إن الحديث عما يعرف تاريخيا باسم (دولة على منهج الخلافة) أو (خلافة على منهج النبوة) أراد منه الذين اختلقوه وسوقوه سرقة الأضواء من (المهدوية) ومن فكرة المنقذ المنتظر، دون أن يلتفتوا إلى التعارض الحاد بينه وبين طرق حديث (خير القرون قرني ثم الذي يليه ثم الذي يليه).
ووفقا لحديث: "تكون النبوة فيكم ما شاء الله أن تكون، ثم يرفعها الله إذا شاء أن يرفعها، ثم تكون خلافة على منهاج النبوة، فتكون ما شاء الله أن تكون، ثم يرفعها الله إذا شاء أن يرفعها، ثم تكون ملكًا عاضًا فيكون ما شاء الله أن يكون، ثم يرفعها إذا شاء الله أن يرفعها، ثم تكون ملكًا جبرية فتكون ما شاء الله أن تكون، ثم يرفعها الله إذا شاء أن يرفعها، ثم تكون خلافة على منهاج النبوة، ثم سكت". فإن التاريخ الإسلامي، قسم إلى أربع حلقات غريبة، هي: النبوة.. الخلافة الراشدة.. الملك العاض.. ملك الجبرية.
وجعل الحديث (الخلافة على منهاج النبوة) حلقة قائمة بذاتها تأتي بعد انقضاء رابع الحلقات المذكورة، وهنا تم تسقيط المهدوية مشروعا وفكرا وعقيدة، ومعها سقطت جميع تلك الأحاديث التي تكلمت عن وجوب ظهور المنقذ المنتظر ولو بقي من عمر الدنيا يوما واحدا.! لسبب بسيط وهو أن المفروض بالخلافة على منهج النبوة أن تملأ الأرض عدلا كما ملأتها بعد موت النبي (ص)، إذ لا يستقيم ملء الأرض ظلما وجورا مع وجودها، وفي مثل هذه الحال لا داع لأن يتعب المنتظر (ع) نفسه ويخرج ما دامت هي قد تكفلت إصلاح الكون.! أما الإصرار على وجوب ظهور المنقذ ليملأ الأرض قسطا وعدلا فمعناه أن الأرض فعلا ستكون مملوءة بالسوء بسبب الحكام مهما كانت مسمياتهم وجنسياتهم، ووعاظ السلاطين، وإفتائيي السوء.
والغريب أن مشروع الحلقات الأربع بقي شبه معطل منذ مؤتمر السقيفة ولغاية سقوط الإمبراطورية العثمانية، لم يذكره أحد ولم يتكلم أو يسأل عنه أحد، ووفق المعطيات السياسية للمرحلة بعد سقوط آل عثمان، كان مقدرا لهذا المشروع الخطير أن ينطلق مباشرة بعد السقوط ؛ باعتبار أن الإمبراطورية العثمانية، تمثل الحلقة الأخيرة من حلقات التدرج الواردة في الحديث، فضلا عن كونها حسب زعم ورثة المشروع، تمثل الامتداد الطبيعي لمرحلتي الملك العاض وملك الجبرية، وهذا ما أشار إليه الدكتور علي محمد الصلابي بقوله: "بسقوطها، سقطت الخلافة الإسلامية".
فلهذا القول رابط بالحلقتين الأخيرتين من المشروع، لأنهم يزعمون أن معاوية بن أبي سفيان كان أول ملوك حلقة الملك العاض، والسلطان العثماني الذي أسقطه كمال أتاتورك كان آخر ملوك حلقة ملك الجبرية، فهؤلاء جميعا يمثلون سلسلة واحدة، وكلهم ينضوون تحت هذا المسمى. وكلهم يتدرجون بحكمهم للوصول إلى مرحلة الخلافة الأخيرة.
إن القوى العظمى وعلى رأسها الماسونية والإيرش وأمريكا؛ التي رحبت بهذا المشروع، وروجت له بالخفاء، أدركت أن الظروف الكونية عامة والظرف الخاص الذي تعيشه الأمة العربية لم يكونا يشجعان على إطلاقه بعد سقوط الإمبراطورية العثمانية، ولذا بقي خاملا في العلن، حيا في السر فقط، منذ عام 1916 ولغاية 2006 حيث أطلقته ممثلا بتنظيم القاعدة كتهيئة للمرحلة اللاحقة التي تمثل داعش مرحلتها الثانية، فداعش بدأت من حيث انتهت القاعدة بشكل مفاجئ لم يجلب الأنظار إليه، حيث كانت تصول وتجول في العالم كله، ثم فجأة اختفت ولم تعد تذكر إلا حينما يحتاج إليها المشرفون على المشروع، أما لماذا لم تُنهى كليا فذلك لكي تستخدم معادلا موضوعيا لحين إتمام السيطرة الكلية على جميع التنظيمات الأخرى، تحت مسمى داعش في مرحلة معينة من مراحل المشروع.
لقد كانت بيعة المجرم البغدادي خليفة مزعوما لكل المسلمين في العالم، هي اللحظة التي أعلن فيها عن آخر مراحل تنفيذ المشروع.
وبما أن كل ذوي الاختصاص يدركون أن الأعمال الإجرامية التي قامت بها داعش لا تؤهلها لشغل منصب الخلافة، فمعنى ذلك أنه لابد وان يكون هنالك بديل قد تم إعداده بشكل جيد ليتولى المرحلة النهائية للمشروع، ومن مؤهلات ومواصفات هذا البديل: أن له تجربة سابقة في القيادة، وذكرى لا تزال عالقة في عقول كل الذين يؤمنون بجدوى المشروع، بعد أن كانوا قد تنعموا بخيراته من قبل.
