يجب في البداية أن نفرّق بين الثقافة الإسلامية، وبين العادات الاجتماعية؛ لأنه إذا لم نفرق بين هذين الأمرين فسنواجه مشكلة كبرى في تحديد وممارسة الثقافة الإسلامية، فكثير من الناس يتصورون أن هناك مجموعة من التقاليد هي من صميم الإسلام، وأن الخارج عنها يُعتبر خارجاً عن الإسلام، مع أن...
حينما نريد الحديث عن الثقافة الإسلامية المعاصرة يجب علينا أن نحدد تعريفاً للثقافة؛ لأن هناك ضبابية وعدم وضوح في معنى هذه الكلمة، ثم سنتكلم عن الثقافة الإسلامية بشكل عام، ثم الثقافة الإسلامية المعاصرة.
إن الثقافة تُعرف بتعريفين:
الأول: هي مجموعة من الاعتقادات والقيم التي تحملها الأمم، فهناك قيم ومعتقدات تحملها كل أمة، وقد تختلف أمة عن أخرى، وربما تعتبر عقيدة وقيمة ما مكرمة في أمة، وقد لا تكون كذلك في أمة أخرى، لكن مجموع كل ذلك يسمى (ثقافة).
الثاني: هي مجموعة من العادات والتقاليد التي تعتادها أمة من الأمم، أو شعب من الشعوب، أو مجموعة من المجموعات، وعملت بتلك العادات والتقاليد، وغالباً ما تكون عادات وتقاليد اجتماعية.
مثلاً: العرب كانوا ولازالوا يحملون صفة الكرم، ويُعدّ الكرم من القيم العربية الأصيلة قبل الإسلام، وبقيت هذه الصفة في المجتمع الإسلامي؛ لذا يُعتبر الكرم من صميم الثقافة العربية قبل الإسلام وبعده.
وحينما نذهب إلى بعض المجتمعات الأخرى سنرى أنهم يجعلون القيمة للمادة، فكل شيء ينظرون إليه من منظار مادي بحت، فالمادة والأمور المادية تُعتبر ثقافة عندهم؛ ولذلك فالكرم والضيافة وغيرهما لا تُعتبر ثقافة أو قيمة عندهم.
مثال آخر: إن الحجاب من الضرورات الإسلامية، وكل مسلم يعرف أن الحجاب واجب، ولكن كيفية هذا الحجاب تختلف من مجتمع إلى آخر، فمثلاً: يتمثل الحجاب بالعباءة العربية في أحد المجتمعات، وفي آخر بـ (الشادور)، وفي مجتمع ثالث بشكل آخر، لكن يبقى الواجب والمطلوب هو الستر، ولكن الكيفية تختلف. إذن، فالمصداق الخارجي لهذا الستر متعلق بالعادات والتقاليد الاجتماعية.
مثال الثالث: في مراسيم الزواج، ففي التشريعات الإسلامية نجد أن هناك مراسيم خاصة للزواج، ومنها: أن يكون هناك عقد بين الرجل والمرأة، وبالإضافة للعقد فهناك عادات وتقاليد قد تختلف من مجتمع لآخر، وهي تعود للثقافات المختلفة.
بين الثقافة الإسلامية والعادات
إن الثقافة الإسلامية التي نعنيها ليست هي العادات والتقاليد التي تحملها الأمم والشعوب الإسلامية، وإنما هي القيم التي أرساها القرآن الكريم، وبيّنها الرسول الأكرم (صلى الله عليه وآله) والأئمة الطاهرون (عليهم السلام).
وبعد اتضاح معنى الثقافة الإسلامية، نأتي إلى ما يُطلق عليه في العصر الحاضر بالثقافة الإسلامية المعاصرة، إذ نراها خليطاً من الثقافة الإسلامية ومن عادات وتقاليد المجتمعات الإسلامية، سواء رجعت تلك العادات إلى القيم الإسلامية أم إلى غيرها، فهي نتاج العادات القديمة، أو الطبيعة الجغرافية المؤثرة، أو النظم السياسية، أو التاريخ أو العِرق، أو غير ذلك.
لذا يجب في البداية أن نفرّق بين الثقافة الإسلامية، وبين العادات الاجتماعية؛ لأنه إذا لم نفرق بين هذين الأمرين فسنواجه مشكلة كبرى في تحديد وممارسة الثقافة الإسلامية، فكثير من الناس يتصورون أن هناك مجموعة من التقاليد هي من صميم الإسلام، وأن الخارج عنها يُعتبر خارجاً عن الإسلام، مع أن الحقيقة لا تعدو أنهم تركوا مجموعة من العادات والتقاليد وحسب.
