لم تكمل سفينة الموازنة الاتحادية العراقية ملء أقسامها وهي ما تزال واقفة في الشواطئ الأميركية تزداد حمولة قسم منها، ويفرغ لقسم الآخر، ثم يفرغ الممتلئ ويملأ الفارغ، حسب عمليات الاستقطاب السياسي والطلبات النيابية بالمناقلة بين فصول الموازنة التي مضى عليها ثلاثة شهور تحت قبة البرلمان...
لم تكمل سفينة الموازنة الاتحادية العراقية ملء أقسامها وهي ما تزال واقفة في الشواطئ الأميركية تزداد حمولة قسم منها، ويفرغ لقسم الآخر، ثم يفرغ الممتلئ ويملأ الفارغ، حسب عمليات الاستقطاب السياسي والطلبات النيابية بالمناقلة بين فصول الموازنة التي مضى عليها ثلاثة شهور تحت قبة البرلمان.
لم تستطع اللجنة المالية النيابية إصدار قرار موحد يفضي إلى اتفاق نيابي على إقرارها في البرلمان، بينما ما تزال السفينة واقفة في الشاطئ الأميركي لتحميل مليارات الدولارات من أموال النفط العراقية المخزنة في البنك الفيدرالي الأمريكي. فنحن لا نعاني من ضعف قرارنا السيادي وحسب، بل حتى أموالنا بيد واشنطن، وهذا ما يفسر قوة السفيرة الأميركية العمة إلينا رومانسكي، وتسلطها على الوزراء والساسة العراقيين.
وأموال النفط نفسها لا نستحصلها إلا بعد صراع طويل مع المهربين وعصابات الجريمة المنظمة التي يقودها ضباط برتب عسكرية عليا، بعضهم تحت سقف السجن لكنه ما يزال قوياً لدرجة أنه يجبر جهاز الأمن الوطني للظهور على شاشات التلفاز من أجل تبرير اعتقاله والتأكيد على معاملته بطريقة إنسانية.
نتحدث هنا عن عصابة التهريب التي اعتقل على أثرها عدد من ضباط شرطة الطاقة، أبرزهم غانم الحسيني، وغيره من حماة الوطن وثرواته، وبسبب جريمتهم في التهريب فقد العراق جزءاً من ثرواته النفطية التي يفترض أن تصل إلى مستحقيها وإلى مواقعها في الاستثمار لتتحول إلى مشاريع تخدم أبناء الوطن.
لكن ضباط الطاقة يعتبرون أنفسهم أفضل من غيرهم، ربما شعروا بالظلم بسبب جهودهم الكبيرة في حفظ أهم مورد من موارد العراق وهو النفط بينما يحصلون على فتات الراتب مقارنة بما أحرزه الملياردير العراقي الشاب نور زهير حينما استولى على مليارات الدنانير من أموال الهيئة العامة للضرائب ثم خرج مكفلاً وبدون أن يسجن أو يعاقب بعقوبة تتناسب وحجم الجريمة التي ارتكبها.
وخلال تواجدهم في السجن سمع الضباط المتهمون بتهريب النفط عن جريمة تزوير 70 ألف قطعة أرض في مدينة الرمادي، وتسوية القضية سياسياً رغم الهجمة الإعلامية والسياسية الشرسة في البداية لكنها ما لبثت أن اختفت بسرعة البرق بعد حصول اتفاق سياسي يقضي بركن الملف على أدراج الهيئات التحقيقية.
هل تحتاجون إلى ملفات كبرى إضافية لتتأكدوا من حجم المشكلة التي نعاني منها في العراق، هذه المشكلة اسمها الفساد، والتي أطلق عليها رئيس الوزراء محمد شياع السوداني جائحة الفساد، وكلامه دقيق جداً، فالموظف الصغير والمتوسط والكبير عندما يرى حجم التهاون في تطبيق القانون على ملفات الفساد يطمع بأن يحصل على صفقة معينة من هذا الفساد المتطاير في جميع أرجاء العراق.
لم لا والفساد صار أنواعاً حسب تصنيف المستشار المالي لرئيس الوزراء مظهر محد صالح، فقد صنفه إلى فساد صغير يقوم به بعض الموظفين الصغار والذين يتعاطون الرشوة بفئات العملة العراقية المعروفة، وفساد آخر كبير يجري بآلاف الدولارات وربما ملايين الدولارات، إلا أن الفساد الأخطر حسب تصنيف المستشار هو الفساد النظمي، أي أن تتحول عملية الفساد إلى عمليات منظمة تقف وراءها شخصيات تسير وفق تنظيم وتنسيق عالٍ المستوى يوزاري وربما أقوى من المنظومة الحكومية.
هذا النوع من الفساد لا ينطبق عليه توصيف الجائحة كما يقول رئيس الوزراء محمد شياع السوداني، لأن الجائحة يمكن القضاء عليها بمجموعة من الإجراءات، بل يمكن وصفه بالدولة العميقة الحقيقية في العراق، سوف تلتهم هذه الدولة العراق مثلما يلتهم الحوت كل ما يقع أمامه، ولن تبقي له باقية بشكله الحالي، ويتحول التعامل وفق السياقات القانونية نوعاً من أنواع التعامل الغريبة.
هل ما زلنا نتذكر مقدمة المقال؟
نعم كنا نتحدث عن سفينة الموازنة التي تقف على السواحل الأمريكية، لتحمل الدولارات قادمة إلى العراق، لكننا لا نعتقد أنها قادرة على إفراغ حمولتها في الخليج العربي، لان الحمولة كبيرة ولا يتحملها إلا ميناء الفاو العملاق وهو مشروع لم يكتمل بعد ولا نعتقد أن الحكومة قادرة على إكماله، الحوت هناك حيث يريد أكل المزيد من الترليونات العراقية.
والحكومة التي فشلت في إقناع نواب البرلمان بالتصويت على الموازنة ليست أهلاً للإشراف على تنفيذ مشروع عملاق مثل ميناء الفاو، ولا هي تملك الأدوات اللازمة لمحاربة الحوت.
والمشكلة أن ذات الحكومة التي فشلت هي وفشلت سابقتها بالحرب على دولة الفساد العميقة تتحدث بكل ثقة عن بناء مشروع طريق التنمية الاستراتيجي.
نسأل رئيس الوزراء أولاً، هل استطعت تعبيد المسارات الإدارية بحيث لا تتعرض لحوادث السرقة والفساد قبل أن تقوم بتعبيد طريق التنمية وبناء ميناء الفاو والحديث عن المشاريع الاستراتيجية.
الكلام سهل يا رئيس الوزراء، لكنك اليوم لا تحارب حوت الفساد، بل تعيش في بطنه، أخرج من بطن الحوت أولاً، ثم حاربه، واقتله، وبعدها انشئ مشاريعك في البحر والبر.
المشروع الاستراتيجي للعراق ليس ميناء الفاو ولا طريق التنمية رغم أهميتهما الكبيرة، مشروعك الاستراتيجي الحقيقي هو إخراج العراق من بطن حوت الفساد المنظم والمتعاظم يوماً بعد آخر.
تصور معي يا رئيس الوزراء كيف تستطيع دولتك حماية 200 ترليون دينار عراقي، وهي التي فشلت في حماية أواستعادة ثلاثة ترليون من نور زهير ورفاقه.
اضف تعليق