذات فائدة وعبرة واعتبار للكاتب والقارئ على السواء.
اضف تعليق