وفي الوقت نفسه، فهناك مشكلة أخرى، وهي: أن يترك بعض الأشخاص بعض القيم الإسلامية ظنّاً منهم أنها عادات متخلفة لمجتمعات إسلامية، فالبعض أمره في تفريط، والآخر في إفراط، وعلينا أن نميّز بين الأمرين، ينبغي علينا أن نتكلم في عادات المجتمعات الإسلامية، ثم نبحث عن الثقافة الإسلامية الأصيلة، التي أرساها القرآن الكريم، وبينها الرسول الأكرم وآله (عليهم السلام)، ثم نفرز بين الأمرين، ونحدد الثقافة الإسلامية حتى لا نقع في الازدواجية، بين القيم الإسلامية وبين عادات وتقاليد المجتمعات الإسلامية.
تأثير البيئة
من الواضح أن الإنسان يتأثر ببيئته، وكما يقال: (الإنسان ابن بيئته)، فحين يتربى في مجتمع معين فسوف يتلقى ما يراه بالقبول ويتقبل ما يفعله، وخاصة عندما يرى أباه وأمه وأخاه وعشيرته ومجتمعه يتخذون سلوكاً معيناً، فيعتاد على ذلك، وليس عملياً فقط، وإنما سيتكون فكره من البيئة التي يعيش فيها، فعندما يعيش الإنسان في مجتمع ما فسوف نلاحظ أنه يعتقد بما يعتقده ذلك المجتمع، ويمارس ما يمارسه، فمن يولد في بيئة إسلامية عادة ما يكون مسلماً، والذي يولد في بيئة مسيحية عادة ما يكون مسيحياً، والذي يولد من أبوين يهوديين سيكون يهودياً. إذن، فتأثير البيئة لن يكون مقتصراً على الممارسة العملية الظاهرية، وإنما يؤثر على النشاط الذهني والقناعات الفكرية للإنسان، من حيث يشعر أو لا يشعر.
وعندما نأتي إلى النصوص الدينية، والسنة المطهرة فإن فهم النص قد يتأثر بالبيئة التي يعيش فيها الإنسان في كثير من الأحيان، فمن يعيش في مجتمع ما ربما يفهم النص بغير ما يفهمه من يعيش في مجتمع آخر. ولا نريد هنا الحديث عن استغلال بعض الأشخاص النصوص الدينية لأغراضهم، وإنما نريد الحديث عن طريقة فهم المجتمعات.
فقد ورد عن الإمام الصادق (عليه السلام) أنه قال: (لا يكون الرجل منكم فقيهاً حتى يعرف معاريض كلامنا)(1)، وهذا يعني أن الرجل لا يكون فقيهاً حتى إذا تعلم قواعد الأصول والأحكام واستنباطها، بل عليه أن يستنبط الحكم الشرعي دون خلفيات ذهنية مسبقة من بيئته أو مجتمعه، وأن لا تترك الكلمة الواردة من بيئته أو مجتمعه تأثيراً أو ظِلالاً عليه، بل عليه أن يتحرر عن تلك الظلال، فينظر إلى الكلمة كما هي، وليس بالمنظار الذي وضعته بيئته على عينيه وعقله.
إننا نلاحظ في كثير من الأحيان أن الإنسان يتصور أن إحدى الممارسات مقدسة، أو أحد الأعمال مقدس، وإنه من صميم القيم الإسلامية، والسبب في ذلك أنه عاش في مجتمع إسلامي محافظ ومتدين، ورأى ذلك المجتمع يمارس تلك العادة، فتصور أنها من صميم الدين، وحينما يرى الآخرين يتركون تلك العادة يتصور أنهم مارقون عن الدين؛ لذا فيجب علينا في المرحلة الأولى أن نتجرد من بيئتنا الاجتماعية التي ولدنا فيها، ومن تربيتنا التي تشكل حاجزاً يجب أن نرفعه عن عقولنا، ثم ننظر إلى النصوص الدينية وإلى سيرة الرسول الأكرم (صلى الله عليه وآله) والأئمة الطاهرين (عليهم السلام) بمنظار خالٍ من خلفيات تقليدية أو اجتماعية.
والحاصل: إن كثيراً من عادات المجتمعات الإسلامية مأخوذة من الإسلام؛ لأنه أوجد عادات في المجتمعات الإسلامية، فإذا كانت كذلك فنأخذ بها ونعتبرها ثقافة إسلامية، ليس لأن المجتمعات الإسلامية تمارسها، وإنما لأنها قيم أرستها النصوص الدينية.
وإذا لاحظنا أن تلك العادات ليست مأخوذة من النصوص الدينية، وإنما هي ممارسات اجتماعية يمارسها الناس، فإذا كانت ممارسات جيدة فلا بأس بها، ولكنها ليست مقدسة لدرجة أن مَن تركها يُعتبر مارقاً عن الدين، وأما إذا وجدنا أنها عادات ضارة وضد القيم الإسلامية الحقيقية فيجب أن ننتقل إلى مرحلة أخرى، وهي إصلاح الوضع في هذه المجتمعات.
اضف تعليق