هذا البديل المقترح هو الجمهورية التركية، التي بذلت ماء وجهها لتنظم إلى الاتحاد الأوربي، ونفذت جميع مطالب الاتحاد بما فيها التحول إلى دولة علمانية منفتحة تماما مثل الدول الأوربية، ولكنها كانت تجابه بالرفض في كل مرة يطرح فيها أسمها للتصويت على انضمامها للاتحاد. هذا الرفض لم يكن بسبب وجود نقص في الإعدادات التركية بالتأكيد، فالاتحاد قبل الكثير من دول أوربا الشرقية في صفوفه؛ وهي لا تملك نصف ما تملكه تركيا من التاريخ والموقع الجغرافي الحساس والتركيبة البشرية والقرب من الوطن العربي وكثير من الميزات الحسنة الأخرى، وإنما كانت ترفض لأسباب أخرى تخص مشروعنا الذي نتحدث عنه، بمعنى أن القوى العظمى استغلت هذه المسألة لتطوع تركيا وتسد كل الخيارات بوجهها باستثناء خيار الإمبراطورية الثانية.
أما تركيا من جانبها فكانت مؤهلة للعب هذا الدور، فهي إلى الآن تشعر بذل الهزيمة التي حولتها من إمبراطورية كبرى إلى مجرد دولة من دول العالم الثالث، ولم تنس الثأر، كما لم تنس أطماعها الاستعمارية القديمة، ولم تنس أنها أفضل المرشحين لشغل هذا المنصب؛ بعدما مثلت الخلافة الإسلامية أسوأ تمثيل لمدة خمسة قرون متواصلة، دون أن يعترض على ذلك أحد من العرب أو من المسلمين الآخرين، ولذا كانت من جانبها تسعى بحذر للإفادة من هذا المشروع، وتوظيفه لخدمتها حينما تحين الفرصة، وكان حزب العدالة والتنمية التركي هو المنظر الحقيقي لهذا السعي الخطير، لكنه كان قانعا بقيادة تركيا والتحكم بها، لكنه بعد أن حصر بزاوية ضيقة نتيجة عدم فوزه بالأغلبية في الانتخابات الأخيرة، وجد أن ما ينقذه من هذه الهزيمة هو مشروع الخلافة على منهاج النبوة آنف الذكر، ولذا انطلقت في الآونة الأخيرة دعوات وتصريحات علنية يتبين من خلالها أن تركيا تسعى لإقامة الخلافة المزعومة، وتسعى لإحياء المشروع المعطل، وأنها ستجمع كل المسلمين بدولة واحدة يقودها الخليفة التركي المزعوم، وهي تلوح أنها الأقدر والأجدر بتحمل أعباء هذا المشروع الجبار، ولا يوجد في العالم الإسلامي كله منافسا لها، ولاسيما بعد أن كان لها دورا رئيسيا وفاعلا في تفتيت وتدمير أقوى البلدان العربية؛ التي كان من الممكن أن تتصدى لها أو تعترض على سعيها.
لكن ما مصير داعش بعد أن تحولت إلى قوة لا يستهان بها، وسيطرت على مساحات من العراق وسوريا؟
هل تصدر لها الأوامر بالانسحاب؟
أم تجبر على ذلك؟
ولمن يوكل أمر التصدي لها؟
وأين يذهب أفرادها؟
من يستقبلهم على أرضه وقد ولغوا في الدماء حتى الثمالة؟
هنا لا يفوتني أن أذكر أن إطلاق داعش لمشروع خلافة على منهج النبوة، جاء بأوامر من القوى العظمى التي أرادت للمشروع أن يرى النور وأن تتداول الجماهير الحديث عنه لكي لا يحدث عصفا ذهنيا حينما يُعلن العمل به رسميا، ولكن قادة داعش استأنسوا بالفكرة وراق لهم المشروع، فتمسكوا به؛ وهم يعتقدون أنه منقذهم الأوحد، وأن يأتي إطلاق القادة الأتراك تصريحات ضمنية بأنهم وحدهم المؤهلون لقيادة المشروع في هذا الوقت بالذات، فذلك يعني ـ بعيدا عن عشرات الاحتمالات الأخرى ـ أن صداما عنيفا مؤكدا سيقع بين الأتراك وداعش؛ التي تدعي هي الأخرى أنها تمثل هذه الخلافة، وأن هذا الخلاف سيدمر داعش لأنه يقطع عنها كل عون تحتاجه، فتموت ولكن بعد تدمير تركيا كليا، وتدمير اقتصادها، والوصول إلى درجة الفقر المدقع؛ الذي لا تستطيع معه أن تقود نفسها، لا أن تقود العالم الإسلامي!.
فهل ستصطدم داعش مع تركيا حليفتها الكبرى؟
هل يشكل التحرك التركي الأخير بيانا شبه رسمي، يعلن انتهاء دور داعش، وانتهاء لعبتهم القذرة؟
وهل هيئت الأجواء والظروف لتحل تركيا محل داعش؟
وهل تعني التصريحات التركية الأخيرة بداية مشروع جديد أكثر من داعش قدرة وقوة وخطورة وتأثيرا؟
أم أن اللعبة أكبر من تصوراتنا، وأن الأيام حبلى بالمفاجئات، وستلد ما لا نتوقع؟!
اضف تعليق